الاثنين، 3 نوفمبر 2014

متحف الذكريات


        اسمي أدولف، وانتهيت نهاية مأساوية، تمامًا ككل من حملوا هذا الاسم اللعين. هتلر انتحر، إيخمان أعدم في إسرائيل، أما أنا فعشت. كنت كمن تفرغ أحشاؤه أمام عينيه، لكنّه لم يصرخ، ببساطة لأنّه لم يستطع. كانت الحرب، وفرض التجنيد علينا. أتوا ليأخذوني بسيارة من أمام المنزل، رفضت، أجبتهم : أنا أحبّ حنّا، ولا أريد أن أتركها. قالوا لي، إذن نعدمك، فوافقت. حنّا لم تكن تحبّني على أيّة حال.

        لا يهم، لا شيء يهم.

***

        كان الوقت ربيعًا، أتذكر ذلك اليوم بوضوحٍ تام. 29\4\1945، يوم تنفيذ إعدامي. الفجر طال يومها، ولم يشأ أن يتزحزح؛ كان أشبه بقطٍ سمين جائع. من زنزانتي الأخيرة، سمعت أصوات نار. كان نارًا كثيفًا كما لو أن القيامة قامت. ساعة، ساعتين، ثمّ سكون. صمت المقابر ذاك كان له وقع غريب، أنا متأكد أنه لم يكن هنالك أي صوت في الأرجاء، لكنني شعرت بالصمم لفترة. لقد كان ذلك صخب الموتى. عرفت فيما بعد أن برلين سقطت، وأنني نجوت. كان كما لو أن السوفييت يردون دينهم لي. بعد الحرب، يمرّ الوقت أسرع. لم أدرك ذلك إلا عندما نظرت في المرآة، ولم أتذكر شكلي القديم. شعرت أنني ولدت هكذا، أصلعًا، بكلفٍ كثير حول العينين.

        لا يهم، لا شيء يهم.

***

        كان الوقت خريفًا، أواخر تشرين الثاني، برد برلين "كلبٌ من الجحيم" (1). أحبّ المشي ساعة الفجر. الشوارع مقفرة، مرّ وقت طويلٌ على الحرب، لكنّ آثارها ما زالت حاضرة على أوجه الجدران، والشوارع. توقّفت عند دكانٍ صغير لأبتاع التبغ. البائعة امرأة نصف وجهها الأيمن مشوّه، لكنّ مسحة جمالٍ ظلّت الحاضر الأكبر. رفعت عيناها، ونظرت صوبي، لم يكن هناك مجالٌ للخطأ. فضحتها عيناها. عقدت الدهشة لساني، كان ذلك أشدّ غرابة من فكّ حبل المشنقة عن عنقي.

-          ما اسمك؟
-          حنّا.
-          كان لي في السّابق حبيبة اسمها حنّا. لكنّ الحرب فرّقتنا. قالوا لي أنّها ماتت.
-          ما اسمكَ أنت؟
-          أدولف.
-          كان لي في السّابق حبيبٌ اسمه أدولف، لكنّه كان جبانًا ورفض التجنيد في الحرب. قالوا لي أنّه أعدم.

        حين كنت أتودد لها في السابق، لم تكن ترد. كانت تختال بصمتها، وتشعر بمتعة الانتصار فيه. كان بإمكاني أن أردّ عليها، لكنّني لم أفعل، ولا أعرف لماذا. ربّما أحببت أن أرى العالم من موقعها، حتى لو بات موقعًا لا يؤشّر إلا على الخراب. ابتسمت، شكرتها على التبغ، ودون أي كلمة أخرى مضيت في طريقي بصمت.

        لا يهم، لا شيء يهم.


 
لوحة لبهرام حاجو

_________________________

(1) : الجملة مقتبسة من عنوان ديوان لتشارلز بوكوفسكي (الحب كلبٌ من الجحيم)