خرجت يومها مسرعًا من البيت، تدق برأسي الأسئلة كالناقوس ينذر
بالخطر. أسئلة تلاحقني بسكاكين الواقع. الواقع الذي لا أريد له أن يأخذ حيّزًا
أكبر ممّا له أساسًا في حياتي.
ركبت سيارتي، ثم انطلقت...
كانت الساعة تشير إلى الثانية عشر ليلًا، لم أشعل أضواء السيارة كي لا أفسد على
الظلام وحدته. لا أدري هل سارت السيّارة يومها أم لم تسر، لكنّي متأكّدٌ أنّ
الأبنية والسيارات المبعثرة على جوانب الطرقات كانت تتحرّك بسرعة إلى الخلف. لا بد
أني كنت مسرعًا للغاية يومها!. في تلك اللحظة، خيّل إليّ أنّ لا فرق بين السّيّارة
وتلك الأسئلة اللعينة، فقد كانت تجيء وتروح بنفس سرعة الأبنية المتجهة إلى الخلف.
لقد شتمت أذنيّ وقتها لأنها استجابت لسؤال صديقي اللعين "هل تحبّها؟".
وما شأنه هو فيما إذا كنت أحبها أو لا!. ولماذا أتذكّر ذلك السّؤال تحديدًا الآن؟
في تلك اللحظة تذكرت قول المتنبي: "وزائرتي كأنّ بها حياءٌ ... فليس
تزور إلا في الظّلام"!، فشتمت أذناي بحدة أكبر هذه المرة.
كانت الشوارع خاليةً وقتها، في مدينة أنهكتها سرعة الحياة، لا تكاد تستيقظ إلا
والليل يعاجلها. كدت أحسب الشوارع صحراءً، ولا ينقصها سوى شجرة صبّارٍ في منتصفها
لتدلل على مدى خلوّها، قبل أن ألمح عاشقين تسلّلا من ثقب اطمئنان والديهما عليهما،
وبائعٌ افترش الأرض ليقضِ ليلته سعيدًا، ورجلِ أعمالٍ أفرغ همومه بزجاجة نبيذ
يحملها بكفّه اليمنى.
كل ما أتذكره عن ذلك اليوم أنني كنت غاضبًا، وحزينًا من قدرٍ يلاحقني. قدرٌ لا
يبان منه سوى رؤوس أصابعٍ كلّها تشير إليّ، وكأنّني طالبٌ خجول خشي أن يقول
أنّه لم يرتكب الفِعلة بل أولئك الأوغاد المبتسمين في المقاعد الخلفيّة، لكنّه
صمت، لسببٍ ما، لا يعرفه.
بسبب كل تلك المشاعر المتضاربة قرّرت أن أكون ساخطًا، ولو لمرة قبل أن أموت،
فقرّرت أن أضغط على "دوّاسة" البنزين إلى منتهاها. كان الدّم يتدفّق من
أعلى رأسي إلى أصابع قدميّ مادّا السيارة بسرعة جنونية. وكأن السيارة كانت تسير
بالدّمِ في تلك اللحظة، لا بالبنزين.
أشعلت الراديو، ظانّا بأن الأغاني ستكون ملائمة لهكذا جو. حقيقةً، لا أعلم ما الذي
جعلني أعتقد ذلك، لكني وبشيءٍ من الإثارة بدأت أقلّب محطاته الضجرة. دهسني صوت
فيروز. فيروز، وفي منتصف الليل؟! وكأنّها كانت تريد أن تنفيَ عن نفسها تهمة كونها
"مغنية الصّباح الأولى". لكنّها برغبتها تلك نسيت ألّا تنشّز!.
كان صوتها يصدح في أذنيّ كغرابٍ يشمت بقرب موت أحدهم. كلّما كانت تقول "يارا
الجدايلها شقر" كنت أحس بأنها تشير إليّ، إليّ وحدي. حتّى أنّ دماغي شطح
بعيدًا حدّ التصور بأنها كانت تتحداني بتلك الكلمات، فقبلت التحدي بشيءٍ من الحمق،
فرفعت صوت الرّاديو إلى أعلى درجاته. ردَّدت هي نفس المقطع مجدّدًا وكأنّما نسيت
باقي الأغنية، ازددت حنقًا فأفلتّ المقود كي أتمكّن من سدّ أذناي. ظلّت تردّدُ
المقطع ذاته، والسيّارة تتمايل يمنةً ويسرة، بلا سائق يوجّهها. حاولت التخلّص من
صوتها في تلك اللحظة لكنّي لم أستطع.
وسط كلّ ذلك الجنون، فكّرت فيما ستأول إليه الأمور. لم أجد سوى مكانين سيضمانني،
أحدهما قبرٌ باردٌ على أطراف المدينة، والآخر فوق سريرٍ في مستشفًى حكومي، تحت
أمتار من الشّاش الأبيض وتأثير العشرات من الكسور.
الآن؟... حقيقةً لا أدري أين أنا الآن، لكنّي أتمنّى أن يكون كلّ ذلك كابوسٌ ينتهي
بصرخةٍ من أمّي، فأنا ما زلت صغيرًا على الموت، ولا أقوى على احتمال الألم، فهذا
الجسم النحيل أضعف من أن يحتمل هبّة ريح.
لكن كل ما أخشاه... أن تستيقظ أمّي بعد فوات الأوان!.
ن.ع.م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق