الثلاثاء، 13 نوفمبر 2018

الحقيقة بوصفها طريقًا أعوجَ بين الجنّة والجحيم


يُورِدُ أبو حيّان التوحيديّ قولَ بعض العرب في ليلته الخامسةِ والعشرين، إذ يقولون"خيرُ الكلام ما لم يُحتج معه إلى كلام"1منذ فترة، كنتُ أقرأ "لذّة النّصّ" لرولان بارت، وإذ به يقول: "إذا قبلتُ أن أحكم على نصٍّ حسب اللذة، فلا يمكنني أن أنساق إلى القول: هذا نصٌّ جيدٌ وذاك نصٌّ رديء. ]...[. فليس في وسعِ النص ]...[ أن ينتزع منّي سوى الحكم التالي الذي ليس نعتًا ألبتّة: هو ذاك، بل إنّي أقول: هو ذاك بالنسبة إليّ. وعبارة "بالنّسبة إليّ" هذه ليست ذاتيّةً ولا وجوديّةً بل هي نيتشويّة ("... إنّه في العمق دائمًا نفس السّؤال: ما هذا بالنّسبة إليّ؟")"2ثمّ فكّرت من توّي، لو قرأ أولئك العرب ما كتبه رولان بارت، هل كانوا ليتمسّكوا برأيهم؟

إنّ خيرَ الكلام، على النقيض ممّا كتب التّوحيديّ، هو الذي يُحتاج معه إلى كلام، ذاك الذي يشلُّنا مثل فرحٍ مفاجئ، هو الذي وصفه أبو حيّان التوحيدي نفسُه، أبو حيّان الذي تمتّعَ بلعب دور الله في ليلته، إذ يسجّل آراء هذا وذاك كيفما اتّفق، رغم مقدّمته عن كون الكلام خطيراً، وأنّ غاية لا تُرتجى منه للوصولِ إلى رأيٍ مُتّفقٍ عليه.

قُلتُ في الفقرة السابقة فرحًا، وتذكّرتُ الآن ابنَ سينا وهو يعرّف المُخَيِّل"ما تُذِعن له النفسُ فتنبسط على ضروب وتنقبض على ضروب..."3العلاقة مع الشّعر، النّثر: رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي تحديدًا، علاقةُ عنفٍ، إذعان، لا فكاكَ لنا ممّا يُخيِّل أمام ناظرينا، كأنّنا على بعد شعرة من الموت ننظرُ في أعين ملك الموت، فلا يتركُ لنا فرصة تذكّر ما اختبرناه في جنّة المعرّي أو جحيمه.

يشُدّ الوقتُ قميصي من قُبُللماذا لم تُكمل تعريف ابن سينا للمُخَيِّل؟ فأضحك من محاولتي المُخجلة بمحاكاةِ أضرُبِ المحاكاةِ عندَهاللحن، الكلام، الوزناللّحن يُخلق بالتقطيع، وأنا لحني لِبنتُه التّردّد. "أكمل، أكمل..." يقول الوقتُ لي، والكلامُ الآن لابن سينا"...فتنبسط على ضروب وتنقبضُ على ضروب من غيرِ كدٍّ ولا إعمال فكرٍ ولا اختيار"3.

إنّ الأفعالَ، كما يقول الفارابي، كثيرًا ما تتبع الخيال، لذا سأحاولُ تتبّعَ ما فعله بيَ المعرّي في رسالة الغفران، وابنُ شهيد الأندلسيّ في رسالته التّوابع والزّوابع. ولأنّ المادّة أمامي كبيرة (لنتخيّلها غابةً مهولة)، ولأنّني لا أعرفُ بعدُ من أين أبدأ، سأستحضر أوّلًا قدامة بن جعفر "ركيكَ البلاغة في وصف البلاغة"4 كما وصفه التوحيديُّ، ليعينني على المَهمّة: "إن المعاني كلها معرضة للشاعر وله أن يتكلّم منها فيما أحبّ وآثر من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه إذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادّة الموضوعة والشعر فيها كالصورة"5وعلى حيرتي أمام المادّة أمامي، أودّ لو يعذرني: المعلّم الثّاني والشّيخ الرئيس، لأنّني أشعر أنّني صادقٌ فيما أفعل، وإن أبيا، فليتجاهلاني، وليركّزا مع أبي العلاء المعرّي وابن شهيد الأندلسيّ. 

أمّا رسالة الغفران، فقد نبشها دانتي من وسط الغابة: "لماذا هذا الاهتمام المفاجئ بكتاب أهمله القدماء أو لم يولوه عناية خاصة؟ الجواب يكمن في كلمة واحدة، في اسم واحددانتيلولا دانتي لما اهتمّ أحدٌ برسالة الغفران."6، وكذا رسالة التوابع والزوابع، إذ نفض الغبار عنها أبو الحسن الشنتريني في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، وطه حسين من بعد حين نشرها عام 19397.

الغابة كثيفةٌ أشجارها، لا شمسَ تسطع عليها ولا قمرَ يؤنسهاظلمةٌ، إن أدلج موسى فيها، وسلك يده في جيبه ثمّ أخرجها لن يرى بياضها من سوادهاأقلب الحجارة باحثًا عن المعنى، وصوتُ الجاحظ في "البيان والتبيينو"الحيوانيبزّني: "إنّما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها، وإخبارهم عنها، واستعمالهُم إيّاها"8، "والمعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي..."9.

أعود إلى رسالة الغفران بحثًا عن أيّ فكرة، وما أكثرها لولا سوء النّظرأثناء تجوال ابن القارح في الجحيم، يمرّ على تأبّط شرًّا، فيقول المعرّي على لسانه: "فيقول، أسنى الله حظّه من المغفرة، لتأبّط شرًّاأحقٌّ ما روي عنك من نكاح الغيلان؟ فيقوللقد كنّا في الجاهليّة نتقوّل ونتخرّص، فما جاءك عنّا ممّا ينكره المعقول فإنّه من الأكاذيب، والزّمن كلّه على سجيّة واحدة، فالذي شاهده معدّ بن عدنان كالذي شاهد نضاضة ولد آدم"10وفي موضعٍ آخر، يسأل ابن القارح الحطيئة: "بمَ وصلت إلى الشّفاعة؟ فيقولبالصّدقفيقولفي أيّ شيءٍ؟ فيقولفي قولي:

أبت شفتاي اليوم إلّا تكلّمًا ... بهُجرٍ، فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهًا شَوّه الله خلقه ... فقُبّحَ من وجهٍ، وقُبّحَ حامله"11

الشّعرُ محنةٌ للشّعراء كما يقول ابن طباطبا12، لكنّ وصفه بالمحنة غيرُ كافٍ لدخول الجنّةإذ عليك أن تُحضر سببًا حتّى يُغفرَ لك. يوهمنا المعرّي هنا بعلاقة الصدق الكذب بالمغفرة، والصدق والكذب هنا لا يأتيان كما وردا عند الفارابي أو عند ابن سينا، إذ لا إحالة تُرتجى على مفهوم التّخييل عندهما3، بل هما أقرب لأحوال الخبر عند الجاحظ؛ الحطيئة يهجو نفسه مُعتقدًا فيما يقول، وكذا تأبّط شرًّا، يكذب مُعتقدًا استحالة ما يقول، حين قال: "أنا الذي نكح الغيلان في بلدٍ ... ما طلّ فيه سماكيٌّ ولا جادا"13أقول يوهمنا، لأنّ الصدق ليس منجاة دومًا كما يرد في رسالته، إذ دفع طرفة بن العبد ثمنه الهبوط إلى الجحيم "وددت أنّي لم أنطق مصراعًا، وعدمتُ في الدار الزائلة إمراعًا، ودخلتُ الجنّة مع الهمج والطّغام..."14في النّهاية "المغفرة أرزاق، كأنّها النشب في الدار العاجلة"15، كما يُلخّص أوسُ بن حجر رؤيته لمغفرة الله من عدمها.

خطوة إلى الوراءما زال الشكل الذي ظهرت فيه رسالة الغفران غريبًا ومستغلقًا عليّ، على الأقل في جزئها الأوّليقترح عبد الفتّاح كيليطو سببًا لهذا المنحى الذي أخذته الرسالة: "يتبيّن لنا أنّ استحضار الآخرةِ ووصفَها عبارةٌ عن استطراد، ولعلّه لم يكن في حساب المعرّي، فلم يأتِ على الأرجح نتيجة تخطيط مسبقفكأنّ المعري أُخِذَ على حين غِرّة وفوجئ بفيض الكلام، فانساق مع حركته بنشوة عارمة"16يذكّرني اقتراح كيليطو في كون الجزء الأوّل من الرسالة ليس إلّا استطرادًا، بأنّ أبا العلاء جزءٌ من تراثٍ كاملٍ يمجّد ما يأتي عفو الخاطر3، ما يخترقنا فنُذعن له، كأنّنا راهب امرئ القيس "ممسى متبتّلِلشدّة ما لذّت أنفسنا لما نقرأ. أعود من استطرادي الآن، فالأفكار مثل الماء، فيض، إن هي دفقت، تُغرقلكنّ الماء مثل الكلامكلاهما سائلٌ لا يُمسك، و"الكلام على الكلام صعب"17لماذا هو صعبٌ هنا؟ لأنّ اقتراح كيليطو لا يقدّم حلًّا لعديدٍ من الأشياءلماذا اختار المعرّي ابن القارح، لا نفسَهُ، سفيرًا لرحلته؟ لماذا الشعراء تحديدًا - والأنبياء والشيطان - يتقاسمون الجنّة والجحيم والمحشر دونًا عن عامّة الناس؟

أعود إلى الغابة، وأنقّب أسفل حجارة الفارابي علّي أجد جوابًا ما: "وكذلك نحن ربّما لم نعرف زيدًا، فنرى تمثاله فنعرفه بما يحاكيه لنا، لا بنفس صورتهوربّما لم نرَ تمثالًا له نفسه، ولكن نرى صورة تمثاله في المرآة، فنكون قد عرفناه بما يحاكي ما يحاكيه، فنكون قد تباعدنا عن حقيقته برتبتين"18إذا استعرنا التمثال للرسالة، ومددنا الاستعارة، فإنّ زيدَ الفارابي هو ابن قارح المعرّينرى صورته منعكسةً على مرآة الكتابة في الرسالةوقبل أن نعرف عن أيّ حقيقة نبتعد، علينا تقصّي كنه المحاكاة القائمة في الرسالة.

سأُشرك ابنَ شهيدٍ، ورسالته، في الحديث هنايذهب ابنُ شهيدٍ وتابعُه زهيرُ بن نمير إلى وادي عبقر ليلاقي الشعراء والخطباء والجنّ والحيوانات، لكنّه، وتابعه، لا يطلبا الإجازة إلّا من الشعراء دونَ غيرهميتباهى ابن شهيد بشعره كما نثره أمام الجميع من بشرٍ وجنٍّ وإوزّ، لكنّ طلب الإجازة مقصورٌ على الشعراء وحدِهموعلى غراره، لا نجد في جنّة المعرّي وجحيمِه إلّا الشعراء (ونبيّين، وشيطانا رجيما، أضاف إليهم بعضًا من آل بيت النّبي). "يحاكي ما يحاكيهليست هي المعضلة (مبدئيًّا)، فمحاكاة إسراء الرسول إلى بيت المقدسإسراء ابن شهيد إلى وادي عبقر؛ معراج الرسول إلى السماوات السبعمعراج ابن القارح إلى الجنّة وهبوطه إلى الجحيم، واضحة ولا داعيَ لطويل تفكّر حتّى ننتبه لهاأمّا غير الواضح هو تلك "الحقيقةالتي تغيّاها المعرّي وابن شهيد في فعليهماوفي رسالة الغفران تحديدًا، إذا أراد المعرّي غاية من رسالته، لنسمّها حقيقة، فلماذا اختار رجلًا غيره، وإن مدحه بأفضل الصفات، ليحاكي به الرسول، فيبتعد عن غايته بدرجتين؟

إنّ موقف الله/القرآن من الشعر، أقلّ ما يمكن وصفه به؛ الالتباسوسأدخل إلى هذا الباب من خلال أبي العلاء، الذي قد يساعدنا في إجلاء الضباب قليلًا، لنرى مواضع أقدامنا على أقلّ تقدير، ففي قولٍ له من الجزء الثّاني من الرّسالة: "والشّعراءُ مطلقٌ لهم ذلك، لأنّ الآية شهِدتْ عليهم بالتخرّص وقول الأباطيل: "ألم ترَ أنّهم في كلِّ وادٍ يهيمون، وأنّهم يقولون ما لا يفعلون]الشعراء 225&226["19يحقّ لنا السّؤال وقد أوردَ أبو العلاء آية تُدين الشّعراء، مجدّدًا، لماذا كانوا وحدهم في جنّته وجحيمه دونًا عن سائر البشر؟ أم إنّ السؤال مقلوبٌ من الأساس، إذ يُوجّهه أبو العلاء للّه؟ إن كان الأمر كذلك، فكيف إذًا نفسّر موافقته مضمون الآية في الاقتباس السابق؟ جاء الاقتباس من الجزء الثّاني من الرسالة، وكما يُعرف فقد أتى الجزء الثّاني ردًّا على رسالة ابن القارح لأبي العلاءفي رسالته، أظهر ابن القارح خشونةً في التعامل مع المسائل الأخلاقيّة، الأمور عنده منضبطة، لها رائحة المنازل المرتّبة والنظيفةيصعب عنده أن يجتمع الشعر والكفر (أو أيّ نزعة مجانبة للتديّن "كما يجب أن يكون")، مثلًا "كذب والله ]يقصد المتنبّي[، لقد كان يتحرّش بالمكارم ويتحكّك بها"20، كأنّما ملك ابن القارح مفاتيح الجنّة والنّارالمغفرة بالتّبعيّةيقابل أبو العلاء تعصّب ابن القارح بثلاث طرائقالأولىمحبّة صافية، تظهر باختياره بطلًا للرّحلة، بوصفه المثال الأوضحوالثّانيةالمداراة، فأبو العلاء يظهر حرصًا على صورته أمام ابن القارح، فيوافقه على آرائه المتشدّدة أحيانًا، كأن يقول عن الحلّاج: "وأدلُّ رُتَبِ الحلّاج أن يكون شَعْوَذِيًّا، لا ثاقب الفهم ولا أَحْوَذِيًّا، على أنّ الصّوفيّة تعظّمُهُ منهم طائفة، ما هي لأمره شائفة"21ويخالفه بالتلميح أحيانًا، كأن يدافع عن المتنبّي مثلًا، عند الحديث عن مسألة ادّعائه النبوّة، في قوله: "وإذا رُجِعَ إلى الحقائق، فنطق اللسان لا يُنبئ عن اعتقاد الإنسان لأنّ العالم مجبولٌ على الكذب والنّفاق، ويُحتملُ أن يُظهِر الرّجل بالقول تديّنًا، وإنّما يجعل ذلك تزيُّنًا، يريدُ أن يَصِلَ به إلى ثناء، أو غرضٍ من أغراض الخالبة أمِّ الفناء، ولعلّهُ قد ذهب جماعةٌ هم في الظّاهر متعبّدون، وفيما بطن ملحدون"22. الثالثة، والأكثر تعبيرًا عن موقف أبي العلاء الحقيقيّاستعادة المغفرة/القوّة، في جزء الرّسالة الأوّل، وإمعانًا منه في ذلك، استخدم ابنَ القارح نفسَه أداةً في رحلته العجيبةالأمر الذي قد يفسّر سبب كتابة الجزء الأوّل منذ البداية، إذ لا تبدو استطرادًا بحتًا كما اقترح كيليطو سابقًا.

وقد وصلنا هذا الموضع، أريد اختبار فكرة أخرىهل قصد أبو العلاء، منذ البداية، محاكاة الرّسول في رسالته، أم أنّنا نحن من نبتعد عن الحقيقة درجات الآن؟ (سأستثني ابن شهيد ورسالته من السؤال، لعدم وضوح مراده في رسالته، إذ يبدو لي أنّه استطرد بفكرته، حتّى سبقته فخلّته وحيدًا يُجادِل إوزّة!، أو توخّيًا للصدق الذي أدّعي: لأنّه يفعل بي ما فعلته بوزع بابن قتيبة)23.

وكيلا أبعد بحكمي على المعرّي درجة عن الحقيقة، تمامًا كما يبتعدُ هو عن نفسه درجة باختياره ابن القارح وسيطًا في الرّحلة، عليّ أن أعود إلى الوراء قليلًا. يرد في سورة الأنبياء، الآية 3، التالي: "لاهيةً قلوبهم وأسرّوا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون"، كما يرد في سورة المُدّثّر، الآيات من 18 حتّى 25: "إنّه فكّر وقدّر، فقُتِلَ كيف قدّر، ثم قُتِلَ كيف قدّر، ثم نظر، ثمّ عبس وبسر، ثمّ أدبر واستكبر، فقال إنْ هذا إلّا سحرٌ يُؤثَر، إن هذا إلّا قولُ البشر". في الآيات السّابقة، على اختلاف مقاصد المشركين فيها، ثمّة اعتراف ببشريّة الرّسول. في بحثٍ لحسين عدوان، بعنوان "الجنون والنّبوّة"، يقول: "لجأَ المشركونَ في كلّ مرةٍ إلى تفسير الظاهرة القرآنيّة ليصلوا إلى قناعةٍ ما ببشريّةِ هذا الكتاب؛ فالقرآن يقرّرُ معَهم بوضوحٍ عن كونِ النبيّ "بشرًا"24.

ثمّة حديث طويل للرسول عن ليلة الإسراء والمعراج25، يصف به ما رآه في ذلك اليوم، بادئًا بتغسيل "آتٍلقلبه، ومنتهيًا بمفاوضاته مع الله على عدد صلوات اليوم الواحدفي ذلك الحديث، يصف الرسول صعوده إلى طبقات السماء السبعيتعرّف في كلّ طبقة على نبيّ أو أكثر، وينتهي اللقاء بجملة كالتالي: "هذا أبوك آدم فسلّم عليه، فسلّمت عليه، فردّ السّلام، ثمّ قال: مرحبًا بالابن الصالح والنّبيّ الصّالح". يُجاز الرّسول ممّن يشابهونه في حمل الرسالات، وهذا مفهومٌ في سياقه. لكنّ الموقف مقلوبٌ عند أبي العلاء/ابن القارح (وجه أبي العلاء الآخر)، إذ يبحث عن أسباب المغفرة في قصّة مخترعة، كأنّه من يمنحها، لا من يسأل عن أسبابها. 

أدّعي، أنّ أبا العلاء أراد محاكاة الله في رسالته لا الرّسول. وأستذكر هنا ما قاله حسين عدوان عن قناعة المشركين ببشريّة القرآن، إذ لولا وعي أبي العلاء بهذه المسألة، لانهار ادّعاؤنا سابقُ الذّكر. تقصّد المعرّي أن يسلك خطًّا يبدو فيه أنّه يحاكي الرّسول، لكنّه حافظ على وضع إشاراتٍ افترق بها عنه. في الليلة الخامسة والعشرين من الإمتاع والمؤانسة، أثبت أبو حيّان التوحيديّ لابنِ كعبٍ الأنصاريّ موقفَه المُساندَ للنّثر "من شرف النثر أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم ينطِق إلّا به آمرًا وناهيًا، ومستخبرًا ومخبرًا، وهاديًا وواعظًا، وغاضبًا وراضيًا، وما سُلب النظم إلا لهبوطه عن درجة النثر، ولا نُزّه عنه إلا لما فيه من النّقص، ولو تساويا لنطق بهما، ولمّا اختلفا خُصّ بأشرفهما الذي هو أجول في جميع المواضع، وأجلب لكلّ ما يُطلب من المنافع"26ارتضى المعرّي، وهو شاعرٌ قبل أن يكون ناثرًا، أن يبتعد عن الحقيقة درجة (أو درجتين، على طريقة الفارابي، إذا اعتبرنا الكتابة درجة ثانية من المحاكاة) باختياره ابنَ القارحِ لا نفسَه، وأن يقترب منها بالهيئة التي نطق بها محمّدٌ – صلّى الله عليه وسلّم - على لسان اللهالنثرلاقى محمّدٌ الأنبياء في معراجه، ولاقى المعرّي الشعراء (حتّى آدم الذي لقيه ابن القارح في الجنّة، تحدّث وإيّاه في الشعر). استثنى محمّدٌ بوصفه النّاقِلَ لكلامِ الله "الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا"27، ولم يرَ المعرّي غضاضة من إيراد الشّتائم على لسان أحد المغفورين لهم: النّابغة الجعديّ، مخاطِبًا النّابغة الجعديّ: "لحقُّك أن تكون في الدرك الأسفل من النار، ولقد صلي بها من هو خيرٌ منك، ولو جاز الغلط على ربّ العزّة، لقلت: إنّك غُلط بك!"28.

لكنّ الافتراق عن الرّسول، يبدأ، كما بدأ كلّ شيء، بالكلام29، أي باللغة. ورد في لسان العرب، في باب "نباكثيرٌ من الأشياء، أختارُ منها:

والنبوّةالجفوة، الإقامة، الارتفاع.

والنبوّة والنَّباوة والنبيّ: ما ارتفع من الأَرض.

والنبيّ: العلم من أعلام الأرض التي يُهتدى بها.

قال بعضهم: ومنه اشتقاق النبيّ لأَنه أرفع خلق الله، وذلك لأنه يُهتدى به.

ونبا حدُّ السّيف إِذا لم يقطع.

ونبا به منزلُهلم يوافقْه، وكذلك فراشُه.

ونبا فلانٌ عن فلانلم ينقدْ له.


لكن، تظلّ آليّة محاكاة المعرّي لله مجهولة، حدّ اللحظة، ولكثرة ما ألححتُ في هذه المسألة أشعر بأبي العلاء، على طريقة علم المعاني العربيّ، مُخاطَبٌ منكرٌ لما يسمع (أم أنّه يسمع؟). ولأنّنا لم نصل لإجابة بعد، أريد العودة إلى لفظة الغلط في رسالة الغفران27، لأفتح شقًّا في دائرة الكلام، الصّعب، الذي يدور على نفسه كما يصفه التّوحيديّ. يُفرّق الفارابي بين المُغلّط والمُحاكي "ذلك أنّهما مختلفان بوجوهمنها أنّ غرضَ المُغلّط غيرُ غرضِ المُحاكي، إذ المُغلّطُ هو الذي يغلّط السّامع إلى نقيض الشيء حتّى يوهمه أنّ الموجود غير موجودٍ وأنّ غير الموجود موجودٌفأمّا المُحاكي للشّيء فليس يوهم النّقيض، لكن الشّبيه"30.

سألجأ الآن، كما فعلتُ سابقًا مع قدامة بن جعفر، لحازم القرطاجنّي31، إذ يُميّز بين أنواعِ قوًى ثلاث، تدخُلُ على الشّاعر لحظة نظمه الشّعرالقوّة الحافظة؛ القوّة المائزة؛ القوّة الصانعةوالقوّة الحافظة عنده تتعلّق بترتيب الخيالات في رأس الشّاعر، إذ إنّ بعض الشّعراء خيالاتهم منتظمة، وبعضهم خيالاتهم معتكرةويشبّه الأوّل بمن يحفظ أماكن جواهره حين يريد العودة إليها، والثّاني بالذي لا يتذكّر أماكن جواهره، فيضيع الوقت كلّ مرّة بالبحث عنهاولأنّ خيالي أشبه بمن "خيالاتهم معتكرة" الآن، أريد أن أطلب إبعاد صورة الله العدل من أذهاننا قليلًا، فإنّ واحدًا من الأشياء التي يتحقّق فيها وجودُ الله (أو صورتُه) "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ"32. بمعنًى آخر، أنّه يستطيع فِعْلَ ما يشاء، رغم معايير الحكم التي سنّها. لكن الأشياء ليست بهذه البساطة، على الأقل ليست بالنّسبة لأبي العلاء، فلكي يحاكي "الشبيه" حاول أن يموضع نفسه مكانه، ليمنحنا (ويمنح/يسلب الشعراءَ أسبابَ المغفرة). نجد في جنّته كثيرًا من "أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ"33، مثل عبيد بن الأبرص الذي قال في حياته البيت التالي "من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب"، فكان سببًا لخروجه من الجحيم إلى الجنّة. سأستخدم قول الفارابي (وأتخيّله مقطِّب الحاجبين) وأصف البيت بأنّه "في الحقيقة قول شعريّ قد عُدِل به عن طريق الخطابة إلى طريق الشّعر"34، رغم ذلك تكفّل بالمغفرة وحده. لكن الصّدق ليس منجاة على الدّوام كما أسلفنا. لماذا اختلّ المعيار هنا؟ أميل إلى تلاعب أبي العلاء بنا، فإذا كان الأمرُ عائدًا لله، فلن يكون غريبًا أن يدخل رجلًا الجنّة لصدقه، شاعرًا كان أم لم يكن. يرد في أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني35، ما يعيننا على وصف مكر أبي العلاء: "فلولا أنّه أنسى نفسه أنّ ههنا استعارةً ومجازًا من القول وعمل على دعوى ]المغفرة[ على الحقيقة لما كان لهذا التعجّب معنًى"36. تناسيه الاستعارة، استعارة ابنِ القارح (أو نفسه) ليحاكيَ الله، تفسّر ذهول ابن القارح، في الجحيم خاصّة، عن سؤال من يقابلهم عن أسباب مصيرهم، إذ نجده يكتفي مع عنترةَ وامرئِ القيس، على سبيل المثال، بالسؤال عن احتمالاتٍ رُويت بها بعض أشعارهم، كأنّهم يجلسون في سوق عكاظ لا في الجحيم.


بقي أن نحاول الإجابة على سؤاللماذا الشعراء دونًا عن غيرهم؟ أعود لحسين عدوان، في كلامه عن الآية (69) من سورة يس: "وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ": إذ يقول: "القرآن يقدّمُ صورةً عن تعاطي الشعراء والناس مع فكرة الشعر على أنّها اتّصالٌ بهذا العالم من الجنّ، ثمّ إنّه يحاولُ تعديلَ الفكرةِ ونسبتها إلى الله الذي ينسبُ إلى نفسِهِ تعليمَ الشعر"37. إذا كان للمعرّي أن يحاكي الله، فقد علم أنّه لا مجالَ يقترب فيه منه أفضلَ من الشّعر، ذات الأمر الذي قام به الله مع العرب قديمًا، ولستُ غافلًا عن بون القرآن عن الشّعر، ولأخرج نفسي من المأزق، تعالوا نغمض أعينَنا، محاولين بسذاجة محاكاةَ أبي العلاء، ولنستحضر، وسط العتمة الذاهبة بعيدًا، الآية السابعة والأربعين من سورة يس: "نحنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا"، وقبل أن نقول شيئًا، لنستحضر الآية السادسة والثلاثين من سورة الصّافّات: "ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون". عن الآية الأولى، يقول حسين عدوان: "وهذا الوصف الجديد يوصلُنا إلى منتهى قضيّة السحر لدى المشركين في تفسير القرآن والنبوّة، فتجعل من النبيّ "رجلًا مسحورًا"! أي خاضعًا لتأثيرٍ خارجيٍّ ليسَ له نصيبٌ منه سوى تلقّيه والخضوع له!"38، إذا كان اسم المفعول "مسحورًا" عائدًا على الرّسول، ومجدّدًا وسط العتمة، أتساءل، لكن مع رجفة لا معنى لها سوى الخوف لا من السؤال ذاته بل من المسافة التي تفصل البسملة في بداية الرسالة عن خاتمتها، والزمن الذي انضغط بينهما، هل يعود اسم الفاعل في "شاعرٍ مجنون" على الله ذاتِه؟ لا أستطيع إلّا أن أفهم المعرّي على هذه الشّاكلة، فالله عندَه الشّاعرُ الأوّلُ والأخير، ولأنّ طريق الحقيقة أعوج، فكلا الله والمعرّي، لجآ للنّثر، محاكاة للشّعر فـ"كثيرٌ من النّاس يجعلون محاكاةَ الشيءِ بالأمر الأبعد أتمَّ وأفضلَ من محاكاتِه بالأمرِ الأقرب"39.

إنّ نقيض الغفران في حالة أبي العلاء: الخلود في جهنّم؛ أي الموتُ بمعنًى ما. وكذا الخاتمة، تأتي رويدًا رويدًا، مثل نملٍ يسبحُ على أجسادنا، أو مثل محطّات التلفاز حين يُقطعُ البثُّ عنها، يلتهمنا حتّى يحلّ صمتٌ بعيدٌ وعميق، بُعْدَ حرف الدال في نهاية بيت أبي العلاء: "إنّ حزناً في ساعة الموت ... أضعافُ سرورٍ في ساعة الميلاد" عن القارئ. يخفت الصّدى، فنغيب في النّوم؛ الموت؛ أو الحرمان من المغفرة على طريقة أبي العلاء، مجدّدًا.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): الإمتاع والمؤانسة - الليلة الخامسة والعشرين - أبو حيّان التوحيديّ – دار الجيل  ص248.

(2): لذّة النّص – رولان بارت – ترجمة فؤاد صفا – منشورات الجمل – ص20.

(3): فنّ الشّعر - من كتاب الشّفاء – ابن سينا  ص161.

(4): الإمتاع والمؤانسة - الليلة الخامسة والعشرين - أبو حيّان التوحيديّ – دار الجيل  ص251.

(5): راجع: نقد الشّعر – أبو الفرج قدامة بن جعفر – دار الكتب العلميّة.

(6): أبو العلاء المعري أو متاهات القول – منامات أبي العلاء - عبد الفتّاح كيليطو – دار توبقال - ص19.

(7): رسالة التوابع والزوابع – ابن شهيد الأندلسي – دار صادر - ص63.

(8): راجع: البيان والتبيين – الجاحظ – الجزء الأوّل – دار الكتب العلميّة

(9): كتاب الحيوان – الجاحظ -الجزء الثالث  دار الكتب العلميّة.

(10): رسالة الغفران – أبو العلاء المعرّي – دار صادر - ص141.

11)): نفسه - ص110&111.

(12): راجع: عيار الشّعر – ابن طباطبا العلويّ – دار الكتب العلميّة.

(13): نفسه – ص141.

(14)نفسه - ص130.

(15): نفسه – ص131.

(16): أبو العلاء المعري أو متاهات القول – منامات أبي العلاء - عبد الفتّاح كيليطو – دار توبقال – ص20.

(17): الإمتاع والمؤانسة - الليلة الخامسة والعشرين - أبو حيان التوحيديّ – دار الجيل - ص243.

(18): مجلة شعر – أبو نصر الفارابي - العدد 12 – 1959 - ص91.

(19): نفسه - ص206.

(20): نفسه - رسالة ابن القارح – ص160.

(21): نفسه - ص228.

(22): نفسه - ص207.

(23): يقسّم ابن قتيبة الشعر أربعة أقسام، الرابع منها: "وضربٌ منه تأخّر معناه وتأخّر لفظه". ويورد في هذا القسم، أبياتًا للفراهيدي، يقول في واحدٍ منها: أمُّ البنين وأسما ... ءَ وربابَ والبوزع. ويعلّق ابن قتيبة عليه، فيقول: "ولو لم يكن في هذا الشعر إلّا "أمّ البنين" و"بوزع" لكفاه!". راجع الشّعر والشّعراء – ص70.

(24): النّبوّة والجنون – حسين عدوان - الجامعة الأردنيّة.

(25): راجع: صحيح البخاري – كتاب مناقب الأنصار – باب المعراج (3887) – وزارة الشؤون الإسلاميّة والأوقاف والدّعوة 
والإرشاد – المملكة العربيّة السّعوديّة.

(26): الإمتاع والمؤانسة - الليلة الخامسة والعشرين - أبو حيّان التوحيديّ – دار الجيل  ص245.

(27): سورة الشّعراء – آية 227.

(28): نفسه - ص65.

(29): ابتُدئ القرآن بـ "اقرأ..." (سورة العلق – 1)، كما جاء في إنجيل يوحنّا (1:1) "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ."

(30): مقالة في قوانين صناعة الشعراء - ضمن، فن الشعر، تأليف أرسطوطاليس – أبو نصر الفارابي - ص 150ـ 151.

(31): راجع: منهاج البلغاء وسراج الأدباء – حازم القرطاجنّي – دار الغرب الإسلامي.

(32): سورة يس– آية 82.

(33): سورة الأحقاف – آية 16.

(34): مجلة شعر – أبو نصر الفارابي - العدد 12 – 1959 - ص91.

(35): أسرار البلاغة – الإمام عبد القاهر الجرجاني – استانبول: مطبعة وزارة المعارف.

(36): قمتُ هنا بالتّصرّف بالنّصّ الأصلي، إذ استبدلت لفظة "المغفرة" ب"شمس".

(37): النّبوّة والجنون – حسين عدوان - الجامعة الأردنيّة.

(38): النّبوّة والجنون – حسين عدوان - الجامعة الأردنيّة.


(39): مجلة شعر – أبو نصر الفارابي - العدد 12 – 1959 - ص91.