الأربعاء، 12 يونيو 2013

حفل توقيع

           كان مرتبكًا مثل "عريسٍ" في يوم زفافه. أعضاؤه مبعثرة في جميع الاتجاهات، لا يوجد في عينيه سوى البياض، تداخلت الألوان كلها حتى باتت لونًا واحدًا، هو لون الضياع المشوب بشيء من البلبلة والحيرة غير المسوغة. لأول مرة يحار أمام خزانة الملابس. أي تلك الأقمشة يلائم توقيع رواية رومنسية؟ لم يشأ أن يفترض قراءه المرتقبون أنه عاشق بحلة رسمية، لو أنه ارتدى "بدلةً". ولا "الجينز" شبيه بجنون عاشق دار الدنيا بحثًا عن فتاته، فقط ليعطيها وردة، بين دفتي كتاب. كم يكون الاختيار صعبًا عندما يتعلق الأمر بالتفاصيل، تلك التي لا يلاحظها أحد، ولا حتى الناقد الساخط، الذي هيأ نفسه لكتابة دراسة لاذعة لرواية لم ترى النور بعد. تذكر، بلحظة إنقاذ سماوي، أنه قرر قبل يومين ماذا سيلبس، بعد أن شاهد ذات المشهد في أحد أحلامه المزعجة. تململ أمام المرآة، حاول أن يتذكر ذلك الشيء الذي ينخزنا دائما قبل أن نغادر البيت، ويلح علينا بأننا قد نسينا شيئا ما، ربما لم نكن قد نسيناه حقيقة، أو ربما نسيناه ولن نتذكره إلا بعد فوات الأوان. أخرج من الدرج قلمين، أحدهما أسود سائل، يكسب خطه رونقًا جميلًا، سيستخدمه للقراء العاديين. وآخر أحمر، لن يوقع فيه إلا على نسخة واحدة، لفتاة شاهدها في ذات الحلم الكئيب. وضعهما في جيب قميصه، ثم غادر.

***  

           في الطريق إلى دار النشر، أوعز اهتمامًا غريبًا لواجهات المحال التجارية، ظل يبحلق فيها كما لو أنه أضاع في إحداها شيئا قبل سنين، وتذكره الآن. كثير منها كان يحمل أسماء جافة، مثل "بقالة السعادة" أو "مخيطة السلام". تلك الأسماء الغريبة، التي لم يعد لها وجود إلا في المعاجم، وكتب التاريخ. حاول أن يقتفي أثر اسمٍ غير متأكدٍ أنه سمعه بالشكل الصحيح، لكنه قرر بشيء من الحماقة، وجنون الكتاب أن يتبعه. "نداء" هكذا سمع أحدهم ينده في الحلم، فتاة نحيلة، صفراء الوجه، بهية الطلة، لكن بلا أية تفاصيل أخرى. لم يزعجه ذلك، بل على العكس، وجد اسمها موحيًا بطريقة عجيبة، كأنه خلق ليظل هكذا، "نداءًا" يتردد صداه في أنحاء رأسه الكروي. بدأ يفكر كما لو كانت حياته كلها قد صيغت لهذه اللحظة بالذات، تلك اللحظة التي تبدأ فيها دقات القلب بالتزاحم عند أول مفترق حقيقي. لم يشأ أن يتمادى بالتفكير فيها أكثر، كي لا ينسى ما جاء أساسًا من أجله، ويضيع ما خطط له منذ أشهر.

***

           طلب من سائق التاكسي الوقوف عند المنعطف الكائن على رأس الشارع الذي تتواجد فيه دار النشر المتواضعة. المشي يعزز الثقة، هكذا سمع في الراديو قبل يومين. دخل دار النشر من الباب الخلفي الذي ترك مواربًا باتفاق مسبق مع صاحب الدار. تفقد جيوبه جيدًا، قبل أن يدخل الصالة التي يبدو من الأصوات المنبعثة منها أنها تعج بالقراء. تساءل، هل "نداء" بينهم؟ ولو خرج الآن، واصطدم بظلها ماذا سيفعل؟ هل يدير ظهره ويلملم خيبته ويهرب، أم يلحقها كما فعل بطل روايته، ويخبرها بأنه شاهدها قبل يومين في حلم مفزع؟. وسط ذلك العصف من الأسئلة، جاءه صوت مدير دار النشر من وراء الباب، كأنه مدير سيركٍ وهو المهرج الذي سيحين دوره بعد دقيقة واحدة، ليس إلا. دخل من الباب المفضي إلى الصالة التي تجمع بها ثلة من القراء. لم يخبره صاحب الدار بأنه هو من أحضر كل أولئك القراء ليصنع من يومه هذا حدثًا يؤرَّخ، لم يخبره لأنه يعلم أنه يستحق أن يحضر حفل توقيعه عدد من القراء، حتى لو جاءوا خدمة لصاحب الدار لا للكاتب. لم يعلم هو بذلك، وخامره شعور مخاتل بأنه يستحق كل ذلك الإطراء.

***

           لو أن أحدًا لاحق نظرات الكاتب، لعرف بلا أي جهدٍ يذكر، أنه يمر بدقائق عصيبة. كان ينظر يمنة ويسرة بسرعة بالغة، كلصٍ تجرأ وسرق بيتا في وضح النهار. جلس على طاولة معدة مسبقًا، وُضِع على طرفها الأيمن مجموعة لا بأس بها من روايته. بدأ يلقي بالابتسامات، واحدة واحدة، مع كل توقيع يخطه على نسخة مدها قارئ ما. يستجدي لسانًا كي ينطق بذلك الاسم، الذي بدا للحظات بأنه لم تستخدمه أي فتاة قبل ذلك الحلم / الكابوس. كان ذلك قبل أن تقول إحداهن، بعد أن سألها عن اسمها: نداء. فغر فاه كما لو أن السماء وقعت على رأسه، وتركته بلا حراك. نظر إليها بتمعن شديد، حاول أن يتأكد من صفار بشرتها، إلا أنه هو الذي صار أصفر اللون بعد أن سألها: هل أنتِ بهيّة الطلّة؟ ضحكت كثيرًا لكن لم تجب. أدرك أنه قد سأل سؤالا غبيّا. وتذكر أيضًا أنه يمسك بالقلم الخطأ، أغلقه، ثم وقع لها بالقلم الأحمر. شكرته مبتسمة، ثم غادرت الصف لتفسح المجال لمن بعدها، كي ينالوا شرف التوقيع.

***

           لم يعد يدري ما إذا زادت حيرته وضياعه بعد أن رآها، أم أنه أصبح أكثر تناسقًا. جاهد كي يظهر نفس المقدار من المودة لكل قارئ جاء بعدها. رغم كل تلك اللخبطة التي حدثت له منذ صباح ذلك اليوم، إلا أنه شعر بشيء من السرور يسكنه. سكينة طارئة عجلى، لا يعلم ما إذا كانت ستمتد إلى ما بعد حفل التوقيع، أم أنها ستتلاشى لو أدرك بأن "نداء" قد غادرته بعد أن جاءتها مكالمة مسرعة، تطالبها بالرحيل فورًا.

           انتهى الحفل، وأصبح لديه متّسعًا من الرؤية كي يبحث من خلاله عنها. قلّب الدّار كلّها، علّه يجدها، أو حتى طيفها، إلا أنّ محاولاته كلها باءت بالفشل. تعب من المحاولة، وجلس أخيرًا كي لا يبدوَ أحمقًا أمام قرائه، في يومٍ يجب عليه أن يبدو فيه أحكم الناس.

           انتهى كل شيء، كما لو أنه لم يبتدئ من الأساس. غادر الجميع، وغادر هو أيضًا، بذكرى صغيرة، لم تسعفه لأن يكمل الابتسامة التي اقتربت أن تكتمل على وجهه. غادر دون حتى أن يقول شيئا لصاحب الدار، الذي كان يبحث عنه، ليقول له، بأن تلك الفتاة، التي وقع لها بالأحمر، هي الوحيدة التي لم يطلب منها أن تجيء هذا اليوم، لتوقيع الكتاب، والمساهمة بجعل يومه تاريخًا يُكتب.


                                                                                                                                       
                                                                                                                               ن.ع.م.
                                                                                                                         04:24 صباحًا
                                                                                                                         12-06-2012