الثلاثاء، 23 أبريل 2013

قراءة في فيلم ميكروفون


 


             منذ مدة، خرجت من غرفتي كي أستريح قليلًا من الدراسة. وما أجمل تلك الاستراحات، إذ تجد نفسك تبحث تلقائيا عن أي شيء جميل كي تطيل به مدة راحتك. هل الصدفة كانت وراء جلوسي قليلًا وراء التلفاز أشاهد مقطعًا من هذا الفيلم؟ أنا لا أومن بالصدف كثيرًا، لذلك فمن أول مشهد شاهدته، تخيلت تلك اللحظة التي سأكتب فيها تدوينة عن هذا الفيلم.

               حقيقة أستغرب أن تكون سماء الإبداع مرتفعة في السينما المصرية إلى هذا القدر، ربما هي ليست كذلك فعلًا، فدورة واحدة على قنوات الأفلام المصرية، تكاد تكون كافية كي تدمغ سينماهم تلك بإشارة (X) كبيرة. فالأسماء تتكرر في جل أفلامهم، ولا يوجد خصوصية للأدوار، فمن يبدع في دور ما، فهو قادر على الإبداع بأي دور كان. ويكفي ذكر اسم حسن حسني وعزت أبو عوف كدليل على ما أقول.

               هذا الفيلم، وبعض الأفلام الأخرى، هي الخيط الوحيد الباقي بين مجموعة كبيرة من الخيوط المتقطعة الأوصال. هي الشيء الوحيد الذي يهمس بأذنك أن لا تتعجل بالحكم. هي الشيء الوحيد الذي يجعلني متأكد بأن أولئك القوم لا زال لديهم ما يقولون، ولم تستنفذ صراعاتهم الداخلية كامل قواهم.

               الفيلم يتحدث عن ""خالد" (خالد أبو النجا) وهو يعمل كصحافي - أو لا أدري حقيقة، لأن هذه النقطة لم تكن واضحة تمامًا في سير الأحداث - مهتم بإبراز مواهب الـ "Underground"، أي الفرق المجهولة التي تغني في الإسكندرية، ويساعده في ذلك زميله في العمل، وبعض الأشخاص الذين التقاهم بالشوارع والمقاهي. وفي نفس الوقت تدور أحداث جانبية كثيرة، وهناك أبطال \ لا أبطال في الفيلم، لم يكن لهم دور – برأيي – إلا إبراز جانب من حياة الناس في الإسكندرية (كالبائع \ سارق أشرطة الكاسيت) الذي كان كل دوره في الفيلم هو الجلوس على حافة الطريق والإعجاب بالفتيات.

               يظهر جليًا دور المخرج في هذا الفيلم، وبصماته لا تخفى على أي متتبع للسينما. فالفيلم يتبع الأسلوب الحداثي بكامل أشكاله، فالأحداث لا تسير  في فلك واحد، بل تدور على عدة محاور، يربطها خيط شفيف. الكثير من التشظّي والبعثرة، لكني وجدت في هذا الكثير من الجمال أيضًا، فكل مشهد كان له خصوصيته وحميميته، بالأخص الحوار الذي دار بين خالد أبو النجا ومنة شلبي، والذي تقطّع إلى أجزاء كثيرة، كان تُبثّ على مراحل، انتهى آخرها مع انتهاء الفيلم تقريبًا.

               باعتقادي أن ما يميز فيلم عن آخر هو التفاصيل، وليس المشاهد الرئيسية، و "أحمد عبدالله السيد" هنا اعتنى أيما اعتناء بتفاصيل فيلمه، وقد أصر على أن يصبغ واقعية كبيرة على مشاهده حتى تكاد تخالها حقيقية جدا. وتجلت عظمة التفاصيل تلك لما برر خالد أبو النجا هدوئه الظاهري لحبيبته السابقة (منة شلبي) بقوله "أنه ليس بالضرورة أن يهزّ الإنسان رجله كتعبير عن توتره، فالحياة ليست بتلك البساطة كما الأفلام". لكنه في نفس الوقت كانت قدمه تتأرجح اضطرابًا.

               الأحداث سارت فوق أرض كبيرة من التناقضات، كانت تميل حينا إلى اليأس واللاجدوى من أي شيء، وحينًا آخر كانت نفحة تفاؤل تطغى على الأحداث، وأظن أن المخرج لديه الكثير من الرومنسية، فالمشاهد التي كان التفاؤل فيها طاغٍ كانت أجمل بمرات من تلك البائسة المتشائمة. وحتى تلك التي حاول أن يظهر فيها قسوة الظروف كانت تأخذ منحًا رومنسيًا أيضًا، فتجد تلك المشاهد تصور أمام البحر مثلًا، أو بمرافقة أغنية جميلة لأحد الفرق الموسيقية الكثيرة في الفيلم. وعلى الرغم من أن الفيلم انتهى نهاية حزينة ومخيبة للآمال، إلا أني أظن بأن "السيد" كان يريد لفت الأنظار إلى وجوب المحاولة، لأنها وحدها قادرة أن تقودنا إلى النجاح في النهاية، حتى وإن كانت الحكومة والشعب والأعين والألسن والحجارة والمقاهي وكل شيء ضدنا.

               الفيلم ثورة جميلة في مجال السينما، هو صفعة حقيقية للإخراج العربي، ومحاولة للنهوض بعيدًا. كنت قد شاهدت جزءا كبيرًا من الفيلم الأول للمخرج (هيليوبولوس)، وبعد مشاهدة هذا الفيلم، فبالتأكيد سأعود لمشاهدته مجددًا، أهنئ الممثلين وطاقم العمل على ما قدموه، رغم أن تهنئتي هذه جاءت متأخرة قليلًا. وبالطبع أكبر الإعجاب أرسله للمخرج على ما قدم.

                                                                                                                                      ن.ع.م.
                                                                                                                                03:10 صباحًا
                                                                                                                               22-04-2013




لو أنني كنت بطلًا في أحد الافلام

            لو أنني كنت بطلًا في أحد الأفلام، لما خشيت أن أبديَ لكِ حبّي، ولما خشيت من احتماليّة رفضكِ لهديّتي. لو أنّني كنت بطًلا في أحد الأفلام، لأحضرت ""بالونين" لنجوب بهما العالم. وحدنا، أنا وأنت وبعض الغيمات البيض. ربما كنّا لنزور يافا، يافا الجميلة الموجودة في الأغاني، ونهر النيل. ماذا؟ تريدين أن نتوقف قليلًا في القاهرة؟ ألا ترَيْنَ كم هي شاحبة وحزينة؟ لعلّنا نزورها في فيلمٍ آخر، لكن الآن لندعها تشبع بكاءً.

            في رأسي أمورٌ كثيرة، لا يحتملها فيلمٌ واحد، لذلك سأنتقي المشاهد التي أود تنفيذها بعناية. أرغب في أن أكون عازفًا، لكِ وحدكِ. أرغب في رؤية ذلك البريق في عينيكِ، لقد سمعت عنه كثيرًا في المسلسلات وحكايا الجدّات، لكنّي لم أشاهده حتّى الآن. هل لون عينيكِ هو السبب؟ ربما.

            سأعزف لكِ مقطوعة على آلة التشيلو، فهي شديدة البراءة، مثلكِ تمامًا. لا تستغربي من هذا الخيار، فأنا متعلّقٌ كثيرًا بشخصيّات الأفلام الّتي أحبّ. أحد تلك الشخصيّات كان عازف تشيلو حزين. أنا أعلم أنّه يشبهني، لكنّه يابانيّ. قولي لي، هل يكفي حبّي لليابانيين حتى أشبهه؟

            سنذهب بعدها إلى روما، لنحضر مسرحيّة أوبراليّة، أنا لا أعرف الإيطاليّة، وكلّ المسرحيّات الّتي شاهدتها في حياتي كانت كوميديّة، من ذلك النّوع الّذي يضحكك طوال مدة عرضها، ثمّ يلقي بك بعد أن ينتهيَ – غير آبهٍ – في غياهب الحزن. لا أريد لشكل المسرحيّة أن يتشوّه في داخلي، فهي مرتبطةٌ بالجمال عندي. ألا تذكرين حينما قلتِ لي بأنّك تعشقين المسرح؟ أنا لا أقصد شيئًا من هذا السؤال، لكنّي فقط، أريدكِ أن تستمتِعي معي بروعة أحفاد بافاروتي.

            لو أنّ كلّ هذا حقيقة، لأشار لي المخرج بأنّي لم أعد أملك ما يكفي من المشاهد، فميزانيّة الفيلم – بالطبع – لن تحتمل كلّ هذه المصاريف. لذلك سأستأجر ""بالونًا" كبيرًا هذه المرّة، ليعيدنا إلى عمّان. لو تعلمين كم هو جميلٌ ذلك المقعد الذي اكتشفته في وسط البلد، لم أكتشفه حقيقةً، بل دلّني عليه رفيقٌ لي، هو ليس مقعدًا خشبيّا كما أحب، لكنّ منظره يوحي بنهايةٍ سعيدة. سآخذك إليه، ثم سنجلس بجانب بعضنا، على عكس باقي الأفلام، حيث يجلس فيها العاشقان مقابل بعضهما. لو سألتِني عن سرّ ذلك، لأجبتك بأنّي أظنّ أن مثل هذه الوضعيات أكثر رومنسيّة من غيرها.

            أنا لا أجيد الكلام كثيرًا، أنا شاعريٌّ لكن بصمت، فالصمت أعمق أثرًا بمراحل من الكلمات. في السابق كنت أظنّك صامتة، لكن اتّضح لي بأنّك على النقيض من ذلك تمامًا، فأنت "حكواتيّة" من الطراز الأوّل، أتمنّى ألّا يخونك نهر الكلام حينها، لأنّه لو حدث ذلك ستضطرّين لسماع تنهيداتي كثيرًا، فأنا كما سبق وقلت، لا أجيد لعبة الكلام.

            أرغب بأن تصارحيني بمشاعركِ، وتطلعيني عليها. أرغب في أن أطمئنّ بأنّ ما فات من أيّام، وأفكارٍ لم يذهب هباءً. أرغب بأن تطلبي منّي أن أكون شريكك في فيلمك القادم. أرغب لو أمتلك نسخةً من ابتسامتكِ، لأطبعها على جدران الذاكرة، فلا أنساها. أتعلمين، أنا أرغب بالكثير من الأشياء، دعينا نكتفي بهذا الآن.

            تقولين أنّي مفرطٌ في الرّومنسيّة؟ نعم، أعلم ذلك. لقد كانت إحدى أمنياتي أن أكون شاعرًا، فالشعراء وحدهم يملكون الحقّ في الغلوّ بالرومنسية دون أن يحاسبوا، لكنّني لم أكن شاعرًا يومًا. عمومًا، لا تنزعجي كثيرًا، فهذا كلّه محض خيال، وحتى لو كان حقيقة، فأنا أجزم بأن المخرج كان سيحذف هذا المشهد الأخير.

            لو أنّني كنت بطلًا في أحد الأفلام… لكنّني لست بطلًا. ولن أكون كذلك يومًا!.

                                                                                                                                   ن.ع.م.


                                                                                                               

قراءة في فيلم The Chorus


    



       بعد أسبوع كامل من البؤس، والأفكار القذرة التي كان يمكن لها أن تدفعني إلى أحد الأزقة أبحث عن عقلي فيها، ها أنا أجد أن هذا العالم ما زال يملك شيئا من الجمال، يستحق أن نكمل حياتنا لآخرها من أجله. في هذا العالم ليس أفضل من كتابٍ جيد، أو مقطوعة موسيقية، تذهب بك برحلة على بساط علاء الدين، إلى أقاسي السماء، ثم تنزلك بعد انتهائها، وفيلمٍ جيد.

           لم أقرأ، لم أستمع، بل شاهدت. شاهدت إبداعًا خالصًا. في السابق كنت أشاهد أفلاما بطريقة عشوائية، لكن الذائقة والوقت لم يعودا يسمحان بهكذا فوضى. الآن بتّ أنتقي أفلامي بعناية كبيرة، لا يخلو الأمر من بعض الأفلام الساذجة، والسطحية، لكني في الغالب لا أشاهد إلّا الأفلام الرائعة. لا أعلم، هل تحتمل الروعة ما هو أروع منها؟ ربما، فالأمر نسبي، لكني أجزم أن فيلم "The Chorus"
 أو "Les Choristes" - كما يلفظ بلغته الأصلية (الفرنسية) – هو مثال على التجلي الإنساني.

           يبدأ الفيلم بشخصين مجهولين، يلتقيان بعد 50 سنة من الفراق، يعطي أحدهم للآخر مذكرات شخصٍ ما، ومن هذه المذكرات تنبثق أحداث الفيلم. المذكرات كتبها أستاذ يدعى "ماثيو كليمنت"، وهي سيرته مع تلاميذ المدرسة الداخلية التي عيّن فيها مؤخرًا.

           المدرسة هي شكل من أشكال المعسكرات، مدير يمعن في تعذيب الطلاب، ومدرسين قمة في الوضاعة، يتعاملون مع الطلاب كأكياس قمامة، لا كبشر، لدرجة أن الطلاب، لا تجد في اعتراضهم على العقوبات المفروضة عليهم كبير إحساس بما هو قادم، فهم أشبه بفاقدين للإحساس. حاول المدير أن يفرض كلمته منذ أول لقاء له مع "كليمنت"، وهنا يظهر أن "كليمنت" شخصية غاية في الإنسانية، والجمال، فأول ردة فعل بدرت منه على أحد أعمال المدير "ألا يحرض هذا على الوشاية..؟"، وهو ما أغضب المدير بطبيعة الحال.

           "كليمنت" هو شخصية تكررت كثيرًا في السينما، فهو المعلم الملهم، الذي يكتشف إبداعات طلابه في مجال ما، وحتى يستطيع أحد ما أن يتميز بمثل هذه الأدوار، لا بد له أن يأتِ بجديد، وهذا ما كان. فشخصية الممثل كانت عفوية إلى حد لا تستطيع إلّا الوقوف احترامًا لها، وربما خدمه أيضًا أن مهمته كانت اكتشاف موهبة الطلبة في الغناء، وهذا ما لم يسبقه إليه أي فيلم آخر (على الأقل من (الأفلام التي أعرفها أنا)، وإن تشابه ظاهر الفيلم مع غيره.

           أسس "كليمنت" كورالًا في المدرسة، كل الأغاني التي يغنيها كانت من تأليفه هو وتلحينه أيضًا، ما جعلني أظن أن القصة حقيقية.

           الكورال بديع إلى ذلك الحد الذي تود لو تفتح يديك وتضم العالم بأسره فيهما. عندما أعجب بشيء، أبدأ بالابتسام، ومن فرط ما ابتسمت هنا، كدت أكسر فكّيّ. يا إلهي، تلك الأصوات كانت لا بد أصوات ملائكة، بالأخص صوت "Morhange"، وحتى أصوات الطلبة البائسة في البداية، تحولت مع بعضها إلى مزيج من العصافير والغيم والياسمين. ربما تحدثت كثيرًا عن جمال الفيلم، لذلك سأتوقف عن الإعجاب به لأن "الصمت في حرم الجمالِ جمالُ".

           مشهد النهاية كان مؤثرًا للغاية، وظهر فيه إبداع المخرج الذي لا أعلم اسمه. أنصح كل من يحب الموسيقى بمشاهدة هذا الفيلم البديع J

                                               
                                                    هذه المقطوعة من أجمل ما غنى الكورال:

  

قراءة في رواية اللوح الأزرق.. جيلبيرت سينويه


         
          جاءت الرواية للكاتب الفرنسي جيلبيرت سينويه عن دار الجمل، بترجمة آدم فتحي. قبل الغوص في الكلام عن الرواية سأوجز بالقول أنها تتحدث عن لوح فيه رسالة من الله (إله المسلمين)، أو الرب (إله المسيحيين)، أو إلوهيم (إله اليهود)؛ فيها الدليل الدامغ على وجوده. اللوح مخبأ في مكان ما. إذ يبدأ الثلاثي "الشيخ ابن سراج" و "الحبر صموئيل عزرا" و "الراهب رافائيل فارغاس" في رحلتهم للبحث عن ذلك الفردوس الأرضي من خلال محاولة فك ثماني شفرات خبأها حامي اللوح "ابن برول" . الرواية كبيرة، من كافة الجوانب سواء على المستوى المادّي من حيث عدد صفحاتها الـ 564 صفحة، أم على المستوى المجازي المتمثّل بما ترمي إليه الرواية من تقارب مرجوّ بين معتنقي الديانات السماوية الثلاث. أجد أنّ أفضل وسيلة لتفكيك هذا البناء الروائي الضخم هو تقسيمه إلى حيثياته الأولية، بحيث تسهل الرؤية علينا كقرّاء.


-          الزمان:

          
أواخر القرن الخامس عشر، زمن محاكم التفتيش، الأندلس - أو ما تبقّى من أشياء كانت تدعى الأندلس-(إسبانيا).

-          المكان:

          ربما يكون من الإجحاف محاكمة الرواية بناء على معايير مسبقة، فأن تقرأ عددًا من الروايات التي تستند على التاريخ في بنائها للنص، وتجد وصفًا بديعًا للمكان، لا يخوّلك لأن تعمّم ذلك على باقي الروايات التي تنتهج ذات المسلك. سأقول من باب الموضوعية، بأن النص افتقر للإبداع المكاني، الصورة كانت باهتة ومشوّشة، لا شيء يميّز إسبانيا (بقايا الأندلس)، ورغم أن النّص اعتمد كثيرًا على الشكل المعماري، خاصّة في الأبراج التي خبّأ فيها "ابن برول" شيفرة ما، إلّا أن خيال سينويه لم يسعفه ليوصل الصورة كاملة. لكن، لنتوقّف قليلًا، ولنعطِ كل ذي حق حقّه، هل هذا ما أراده سينويه؟ هل كان يشغله المكان حقيقة؟ أرى أنه أبعد ما يكون عن الانشغال المكاني، فقد سخّر كافّة أدواته لخدمة الحدث الأكبر، اللّوح الذي يضمّ الحكمة اللانهائية. وهذا ما قد يدفعنا لنتجاوز – غير منزعجين – عن ضعف الصورة، إلى عمق الغاية.

- الأشخاص:

          
يفاجئنا النّص منذ صفحاته الأولى، بأحد أبشع الأحداث التي ستظل وصمة عار في تاريخ البشرية؛ محرقة جماعية للمهرطقين الذين أدانتهم محاكم التفتيش. الكثير من "المارقين" الذين يتوسّلون شيئًا من الرّحمة، إلّا واحدٌ منهم يثير العجب، إذ يبتسم وهو على حافّة الموت. نكتشف مع مرور الصفحات أنه "ابن برول" صاحب الحظوة، وسليل العائلة التي خصّها الله بالعناية باللوح المقدّس (اللّوح الأزرق/كتاب السفير). أطلّ الله عليه برسالة من خلال اللوح، أخبره فيها بأنّ حياته قد شارفت على الانتهاء، وما عليه فعله ليضمن عدم ضياع اللوح؛ كأنّما لم يوجد "ابن برول" إلّا ليكون ناقلًا، لذا يزول العجب حين نراه يبتسم وهو يقابل الموت بكامل أريحيّة، إذ استطاع أن يكون خير ناقلٍ ورسول.

          يترك "ابن برول" خلفه ثماني شيفرات (يسمّيها قصورًا) بالغة التعقيد والحنكة، وهو ما يحيلنا بطبيعة الحال إلى المؤلف ذاته (جيلبيرت سينويه)، ففي النهاية هو من صاغ تلك الشيفرات. كلام مقطّع، جزء منه من التوراة وآخر من الإنجيل وآخر من القرآن. وهذا ما يفصح عن رغبة المؤلّف منذ البداية في خلق آصرة ما بين الديانات الثلاث.

          ثلاثة أجزاء، يعني وجود ثلاثة أشخاص يثق فيهم "ابن برول"؛ "الشيخ ابن سراج" و "الحبر صموئيل عزرا" و "الراهب رافائيل فارغاس".التقاء كل هذه الكراهية المتجذّرة (عِداء معتنقي الأديان المختلفة) في مكان واحد، لا بدّ أن ينشأ عنه نفور يصاحبه تقريع قد يصل حد التقليل وإهانة الدين المقابل. هذا يحاجج ذلك بكتابه، وآخر يرد عليه بكتابه أيضًا، كل ذلك من خلال حوارات لا أستطيع وصفها إلا بالمذهلة. حريّ بنا ألّا نغفل عن مسيحيّة الكاتب، فعرضه لكافّة الآراء على أرضية واحدة، دونما أي تلاعب يرجع لمعتقده؛ زاد مصداقية وحميمية تلك الحوارات. ينطلق الثلاثة في رحلتهم للبحث عن اللوح الأزرق أو كتاب السفير كما ذكر في الرواية. واضعين حيواتهم السّابقة في مهبّ الرّيخ، مستغنين عن كلّ شيء، غير آبهين سوى للحقيقة، والحقيقة وحدها.

          حدث أن سألت نفسي، أليست رحلة جافّة تلك التي يخوضها ثلاثة رجالٍ ينفرون من بعضهم على أهون سبب؟ إلّا أن سينويه ما لبث أن أبعد ذلك التساؤل، بزجّه بـ "مانويلّا فيفيرو" الدّسيسة من قبل الدّولة، بعد اكتشافها لرحلة الثلاثي التي تتهدّد بأمن البلاد (كما يظنون). مانويلّا شكّلت نقطة الاتّزان والقلق في ذات اللحظة في سير الأحداث، إذ نعرف من سياق الأحداث أنّها امرأة مثقّفة، تمتلك معايير أخلاقيّة، وليست لائقة لتشكل الجزء المظلم في الرّحلة، لكنّها وبدهاء كبير تحترف الكذب بداية كي تنال ثقة الثلاثي في رحلتهم. كما أن لسنّها الصغير ووجود راهب في مثل عمرها تقريبًا، يتهدّد سير الرّحلة الطويلة، بعلاقة نستطيع أن نحدس بها منذ انضمامها للجماعة.


 
-  الحبكة:

          
تقوم الرواية بشكل أساسي على تفكيك نصوص "ابن برول". النصوص التي بدت للوهلة الأولى مجرد طلاسم أقرب للعبة الـ "Puzzle" منها لكلمات ذات معنى، وهنا تتدخل أصابع روائي فذ، في حل المسألة تدريجيا، عن طريق سعة معلومات الحبر والشيخ والراهب، بالإضافة لمنويلَا التي كان عليها أن تدلي بدلوها كي لا يشكّوا بعمالتها. للحظات تشعر بأن هذا الرّباعي يحفظ تاريخ البشريّة بأكمله، كما لو أنّه كتاب مفتوح ويقرأون منه.

          تتسارع وتيرة الأحداث في مواضع لتتباطأ بأخرى، وأي قارئ يستطيع أن يستشف الرغبة لدى سينويه في كتابة رواية سريعة الوتيرة، لكن هل يستطيع ذلك؟ إن كم المعلومات اللاهوتية، والمعرفية في الرواية يحتّم عليها أن تكون مثقلة حد الإشباع، بحيث تبدأ الصفحات تجر بعضها بتثاقل ملحوظ، ومع ذلك فقد استطاع سينويه أن يشدّ القارئ إلى صفحاته، مما يشير إلى تمكّنه من أدواته الروائية وتحكمه بها جيدًا.

          ثم هناك اللّوح، اللّوح الذي يترتّب عليه تغيير مصير البشريّة كما يدور في حوارٍ بين "الشيخ ابن سراج" و "الحبر صموئيل عزرا":

   " -     هل تصدّق هذه الحكاية؟ حكاية اللوح الأزرق أو إن شئت الدّقة كتاب السفير؟

-          وماذا لو ألقيت عليك نفس السؤال؟

-          اسمع يا عزيزي، أنا وأنت أذكى من أن نهدر وقتنا في مثل هذه اللعبة. أجبني هل تصدّق أم لا؟

-          وماذا لو قلت لك إنّي أصدّق؟

أمال ابن سراج رأسه إلى الخلف وشرد بذهنه للحظة.

-          أعترف بأنّ الأمر لو صحّ لفاق كلّ تصوّر. "

          مع كلّ شيفرة يتمّ فكّها يلوح طرف من اللّوح في الأفق. الحقيقة الكلّية، تكمن هناك على بضع سنتيمترات من الخشب. يظلّ سؤال/هاجس يتردد في البال: هل سيصلون له؟ أم أننا أمام رواية عبثية أخرى، لن تفضي بالقارئ إلى شيء؟. ربّما هذا سؤال موجه للقارئ أكثر منه لكاتب مقالة عن رواية، لذا سأكتفي بطرح هذا السؤال، لعلّ قارئًا ما يعرف الإجابة بنفسه.

-          ملاحظة شخصية:

          يستطيع المطّلع على روايات دان براون أن يلحظ العديد من نقاط الالتقاء بينه وبين هذا العمل، فكلا الكاتبين يعتمد الشيفرة كوسيلة للدخول إلى العالم الروائي. وكلاهما يتكئان على الجريمة، كعنصر مفاجأة أوّلي. ما أريد قوله، هو كم البخس الذي طال هذا العمل، مقارنة مع ما حققه دان براون في "شيفرة دافنشي" على سبيل المثال. لا أودّ أن يُفهم كلامي على أنه تقليل من كاتب على حساب آخر، فمبتغاي الوحيد، هو إعطاء شيء من الاستحقاق لهذا العمل، وكاتبه الذكيّ.







هزيمة بنكهة فيروزية


             خرجت يومها مسرعًا من البيت، تدق برأسي الأسئلة كالناقوس ينذر بالخطر. أسئلة تلاحقني بسكاكين الواقع. الواقع الذي لا أريد له أن يأخذ حيّزًا أكبر ممّا له أساسًا في حياتي.

             ركبت سيارتي، ثم انطلقت...
             كانت الساعة تشير إلى الثانية عشر ليلًا، لم أشعل أضواء السيارة كي لا أفسد على الظلام وحدته. لا أدري هل سارت السيّارة يومها أم لم تسر، لكنّي متأكّدٌ أنّ الأبنية والسيارات المبعثرة على جوانب الطرقات كانت تتحرّك بسرعة إلى الخلف. لا بد أني كنت مسرعًا للغاية يومها!. في تلك اللحظة، خيّل إليّ أنّ لا فرق بين السّيّارة وتلك الأسئلة اللعينة، فقد كانت تجيء وتروح بنفس سرعة الأبنية المتجهة إلى الخلف.

             لقد شتمت أذنيّ وقتها لأنها استجابت لسؤال صديقي اللعين "هل تحبّها؟". وما شأنه هو فيما إذا كنت أحبها أو لا!. ولماذا أتذكّر ذلك السّؤال تحديدًا الآن؟  في تلك اللحظة تذكرت قول المتنبي: "وزائرتي كأنّ بها حياءٌ ... فليس تزور إلا في الظّلام"!، فشتمت أذناي بحدة أكبر هذه المرة.

             كانت الشوارع خاليةً وقتها، في مدينة أنهكتها سرعة الحياة، لا تكاد تستيقظ إلا والليل يعاجلها. كدت أحسب الشوارع صحراءً، ولا ينقصها سوى شجرة صبّارٍ في منتصفها لتدلل على مدى خلوّها، قبل أن ألمح عاشقين تسلّلا من ثقب اطمئنان والديهما عليهما، وبائعٌ افترش الأرض ليقضِ ليلته سعيدًا، ورجلِ أعمالٍ أفرغ همومه بزجاجة نبيذ يحملها بكفّه اليمنى.

             كل ما أتذكره عن ذلك اليوم أنني كنت غاضبًا، وحزينًا من قدرٍ يلاحقني. قدرٌ لا يبان منه سوى رؤوس أصابعٍ كلّها تشير  إليّ، وكأنّني طالبٌ خجول خشي أن يقول أنّه لم يرتكب الفِعلة بل أولئك الأوغاد المبتسمين في المقاعد الخلفيّة، لكنّه صمت، لسببٍ ما، لا يعرفه.

              بسبب كل تلك المشاعر المتضاربة قرّرت أن أكون ساخطًا، ولو لمرة قبل أن أموت، فقرّرت أن أضغط على "دوّاسة" البنزين إلى منتهاها. كان الدّم يتدفّق من أعلى رأسي إلى أصابع قدميّ مادّا السيارة بسرعة جنونية. وكأن السيارة كانت تسير بالدّمِ في تلك اللحظة، لا بالبنزين.

             أشعلت الراديو، ظانّا بأن الأغاني ستكون ملائمة لهكذا جو. حقيقةً، لا أعلم ما الذي جعلني أعتقد ذلك، لكني وبشيءٍ من الإثارة بدأت أقلّب محطاته الضجرة. دهسني صوت فيروز. فيروز، وفي منتصف الليل؟! وكأنّها كانت تريد أن تنفيَ عن نفسها تهمة كونها "مغنية الصّباح الأولى". لكنّها برغبتها تلك نسيت ألّا تنشّز!.

             كان صوتها يصدح في أذنيّ كغرابٍ يشمت بقرب موت أحدهم. كلّما كانت تقول "يارا الجدايلها شقر" كنت أحس بأنها تشير إليّ، إليّ وحدي. حتّى أنّ دماغي شطح بعيدًا حدّ التصور بأنها كانت تتحداني بتلك الكلمات، فقبلت التحدي بشيءٍ من الحمق، فرفعت صوت الرّاديو إلى أعلى درجاته. ردَّدت هي نفس المقطع مجدّدًا وكأنّما نسيت باقي الأغنية، ازددت حنقًا فأفلتّ المقود كي أتمكّن من سدّ أذناي. ظلّت تردّدُ المقطع ذاته، والسيّارة تتمايل يمنةً ويسرة، بلا سائق يوجّهها. حاولت التخلّص من صوتها في تلك اللحظة لكنّي لم أستطع.

             وسط كلّ ذلك الجنون، فكّرت فيما ستأول إليه الأمور. لم أجد سوى مكانين سيضمانني، أحدهما قبرٌ باردٌ على أطراف المدينة، والآخر فوق سريرٍ في مستشفًى حكومي، تحت أمتار من الشّاش الأبيض وتأثير العشرات من الكسور.

             الآن؟... حقيقةً لا أدري أين أنا الآن، لكنّي أتمنّى أن يكون كلّ ذلك كابوسٌ ينتهي بصرخةٍ من أمّي، فأنا ما زلت صغيرًا على الموت، ولا أقوى على احتمال الألم، فهذا الجسم النحيل أضعف من أن يحتمل هبّة ريح.

             لكن كل ما أخشاه... أن تستيقظ أمّي بعد فوات الأوان!.

                                                                                                                                ن.ع.م.



قراءة في سيرة نزار قباني الثانية "من أوراقي المجهولة"


              هل هو درس في الجمال؟ أم أنه الجمال بحد ذاته؟

              ليس صحيحًا أن نزار شاعر بسيط، ويسهل القراءة له، كما يدعي بعض النقاد، أو أنصاف النقاد كما أسماهم نزار في كتابه هذا. على الرغم من أن هذا يحمل شيئا من الصواب، إلا أنه يشير باستهزاء إلى ضحالة شعر نزار. نعم نزار قباني شاعر يسهل القراءة له وإذا ما قارنّاه بشعراء معاصرين وعمالقة، أمثال أدونيس ودرويش وإيليا أبو ماضي وغيرهم، لوجدنا أن أسهلهم قراءة على الإطلاق هو نزار، فنزار أقلهم رمزية في شعره، وأقلهم تعقيدًا، ونصه لا يحتاج إلى تأويلات كثيرة، فهو يؤشر على نفسه بنفسه، على النقيض من أدونيس مثلًا، الذي لم تسعفني ذائقتي الشعرية ولا ثقافتي على فهم قصيدة واحدة له حتى اللحظة! ربما يعتبر البعض ذلك مأخذًا عليه، إلا أني أعتبره نقطة قوة كبيرة، فنزار وصل إلى قلب كل مواطن عربي من "الماء إلى الماء" كما قال هو

              هذا نص ينطق أكثر مما نطق أصلًا، ففيه من الجمال الشيء الكثير، ومن العذوبة ما يصعب وصفه في بعض الكلمات فنزار قباني لا يكتب شعرًا ولا يكتب نثرًا، بل هو يعري الكلمات ليبان الجميل منها والرديء وحده، إلا أنك لا تجد الرديء هنا،. فبضاعته مجربة، ولا تحتاج إلى شخص مثلي كي أقول أنها جميلة بل رائعة ومذهلة. نزار لا يحتاج للمرور من أمام نقاط التفتيش أمثالي، هو يمر بإنسانيته التي تجلت واقعًا وشعرًا

              لم أكن أعلم بأن الإنسان قادر على أن ينداح جمالًا بكل تلك السلاسة، وبلغة فائقة البساطة، بلا تعقيدات، ولا أحاجي، ولا دهاليز لغوية، كل الهدف منها هو استعراض العضلات، والتأشير على الذات بأنها تمتلك نواصي اللغة. كانت لغة الكتاب رقراقة، وكأن بالشعر والنثر يلتحمان ببعضهما كتوأم سيامي، فلا تعد تستطيع التفريق بين هذا وذاك.


              في هذا الكتاب، أو الكتيّب، يكشف نزار بعضًا من أوراقه المقلوبة، التي نسي أن يكشفها في سيرته الذاتية الأولى "قصتي مع الشعر"، تلك الأوراق التي تخبئ وراءها نزار الإنسان أكثر من نزار الشاعر، هو لم يختلف هنا، ما زال شاعر الحب، لكنه انتقل قليلًا ليكتب عن الحب نثرًا، ليكتب عن بيروت، جنة الستينات، وعن بحرها وشجرها ومطاعمها وناسها، ليكتب عن معضلة السياسة والمثقف، ليكتب عن أسوأ وأعجب اللحظات في حياته، ليكتب عن محمد عبدالوهاب ونجاة الصغيرة، ليكتب عن معاناته مع جهل السياسيين في بلده سوريا، وعن أشياء أخر كثيرة لن أستطيع أن أفيها حقها هنا

              سأنهي ما كتبت عن الكتاب بقصيدة "حبلى" لنزار قباني، لتقوم هي بمهمة التأكيد على عظمة هذا الشاعر الفذ:

لا تَمْتَقِعْ!

هيَ كِلْمَةٌ عَجْلَى..

إنّي لأشعرُ أنّني حُبْلَى..

وصرختَ كالملسوعِ بي.. "كلاَّ"..

سنُمزِّقُ الطفلا..

وأخذتَ تشتُمُني..

وأردتَ تطرُدُني..

لا شيءَ يُدْهِشُني..

فلقد عَرَفْتُكَ دائماً نَذْلا..

*


وبَعَثْتَ بالخَدَّام يدفَعُني..

في وحشة الدربِ

يا مَنْ زَرَعْتَ العارَ في صلبي

وكَسَرتَ لي قلبي..

ليقولَ لي:

"
مولايَ ليس هنا.."

مولاهُ ألفُ هنا..

لكنهُ جبُنَا..

لمَّا تأكَّدَ أنني حُبْلى..

ماذا.. أَتَبْصُقُني؟

والقيءُ في حَلقي يُدَمِّرُني

وأصابعُ الغَثَيان تخنُقُني..

ووريثكَ المشؤومُ في بَدَني

والعَارُ يسحَقُني..

وحقيقةٌ سوداءُ.. تملؤني

هي أنني حُبْلَى..

ليراتك الخمسون ..

تضحكني

لمن النقود.. لمن؟؟

لتجهضني؟

لتخيط لي كفني

هذا إذنْ ثَمَني؟

ثمنُ الوفا يا بُؤرَةَ العَفَنِ..

أنا لم أجِئْكَ لمالِكَ النَتِنِ..

"
شُكْراً.."

سأُسقِطُ ذلك الحَمْلاَ

أنا لا أُريدُ له أباً نَذْلا..


خذلان، وتراجع


           أنا رومنسي أكثر من اللازم، وأظن أنه حان الوقت لأكبح نفسي. لا أعرف من أين أبدأ بعملية الكبح. أفكر في ضرب نفسي بالسياط، أو بربطي إلى أقرب عمود لفترة طويلة، وتجويع نفسي. وإن أشفق عليّ مرهفٌ ما سأشتمه، وأرميه بأقذع الأوصاف، حتى يبدأ بفهمي ويشاركني في تعذيبي.

           أفكر أيضًا في الاتصال بجمعيات حقوق الإنسان ليشهدوا كمّ الانتهاكات التي سأرتكبها بحق نفسي، وليشهد العالم بأني لست أفضل من أطفال فلسطين والصومال وسوريا وليبيا واليمن وغيرهم. ربما هناك اختلاف بيننا، فهم معذبون لأن الحياة لم تنصفهم، أما أنا فمعذب لفرط الرومنسية!.

           الرومنسية التي دفعتني لأن أشتري هدية لفتاة أعجبتني!. هل تخيلتم كم أنا ساذج؟ والله لقد فعلتها دون أن يرف لي جفن. لأكون صادقًا، لم أتصور أنها سترفضها في البداية، لكن هذا الذي حصل. وبناءً عليه حكمت عليّ محكمة غير معروفة  بالقصاص لأجلٍ غير مسمّى، حتّى أشفى من ذلك الداء، وأنا من مجلسي هذا فوق الكرسيّ البليد الرابض تحت وطأة جسدي أناشد أصحاب المحالّ أن يغلقوا أبوابهم في وجهي وأن ينشروا تعميمًا باسمي بأن لا يبيعني أحد منهم أيّ شيء.

           قد تتساءلون كيف سأتمكّن من شراء هديّة ما وأنا مربوط إلى عمودٍ قريب، ويضربني مرهفٌ ما!. لكنكم لم تفكّروا في احتماليّة استشراء المرض في جسدي، إلى درجة قد تدفعني إلى ضرب ذلك الشخص اللّزج "بكسًا" بين عينيه، مما سيسبّب له احتقانًا في الجيوب الأنفية فيما بعد.

           الآن لم يبقَ أمامي سوى مشكلة واحدة، هي أمّي، كيف سأقنعها بمدى حكمة ما سأفعل؟ هي تظنني ما زلت مراهقًا، أو ذلك الطفل الصغير الذي لن يكبر بعينيها –كما تقول باقي الأمّهات-، والذي لا يقوى على اتّخاذ قراراته بنفسه. هناك حلٌّ واحد، سأفتعل مشكلة معها، ونتصايح، وربّما يعلو صوتي على صوتها، ستحزن هي لذلك بالطّبع، وعندها سأستغلّ اللّحظة وأصعّد من موقفي بأن أعلن أنّي ذاهب، ذاهبٌ حتّى أهدأ. ثم سأفتح الباب وأطرقه خلفي بطريقة دراميّة معلنًا بذلك صفعي للصّورة التي رسمتها لي أمّي في خيالها طوال تسعة عشر عامًا، هي سنوات عمري. أنا أعلم أنها ستمدحني أمام الجارات فيما بعد، لكنّها الآن ستبكي، ليس لأنّي ذهبت، بل لأنّي خدشت مخيّلتها.

           الآن وأنا خارجٌ من البيت لم يبقَ لديّ ما يعيق ترويض ذاتي الرّومنسيّة، وفي خضمّ ثورتي المختلقة تلك، سأشاهد حديقةً أزهارها تثير فيّ حنينًا لشيءٍ قادم من زمنٍ سحيق، عشبها أخضر بالٍ، إلّا أن خضرته كانت طاغية، وفيها مقعدٌ يدير ظهره للعالم. حينها توقفت، خطفت نظرتين عن جانبيّ كي أتأكّد من أنّ أحدًا لم يشهد تراجعي السّريع ذاك. ذهبت لأجلس على المقعد، قطفت وردةً ذابلة، وأعلنت لنفسي بأنّها ستكون هديّتي القادمة لكِ!.

                                                                                                                                          ن.ع.م.