السبت، 31 مايو 2014

ميلودراما اسمها البحر


       يرى فرويد أن الأحلام هي وسيلة تلجأ إليها النفس لإشباع رغباتها ودوافعها المكبوتة خاصة التي يكون إشباعها صعبا في الواقع. لم يقتنع "جاري" بالتفسير هذا، وظلّ يصرّ على أنّ ما يحلم به سيتحقّق يومًا ما. "جاري" شاب في الخامسة والعشرين من عمره، عاطل عن العمل حاليًا، يقيم في ماركا الشمالية، أصلعت رأسه مبكرًا (ظلّت أمّه تشبه شعر الرأس بالشتلة، إذ كلّما سقيتها أكثر، كلما طال عمرها. الأمر الذي دفعه للاعتقاد بأنّ جذرًا فاسدًا ورثه عن أبيه الأصلع، أفسد الشتلة بأكملها، وأحالها إلى أرضٍ بوار). كانت تنتابه رؤى عن بحرٍ كبير يرسو على خاصرة عمّان، فطمح بشيء من المخاتلة بأن يحّول رؤاه إلى حقيقة. 



***

       هناك، في السّماء الزرقاء، بين نثار الأحلام والطائرات والعصافير، يد تفتح صنبورًا كبيرًا يتوسّط السماء؛ المياه تغمر كلّ شيء ابتداء بقمّة "أبراج السادس" نزولًا إلى وسط البلد. أمّا البشر، فيواصلون حياتهم كأنّ شيئًا لم يكن. وسط كل ذلك، تذكر "جاري" تعريف المياه في درس العلوم في الصف الأول الابتدائي: لا طعم ولا رائحة ولا لون له؛ ربما لهذا السبب لم يلحظ أحد شيئًا!.

***

       في الصباح البارد،لحظة الاستيقاظ، اختلط كلّ شيء، لكنّ شيئًا هناك ظلّ طليقًا في الجوّ، إنّها رائحة رطوبة، إنّها رائحة بحر. أسرع "جاري" إلى شرفة منزله. هو يعلم في قرارة نفسه أنّه في أفضل الأحوال لن يشهد أكثر من جريان مياه الغسيل في الشارع (كان ذلك يوم الجمعة / موعد وصول المياه)، لكنّ أملًا مستترًا ظلّ يلوح في باله للتغلّب على فرويد. وفي ظلّ خيبة أمله المتوقّعة، ظلّ يفكّر في صورة واحدة، كانت ماثلة هناك في رأسه كما لو أنّ أحدًا ألصقها على جدرانه؛ بيروت. لا يعلم لم هذه المدينة تحديدًا، لكن لو اضطر إلى التبرير، سيقول لأنه لا يريد أن يذهب إلى بعيد، فالقريب أولى بأن يتلقى حسدنا. في لحظة ما، كان لا بدّ لخيط البوح أن ينسلّ، وحتّى لا يضيع فتح صفحة الفيسبوك وكتب:

       "أنا أعلم أنّ الموضوع قد لا يجد صدًى لدى أحد، لكنّني أجد نفسي مضطرًا لقوله. منذ مدّة شعرت بوخز في رأسي، فلم أجد كتفًا ألقي رأسي عليه. حين زرت بيروت، قبل أربعة أعوام، كان ذلك الكتف رحبًا حدّ أنّه امتد لما يقرب الخمسة كيلومترات. على كورنيش بيروت الذي تختلط فيه أحلام المراهقين ونزق الشيوخ برائحة السمك الكريهة وصوت فيروز، فكّرت بعمّان. أعلم أنه لم يكن البحر ليغير شيئًا لو وجد هنا؛ سيظلّ دوّار الداخليّة في مكانه، وسيظلّ مكتظًا على الدوام. سيظلّ "مكّة مول" و "السيتي مول" أهمّ من الكورنيش. وسنظلّ نرزح تحت وطأة غياب المياه من "حنفياتنا". أعلم هذا، لكنّني مع ذلك، ربّما كحلم فردوسي، أو لمجرد إغماض العينين والتخيل، أفضّل لو كان البحر مقترنًا بعمّان."

       قبل أن يغلق شاشة اللابتوب، أرسل رسالة لصديقته أسيل كتب فيها "ما تتغدّي، عازمك اليوم". في المرآة، حاول أن يتوصّل لسبب لتلك الجرأة المفاجئة. فيما مضى لم يكن يعرف الحدّ الفاصل بين الإقدام والإحجام، فظلّ يتخبّط بين المصطلحين حتّى صحّ أن نقول: راح فريسة للّغة. لكنّ اليوم بقفزته تلك، كسر شيئًا ما، حاجزًا كان يظنّ أنّه أطول من أن يجتازه بقامته القصيرة.

***

       في مطعمٍ رخيصٍ في وسط البلد كان اللقاء (في النهاية للجيبة أحكام). لم يكن هناك الكثير ليذكر، كان لقائًا يليق بشابّين متحفظين حدّ الملل. لكنّ تعليقًا بدر من "أسيل" عمّا كتبه "جاري" صباحًا على الفيسبوك، أخذ اللقاء إلى منحًى آخر، وإن لم يكن بالغ الأهمية، إلّا أنّه يستحق أن يذكر.

-          اليوم الصبح كنت بقرأ "اسطنبول" لأورهان باموق، (أخرجت الكتاب من حقيبتها، وقرأت): "وبعد ذلك بسنوات، حين كنت أرى عائلات أخرى مزعجة وتعيسة تتشاجر في سيارات أخرى على البوسفور، وقد خرجت في نزهات مماثلة يوم الأحد، لم يكن التشابه في حياتنا أكثر ما يثيرني، بل شعور بأن البوسفور كان يمثّل لمعظم العائلات التركية العزاء الوحيد". بعدها قرأت كلامك عالفيسبوك، وفهمت قصدك. 

-          بتعرفي، مع إني كتبت هيك، بس مش شايف الموضوع كثير مهم، مجرّد فكرة خطرتلي فكتبتها. بالنهاية عدم وجود بحر بعمّان هو جزء منها، جزء من خصوصيتها، ويمكن لو انوجد يصير الموضوع مش مريح. 

-          مش عارفة، الفكرة عجبتني. حاول اشتغل عليها.

-          رح أحاول.

       قد لا يعني ذلك الحوار شيئًا، وربما يكون أحدهم قد علّق بذات الأمر على الفيسبوك. لكن تأثيره عليه أخذ شكلًا مختلفًا تبعًا لأهميّة الشخص المقابل له. وفي لحظة شعر أنّ عليه أن يعيش تجربة ما ليكتمل المشهد في مخيلته. فتح الفيسبوك، ليجد أحدهم قد علّق "ما هي عمّان فيها بحر، بس مشكلته ميّت". لم يعر القهقهة التي تلت العبارة بالًا، ووجد نفسه قد وصل بالسيارة حتّى ناعور لا واعيًا. الشّمس آيلة للمغيب، وبرودة الطّقس تشي بالموت. تنساب من الرّاديو أغنية لا تمجيد للملكيّة فيها "عمّان يا دارنا.. محلى لياليكي.. معقول هذا العشق.. والله نموت فيكِ". بدت الأغنية حميمة في البداية، لكنّها أوحت بسذاجة ما، بشيء غير مفهوم.

***

       ثمّة مفارقة في أن يكون هناك ثمن لزيارة بحرٍ "ميّت". فكّر "جاري" في أنّها قد تكون محاولة من الحكومة لإحيائه، لذا دفع العشر دنانير بشيءٍ من الرضا. قد لا يتناسب المبلغ المدفوع مع منظر الأوساخ الملقاة بعناية فائقة على الشاطئ، والمقاعد المكسّرة الأطراف، لكنّ شيئًا ما في المنظر كان متّسقًا مع حال البلد، مع حال المواطن، وأخيرًا مع ما كان "جاري" مقبلًا على القيام به. ألقى "جاري" حوله نظرة، فكّر في أن يلقي نفسه في البحر فيتّحد معه، لكّنها نهاية تراجيديّة / ميلودراميّة لا تليق بقصّة عن حبّ البحر. بعد شيء من التفكير لم يجد بدًا من إشباع النّهم الّذي يلفّه؛ فخلع ملابسه ونزل ليسبح. أمضى وقتًا طويلًا في البحر قبل أن يخرج. من ثمّ، فتح الفيسبوك من جهازه المحمول، وتحت نفس المنشور الذي كتبه صباحًا علّق: "الملوحة ولا البلاش".


Impression, Sunrise by Claude Monet