الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

2013.. عام من الذكريات

·        عتبة أولى:

"هذا نص طويل طويل؛ انثيال كبير للذاكرة. لذا لا أتوقع أن يكمل قراءته أي مارّ مصادفة بالمدوّنة."

***

·        عتبة ثانية:

لماذا ينبغي على هذا اليوم أن يختلف عن البارحة؟ لماذا علي أن أجبر نفسي على الجلوس والكتابة عن العام الماضي؟ ماذا لو لم تكن كل هذه التقسيمات موجودة من الأساس، لو كانت الأيام تلحق بعضها بجنون دونما وجود رقم يقول بأن هذا اليوم هو أول أيام 2014 والبارحة كان آخر أيام 2013؟ تثيرني مثل هذه الأسئلة العبثية، فها أنا أكتب رغم كل تلك الأسئلة التي قد يثنيني أي منها عن الإكمال.

***

·        عن القراءة:

في الرواية، الجملة الأولى قد تساهم في صنع عمل عظيم، نوع من الحب من النظرة الأولى. أعتقد أنها فن يحتاج إلى موهبة. قرأت يومًا رواية لأورهان باموق، "الحياة الجديدة"، لا أستطيع الآن أن أصف كم كرهتها، وكم استنزفت من وقتي وجهدي. الآن، لا أتذكر كثيرًا من أحداث الرواية، إلا أن الجملة الأولى ما زالت تحوم في رأسي كأنني أقرأها للتو، لقد كانت مثل حلمٍ جميل لا ينفك يراودني. "قرأت كتاباً في يوم ما فتغيّرت حياتي كلها". كانت هذه الجملة كفيلة بأن تعتق رقبة أورهان، بل وربما رقبتي أيضًا دون أن أعلم، وأن تعيدني له الآن بعد عامين لأقرأ له كتابه الهائل "اسطنبول".

إن سلمنا بأن الحياة "رواية"، فنحن نسلم ضمنًا بأننا بحاجة إلى عتبة ما. نقطة فاصلة؛ كبوابة سحرية ربما. لا أتكلم عن نقلة من الأسوأ للأفضل، أتكلم عن شيء يخصنا، نستطيع إفناء عمرنا ونحن نلهث وراءه. أود الآن لو أتجاوز ذلك الأورهان، وأتحدث في أمرٍ آخر، لكن يبدو أنه بات لعنتي الخاصة. في كتابه اسطنبول يقول: "يقودنا تأمل الذات، ولو مرة واحدة في العمر، إلى فحص ظروف ميلادنا. لماذا ولدنا في هذا الركن من العالم وفي هذا الزمن تحديدًا؟" في يومٍ ما استيقظت، كنت في السادسة عشر من عمري آنذاك، شعرت بفراغ يكاد يلتهمني، فقررت أن أقرأ، هكذا بلا أية مقدمات، أو ترتيب مسبق. تلك اللحظة كانت إجابتي الخاصة عن ذلك السؤال، عتبتي.. التي لم أتجاوزها بعد.

وضعت تحديًا على موقع "Goodreads" هذا العام بأن أقرأ 60 كتابًا، أنجزت منها 55. وقد كان هذا أعلى رقم أصل له في عام واحدٍ في حياتي. كان شيئًا جميلًا أن أشعر بضرورة قراءة 5 كتب شهريًا، وحده الإلزام ما يمكّنني من إنجاز المهام الصعبة، وإن كان ذلك على حساب الدراسة غالبًا.

أجمل ما قرأت كانت رواية الجنوب أفريقي (ج. م. كويتزي) "خزي". كانت عملًا استثنائيًا عثرت عليه صدفة في مكتبة الجامعة. هو أحد الكتب القليلة التي أشعر بنفسي أملك كنزًا وأنا أحمله. لم يكن وحده المتميز بالطبع، فجدارية محمود درويش لا زالت حاضرة  في ذهني، رغم أنها من أوائل ما قرأت العام المنصرم؛ لمحمود درويش سحر غريب، تحدثه عن الموت كان آسرًا لدرجة أنني لا أستطيع استساغة أية قصائد تعالج الموضوعة ذاتها الآن. "ساق البامبو" كان عملًا استثنائيًا هو الآخر، والأجمل منه هو براعة كاتبه "سعود السنعوسي". هذه الرواية من الأعمال التي  لا تخرج إلا عن كاتب موهوب، أشعر أنني لي القدرة على اشتمام الموهبة وتمييزها عن العمل المتميز بسبب اشتغال الروائي طويلًا عليه؛ وهذا العمل موهوب بشكل استثنائي. لا أنسى أيضًا مسرحية "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم، إنها عمل لا ينسى، ضرب فيها الحكيم بمفهوم الزمن عرض الحائط بحكاية ميشيلينا وبريسكا.

في الحديث عن القراءة، فضلت أن أؤجل الكلام عن بورخيس، لأفرد له مجالًا أكبر. ذلك الأعمى الذي كان يرى أوضح منا جميعًا. "الأعمى الذي رأى التفاصيل" كما وصفه أحدهم. بورخيس الذي يرى الجنة مكتبة كبيرة، بورخيس صاحب المتاهات والمرايا والنمور. بورخيس العصي على الوصف. هناك نوع من الكتاب، يظل يتردد اسمه في جنبات حياتك، تفتح الإنترنت تجده بوجهك، تبحث في مكتبة الجامعة عن كتاب مدة طويلة، فتتعثر به وأنت منهوك في البحث عن شيء آخر. تظل تؤجل قراءته إلى أن تفسح له المجال بين كتابين، لتقرر بعد أن تنته من كتابه الأول أن يكون كتابك التالي له نفسه. الكاتب الوحيد الذي رغبت أن أشتري كل أعماله دون أسأل عن أيها أفضل من الآخر هو بورخيس، يا للحظ الجميل الذي جمعني به. قرأت له "صنعة الشعر" وهي ست محاضرات ألقاها في جامعة هارفرد على طلاب الأدب، يتحدث فيها عن الشعر. للحظة تمنيت أن أكون أحد الجالسين على مقاعد هارفرد وأسمعه مباشرة بدل أن أقرأ تفريغًا لتلك المحاضرات، إنها حظوة لا أظن من نالها قد ينساها بسهولة. وقرأت له مجموعة قصصية صغيرة في غاية الجمال "ذاكرة شكسبير". ومجموعة تتراوح بين قصص وأشعار "الصانع"، كانت متفاوتة المستوى إلا أنها بديعة أيضًا. هذا العام، سوف أفرد له الكثير من وقتي، فهو خير من يقدم اللذة الأدبية.

 (هذا فيلم قصير يعبر عما أراد أن يصل له بورخيس 
طوال حياته، أعتقد أن مشاهته ضرورة حتى لمن لا
يعرفه)



***

·        معرض نون

حياتي أشبه بخط مستقيم (ولست أتحدث عن الأخلاق هنا) يشوبها القليل من التعرجات. كل ما أذكره مرتبط بطريقة أو بأخرى بالكتاب. الحدث الأبرز الذي حصل في العام الماضي، والذي يصعب أن أتجاوزه هنا هو (معرض نون للكتاب المستعمل) الذي نظمه نادي "انكتاب" للقراءة . أذكر أنني تطوعت بالقليل من الفعاليات من قبل، لكنّ هذا كان الحدث الأبرز الذي أشارك فيه. كانا يومان من العمر: العد التنازلي لبدء المعرض، الرجل الذي رفع "دشداشه" وبدأ يهرول تجاهي ليكون أول من يفتتح المعرض، الشعور بالوقوف على أدواتٍ حادة بعد 6 ساعات متواصلة من العمل على مدار يومين، الخوف من إضاعتي لكيس النقود والبدء بوضع حلول لهذا المأزق كأن أبيع هاتفي المحمول مثلًا.  الكثير من الصور التي أستطيع الاستدلال بها في يوم شؤم بأنني قد مارست الفرح يومًا. نهاية اليوم الثاني مصحوبًا بالكثير من الضحك مع الأصدقاء. الاسلتقاء على السرير بعد انتهاء المعرض والتفكير بكل الأحداث الجميلة التي صادفتني به.

·        صور من المعرض:








***

·        اسطنبول 

زيارتي لإسطنبول أيضًا كانت حدثًا عظيمًا في العام الفائت. بلاد القباب كما وصفها أحدهم. لم أرد الذهاب بداية، ورغم إصرار أهلي إلا أنني تعنّت بأنني أفضل إمضاء تلك العطلة بعمّان وحدي. لكن في اللحظة الحاسمة صمتّ؛ كان اسم اسطنبول وحده كان كافيًا ليهدم كل ملذات عمان أمامه. من بين كل المدن التي زرتها، اسطنبول تعتبر استثناء؛ مدينة لا مثيل لها. البحر يحيط بك أينما يممت وجهك، اللغة التركية التي لا أجد الكلمة المناسبة لوصف جمالها، إنها لذيذة على الأذن كطعام شهي. قد يكون ما سأقوله غريبًا، إلا أن من أكثر الأشياء التي تجذبني بالأتراك أيضًا هي شواربهم الكثّة. أول شيء يخطر ببالي حينما أسمع اسم تركيا أمامي هو البحر والشوارب، تركيا بلد يغرق رجاله بالشوارب.






*

لا بد لي في معرض ذكر اسطنبول، أن أذكر النعمة التي حباها الله لتلك المدينة بأن جعلها الوريثة الأولى والشرعية لحضارة العثمانيين. فن العمارة في بناء المساجد شيء يفوق الوصف. مساجد تطول مآذنها عن الـ 20 والـ 30 مترًا، قبابٌ بحجم ملعب كرة قدم، شيء لا يوصف، عدا عن قصر "طوب قابي" الذي يحوي العشرات من آثار الرسول والصحابة وبعض الأنبياء. كنت أرى تلك الأشياء على الإنترنت ولا أصدق، لكنني رأيتها رأي العين. أبي ما زال لا يصدقهم، إذ كيف لعصا النبي موسى على سبيل المثال أن تظل على حالها حتى الآن؟ لكنني وبكل حسن نية أقبل أن يمارس الأتراك عليّ لعبة "الضحك على الذقون" تلك. ومن باب "البينة على من ادّعى" فأبي هو المطالب بإثبات العكس لا هم.

(المسجد الأزرق - أحد أكبر مساجد اسطنبول)









(عمامة النبي يوسف عليه السلام)








*

يقول أورهان باموق عن البوسفور (ألم أقل إنه لعنتي الخاصة؟!): "إذا كانت المدينة تعبر عن الهزيمة والخراب والحرمان والسوداوية والفقر، فالبوسفور يشير إلى الحياة والمتعة والسعادة". من بين كل حسنات اسطنبول، أكتفي بجولة في البوسفور، فهي الشيء الأكثر متعة في تلك المدينة. لا أريد المغالاة بالمديح أكثر، فقد قلت ما يكفي. وسأقف عند هذا الحد.













***
·        عن الوطن العربي

عند الحديث عن الذاكرة، سيكون من المشين ألّا آتي على ذكر الأحداث في الوطن العربيّ. أحاول قدر الإمكان أن أنفصل عن الواقع الأسود الذي يحيط بنا، لكن شيئًا من تأنيب الضمير ينخزني كلما حاولت. الجحيم، هو أن تولد مواطنًا عربيًا هذه الأيام. كيف لا ولا يوجد بلد عربي وإلا فيه ما فيه من نكبات. وأنا لا أتحدث هنا عن خسارة غزوة أحد مثلًا، فما أتحدث عنه كله وليد العام الفائت. المآسي تلاحقنا يومًا بيوم كأننا قدرها الوحيد. هل أذكر سوريا أولًا أم الأوضاع المتردية في غزة مثلًا؟. لم أعد أدري أي نكبة فيهما أكبر. هل أذكر مصر، التي وقعت في ذات الجب الذي رمي به يوسف عليه السلام بعد احتلال العسكر لها مجددًا؟ أم لبنان التي يقصفها مرتدو اللحى لتطهيرنا من الكفرة الشيعيّين، ويتركون اليهود يسرحون ويمرحون في فلسطين؟. لا أريد أن أكمل، فالقائمة طويلة طويلة؛ ونكؤ الجرح لا يزيده إلا ألمًا.



(أختم مع هذه الأغنية للفرقة المغربية "الأخوان مجري")



                                                                                                                    01-01-2014
                                                                                                              السادسة والنصف صباحًا          
                     

الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

هاجس كبير بحجم قطة

           في ذلك اليوم البعيد الآن ابتدأ كل شيء، قبل ثلاثين سنة ربما. تتخذ الفظاعة أشكالًا كثيرة لدى البشر؛ إلا أن القطط كانت وستظل هي الشكل الأكثر ظلامًا لهذا العالم في مخيلتي. تلك الكائنات الممسوخة؛ التي لا يحضرني حينما أحاول استحضار شكلها سوى أذنيها الغبيتين وذيلها الذي نبت لها لخطيئة لا بد أنها اقترفتها يومًا ما. في ذلك اليوم كنت عائدًا إلى البيت، وفي يدي كيس من البيض، كنت طفلا حينها. لم أكن أعلم أن الهواجس دائمًا ما تختبئ عند المنعطفات، لذا سرت بكل تؤدة، قبل أن أدخل ذلك الشارع. لنفترض أنني كنت أسير على الطرف الأيسر من الشارع، وعلى الطرف الآخر منه كان هناك جدار، أسفل الجدار كان هناك قطة (أو ربما قط لا أدري).

           حدجني ذلك الشيء بنظرة توقف عندها الزمن بضع ثوانٍ. حاولت أن أهشه بقدمي علّه يتذكر أنه مجرد قط سمين، إلا أنه ظل واقفا هناك كسارية. حاولت التحدث بلغته التي ظننت لحمقي أنني أتقنها: ميااااااااو (إن كان ما قلته له معنى في عالم القطط، فأجزم الآن بأنني قد سببته). ظل واقفا يناظرني بغضب. وفي لحظة ما التمع في ذهني الصغير الحل؛ رميت كيس البيض ورائي، وانطلقت كالسهم لا أقصد إلا البيت الذي لم يكن يبعد أكثر من عشر خطوات!.

***

           منذ ذلك اليوم دخل عالم القطط في حياتي، وإلى الأبد. بدأت أحلم أحيانًا، بقط سمين، له عينا صقر علمت فيما بعد أنه يدعى الهيمالاي ينظر تجاهي. وأحيانًا بقطٍ يتلمظ، وما أن ينقض علي حتى أستيقظ. كان ذاك هو الرعب الحقيقي، كنت أستيقظ مبتلًا من شدة العرق كأني قد ركضت ملعب كرة قدم. أخذني والداي إلى الطبيب النفسي أكثر من مرة، كان يصف لي أدوية مهدئة تجعلني أنام أكثر، فأحلم بمزيد من القطط. أحببت فتاة في سن المراهقة، اكتشفت في اليوم الثاني لإعلاني حبي لها بأنها مهووسة بالقطط، أغلقت هاتفي وتحولت إلى فراغ كبير حتى لا تجدني من خلاله؛ وهذا ما حصل. فيما بعد اكتشفت  بأنها قد تزوجت من طبيب بيطريّ.

           أفكر الآن بأنه لو كان لي قلب حقيقيّ، لأطلقت النار على كل قطط العالم وأعلنت خلاص البشرية منها. فكرت كثيرًا في حل مجدي لهذه المعضلة، ولم أجد سوى الهدنة حلا مع هذه الكائنات اللزجة. في الشارع الذي أسكن فيه، هناك قطعة أرض واسعة لا مبانٍ فيها، استفسرت عن صاحبها واشتريت الأرض منه. رتبت المكان بما يلائم معيشة قطط الحيّ، والأحياء المجاورة جميعها. كان ينتابني القرف لمجرد لرؤيتي إحداها تتقافز أمامي؛ فبنيت عالمًا خاصًا بها وحدها، حتى أضمن سلامة المشهد البصري. 

***

           طوال عمري لم أختبر المشاعر المتطرفة، حياتي بأكملها تتراوح بين الهدوء والعصبية الآنيّة. سمعت كثيرًا عن أناسٍ يقتلون شخصًا ما، قد يكون أنفسهم فقط لشعورهم بالرغبة بالقتل، عن أناسٍ ينهارون عصبيًا لحدث ما، عن أشخاصٍ فقدوا مشاعرهم تجاه كل شيء، عشاق ينحلون، آخرون يسمنون. بالنسبة لي، كان كل ذلك غريبًا عني، كنت أكثر شخصٍ طبيعيٍ قابلته في حياتي.

           بعد عدة أشهر كانت كافية لأنسى شكل القطط فيها، وبعد انتهاء يوم عملٍ شاق، هممت بالعودة. عند الانعطافة الأخيرة صوب المنزل، كان هناك كائنًا لم أعرفه جالسًا على عتبة بابي. أول ما لاحظته فيه هو أذنيه الغبيتين، وذيله الذي لا بدّ أنه نبت له لخطيئة اقترفها يومًا ما. سرت موجة اشمئزاز في بدني. ركضت إلى المنزل بلا شعور، كأنما كنت أحدًا آخر. تناولت المسدس من درج المكتب دونما كثير تفكير، وأفرغت 3 رصاصاتٍ في رأسه. شعرت بالرضا لقيامي بذلك، فرؤيته كانت كصوت ناشز في السيمفونية التاسعة - الحركة الرابعة لبيتهوفِن.

           كان ذلك آخر يومٍ أرى فيه ذلك الكائن الغريب في حياتي.










عن "قطار الليلة إلى لشبونة - Night train to Lisbon" وأشياء أخرى





              عن الحب، عن الحرب على الشعب والحرب المضادة، عن الصداقة، عن القراءة والكتابة، عن المهمشين، عن كل الثنائيات والثلاثيات والرباعيات والمجاميع الجميلة في هذه الحياة. أيعقل أن يحتوي فيلم واحد كل تلك المضامين؟ أي كاتب ذاك الذي تتقد مخيلته بكل تلك العبقرية؟ وأي مخرج ذاك الذي تكفل بأن يحول كلماته إلى جنة بصرية؟ كثيرًا ما أسأل نفسي ما جدوى مشاركة أفكارنا مع الآخرين؟ ألا يعقل أن يفكر أحدهم بفكرة عبقرية، ويكتفي بمشاركتها مع نفسه كأن يكتب أحدهم رواية ما، ثم يركنها على الرف وهو في قمة السرور لعدم نشرها.. دون أينقص ذلك من كم الجمال الذي من شأنها إضافته للعالم؟ رغم أنني أؤمن باحتمالية حصول ذلك، إلا أني لم أكن لأفضل أن يتعنت "باسكال مرسييه" و"يصمد" روايته على الرف.

***

              منذ البداية، كل شيء يوحي بأن "رايموند جريجوريوس" ما هو إلا شخص عادي، كأحد أحجار لعبة الشطرنج التي يلعبها وحده!. أستاذ مدرسي خمسيني، ذو شعر فاتن، يدرّس الفلسفة، يقابل وهو في طريقه إلى عمله شابة تهم بالانتحار من أعلى جسر معلّق. تظل مسمّرة مكانها ليأتي وينقذها (تقاطع قدري منتظر لبناء حكاية ما). كما تظهر، تعود وتختفي مجددًا مخلفة وراءها معطفًا، وكتابًا، والكثير من الحيوات التي بحاجة إلى نفض الغبار عن سطحها المثقل.

              كتاب مذكرات عادي، كان يمكن أن يكتبه أي معاصر لفترة حكم الديكتاتور سالازار في البرتغال. لكن شيئًا ما فيه لامس قلب "رايموند" فيقرر أن يخوض التجربة؛ بحثًا عن ذاته التي نسيها مع طلابه أولًا - في مكان ما يقول: "أعداد كبيرة من الطلبة تتغير كل عام؛ لذا أحاول ألّا أتعلق بهم" -، ثم بحثًا عن الكائنات التي حواها الكتاب. كاتب المذكرات "أماديو برادو" طبيب ومعارض. مات ولم يترك وراءه الكثير ليقال إلا هذا الكتاب؛ الذي يشكل البوصلة الوحيدة التي بإمكانها التدليل عليه. ومنه يبدأ "رايموند" بفضول غريب تقفي أثره وأثر كل المذكورين بالكتاب، ليجمع قطع الأحجية شيئًا فشيئًا ويفهم لماذا أرادت فتاة الجسر بالانتحار.

***

              عادة عندما أكتب عن شيء أعجبني، أشعر بالمسؤولية تجاه القراء المفترضين (لا أتوقع وجودهم بأية حال)؛ فأسهب بالكلام حتى عن أدق التفاصيل. حتى أشعر بأنني لو كنت ذلك القارئ المجهول سوف أفهم ما كتبت بسهولة. لكنني – ولأول مرة – أتحرر من ذلك الشعور بالمسؤولية، إذ أرغب بأن أكون أنانيًا وأتفرد بكل ذلك الجمال الذي يكتنز به هذا الفيلم: طُرُقات لشبونة، البحر الذي كلما تشابه مظهره زاد جمالًا مع اختلاف المكان، الموسيقى، ثنائية الحرب والحب، التي كلما طرحت في الأعمال الفنية سواء المكتوبة أم المرئية أكثر فأكثر كلما زادت بهاءً. تلك الجملة التي يقولها "رايمومند" متحدثًا عن طليقته: "أعتقد أنها تركتني لأنها - (صمت هنا) – لأنها وجدتني مملًا". عن قول الطبيبة "ماريانا" له: رايموند، أنت لست مملًا. عن الصمت الذي أعقب طلبها منه البقاء في لشبونة قبل أن يهم بالعودة إلى سويسرا (مكان عمله).

***

              سمعت مرة جملة لا أعلم قائلها اليوم: "أخشى أن تصبح الحرب شيئًا مرغوبًا". لكنني أجد نفسي منساقًا للقول بأن الحرب شيء فاتن، إذ لها القدرة على استنباع الجمال من القذارة. كيف للموت أن يكون جميلًا إلا حينما تصوغه يدا روائي بارع؟ أو سينمائي عبقري؟ أنا أقولها – ربما من دون كامل وعي – أنني مع الحرب لو كانت ستأتينا بهكذا جمال، أنا معها لو أنها ستعيد صياغة مفاهيمنا للحب، للحياة، لشغفنا تجاه أبسط الأشياء، لشهقتنا حين نشاهد مناظر الدم العبثية في كل مكان. أنا معها لو كانت الحل الوحيد لنستعيد إنسانيتنا / لأنسنة الحيوان الذي صرناه (مع الاعتذار والاحتفاظ بأصالة التسمية لممدوح عدوان).

              لطالما آمنت بالتفاصيل، فكم من فكرة عبقرية هُمشت بقلة التفاصيل الفارقة، وعلى النقيض؛ كم من فكرة مكرورة باتت برّاقة بتفاصيلها. من بين كل شياطين العالم لا أعشق إلا شيطان التفاصيل؛ فإغواؤه أشد أثرًا من إغواء القفز بمظلّة (التي – للمناسبة – لم أجربها).


              يسعدني القول أن كلًا من الكاتب (باسكال مرسييه) والمخرج (بيلي أوغست) كانا عظيمين بالقدر الكافي لإنتاج فيلم هائل. ويجب أن أذكر أنني في غاية الامتنان لعدم انسياق الحكاية وراء البوليسية التجارية، ولا وراء البهرجة الصورية غير المجدية، وممتن أخيرًا لأنني شاهدت فيلمًا بنهاية مفتوحة غير سعيدة. 

                                                
                                                                                                                            5:45 صباحًا
                                                                                                                           12-12-2013
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط موسيقى الفيلم الهائلة على اليوتيوب من هنا