الجمعة، 19 مايو 2017

في انتظار "المعرفة"


لم أنتبه يومًا إلى العلاقة بين قاعات المحاضرات والمسرح، المدرّجات منها خاصّةً، قبل أن أدرس عند د. ضرار خليفات: قاعةٌ نصف دائرية، كراسٍ تفترش أرضًا مائلة، مكتبٌ أشبه بالمنصّة، جماهير، وممثّلٌ حاز على فرصة نقل موهبته من وراء مرآة الحمام إلى الواقع.

لا أرغب في استنزاف الاستعارة أكثر، فهي ليست لي أولًا، ولأنّها ليست جديدة ثانيًا. كما لاحتمال اصطدامها بممثلين بارعين يهدمونها من جذورها. لنستقرّ الآن على لعبة: الممثّل الفاشل / الجمهور المُذعن.

***

المحاضرة الأولى: الساعة الثانية عشرة ظهرًا. قاعة المحاضرة باردة. بضع طلبة يتناثرون كقطع بازل في الزوايا. بردٌ يفتّت العظام. تدفئة القاعة مغلقة. تمتمات تعلو وتنخفض. تمرّ الدقائق ولا يحضر الدكتور. يرنُّ صوت تثاؤب ثلاثة طلبة كأنّه صوت انفتاح علبٍ غازيّة. لا يحضر الدكتور اليوم. ينصرف الطلبة.

***

المحاضرة الثانية، والثالثة، والرابعة: لا جديد؛ لم يحضر الدكتور.

استطراد: كان بالإمكان محو هذه التفصيلة، فالأدب فنّ الانتقاء (إن جاز التعبير). لكنّي هنا لم أرِد أن أنتقي، لم أرِد أن أكتب أدبًا.

***

المحاضرة الخامسة: موسيقى تصويريّة. إبطاء للزمن كما لو أنّنا في دعاية شامبو. يحضر الدكتور. تنفتح السّتارة. تصفيق.

الدكتور: ما شاء الله ما شاء الله. صرنا في منتصف الفصل وما زال بعض الشّباب غائبين. (صمت).

صوت داخلي: لا يوجد شبابٌ (ذكور) اليومَ سواي في القاعة. أتنحنح.

الدكتور: لا يهم، كيف حالكم؟ (صمت). لا بدّ أنّكم تعرفون، لكن لا بأس، أنا الدكتور ضرار خليفات، أدرّس مساق "مناهج الدراسة الأدبية واللغوية"، سأوزّع عليكم الآن خطّة المساق، وأسألكم بضع أسئلة حتّى نكسر الجمود، ونتناقش سويّة. (صمت). (بانفعال) أساسًا أساسًا هذه هي مشكلتنا اليوم. النقاش يا سادة (يمسح ياقة قميصه، يشبك يديه) غائبٌ في هذه المنطقة، دعونا من منطقتنا، هنا هنا في هذه الجامعة، أنت (يشير إليّ) هل تستمع إلى أصدقائك؟ (صمت).

أنا: آآآآآآآ. (صمت).

الدكتور: آه أنت، أوليس لديك أصدقاء؟ (ضحك). الموضوع بسيط (يشدّد على مخارج الحروف). وسترون في هذا الفصل كيف سنسعى إلى تفكيك خطاباتنا، ثمّ نعاود بناءها حتّى تتموسق مع الهُويّة التي خلقنا لنلبسها (يداه على وركه). سترون كيف سنتجاوز إرهاصات الواقع الغارق في خيبته، لنخرج من تلابيبه مدفوعين صوب بوتقة التفكير والمنطق. (صمت). (هازًّا رأسه) لا تخافوا من لغتي، ألم يقل محمود درويش في الجداريّة "لغتي مجازٌ للمجاز"؟ (ضحك، ضحك، ضحك).

أهرش ذراعي، أهرش أقوى فينتبه الدكتور لي، تندُّ عنه تكشيرة، فزمٌّ للشفتين، لا أستطيع معها إلى مقارنتها ببوز حذائه. أنا الآن في مرمى النار، سهمان مصلتان على رقبتي، فأكفُّ عن الهرش. ثمّة خيطٌ يربطني بالواقع، خيطٌ شفيفٌ وواهٍ خفت أن ينقطع فجأة، فسارعت بإمساكه بالسؤال.

أنا: دكتور، يعني (صمتٌ للحظات) ما الذي سنأخذه هذا الفصل؟

الدكتور: ما اسمك يا ابني؟

صوت داخلي: ابني؟ لا يبدو أنّه يكبرني بأكثر من عشرة سنوات!

أنا: نذير.

الدكتور: (متفرّسًا في عينيّ) النّذير مرسال شرّ، عليكم بالحذر منه. (ضحك).

(تصفيق. تغلق الستارة).

***

المحاضرة السادسة: نفس الموسيقى التصويرية، الدكتور يلبس اليوم بذلة حمراء، صلعته تلمع (يبدو أنّني نسيتُ ذكر تفاصيله الجسديّة، لا بأس). الدكتور ضرار خليفات أصلع، طويلٌ حدّ عدم التمكن من رؤية رأسه للجالسين في مقدّمة القاعة، له ورك لا يشبه شيئًا، يترجرج كلّما امتدّ خطوه أكثر، يحاول تثبيته ويفشل كأنّ يدين ملساوتين تمسكانه ولا تلبّيانه عند الحاجة، لا رقبة له رغم طوله (أتساءل إن كان لطبيعة طعامنا الدّسم علاقة بهذا)، ويلبس حذاءً مثقّفًا كرأس الرمح.

استطراد: جلب الدكتور معه اليوم حقيبة ملابس ملأى بما لا أعرف، أشار لي كي أرفعها على المكتب، وحين فعلت سمعتُ صوتَ فقرات ظهري تطقطق، فقرة فقرة.

الدكتور: نقطة نظام، أنا لا أحبّ التلقين، وأحارب سياسة القطيع المتّبعة في الجامعة (أخذت سبابته تطول هنا، كأنّها أنف بينوكيو). أشفق عليكم وأنتم تطبعون على أوراق البردى التي تملكونها. وبالمناسبة تذكّرت الآن كيف كنّا ندرس، ياااه قد مرّ زمن طويل. هل تعرفون كيف كنّا ندرس؟ كان أساتذتنا، ببساطة، يفعّلون عقولنا. زمان الوضع كان أفضل، لا شكّ. لا يغرّكم التقدّم العلمي الذي نرفل فيه الآن، هراء (كادت سبابته تدخل في عيني). افتحوا دفاتركم وسجّلوا هذا المصطلح: النوستولوجيا = علم الحنين (هذه المرّة لمعت صلعة الدكتور).

أنا: دكتور، اسمها "النوستالجيا" وهي ليست علمًا.

الدكتور: (يفتح الحقيبة، التي تبيّن أنّها ملأى بالكتب، يبحث، يبحث بِجِدّ، يجد ما يريد فتتميّز نواجده سعادة) امسك يا ابني، لا تراجعني حتّى تنهي هذا الكتاب.

أنا: (أمسك الكتاب، أقرأ العنوان: “Nostologia For Dummies”). (صمت).

تحدّث الدكتور اليوم عن داعش، الورقة النقاشيّة السادسة للملك، وأثنى على براعته في الجملة الاسميّة (وكيف حاله مع الجملة الفعليّة؟ ضحك مكتوم)، في التقديم والتأخير تحديدًا: "يا إلهي ما أبرعه في التقديم والتأخير. هل قرأتم الورقة؟ عيب، والله عيب ألّا تقرأوها" (وهنا سقط طرف سبّابته كرماد سيجارة، وعاد ليبدأ دورة جديدة)، عمليّة الكرك الأخيرة، الجميد الكركي، وابتسامة دُرَيْدا. (صمت).

أنا: دكتور، من دُرَيْدا هذا؟

الدكتور: (يفتح حقيبته مجدّدًا، يُخرج كتابًا أحمرَ هذه المرّة، ويلقيه تجاهي). اقرأ هذا الكتاب أيضًا: "التفكيكيّة للمبتدئين". سيفيدك يا ابني. ما اسمك مجدّدًا، بشير أليس كذلك؟ (ضحك).

***

المحاضرة السابعة: طنين يعلو ولا شيء سواه، أرى الناس عراة، أقرف من النظر إلى ورك الدكتور، فأبقي عينيّ في الأرض، لكنّني أنتبه دون رغبة منّي إلى تكاثر الحقائب في المحاضرة؛ كلّ طالبٍ أحضر حقيبة كتبٍ مشابهة لحقيبة الدكتور. كما أنتبه إلى حَلْقِ الطلبة، ذكورًا وإناثًا، شعورهم على الصّفر، ولا أعرف إن حلقوا فعلًا أم لكوني، بغرابة، بدأت أرى الناس عراة، صرتُ أراهم حليقي الرؤوس.

هذر الدكتور اليومَ كثيرًا عن المعنى فوق المعنى، طابق يديه فوق بعضهما كي يوصل الفكرة أكثر، لكنّني لم أستطع تخيّل أكثر من سيارتين تصادمتا بعنفٍ وانتهى الحال بواحدة فوق الأخرى. تحدّث عن اندماج مصطلح الإيديولوجيا بالجينات ليشكّلا "الجينالوجيا". وأكّد على فساد جينالوجيا العرب؛ إذ أنّ سمتهم التأخير عن المواعيد. تحدّث عن كرهه للروائيّين الذين يقحمون أنفسهم داخل أعمالهم، وفي ذهني استحضرت كلّ الروايات العظيمة التي أقحم كاتبوها أنفهسم فيها. تحدّث عن الجملة في درجة الصفر، كسر التوقّع، الدهشة، الدهشة التوقّعيّة (المصطلح الذي نحته بنفسه)، وأكّد على أهمّيّة التفريق بين المصطلحين الأخيرين، فالدهشة التوقّعيّة لا تكون سوى بالقصّة القصيرة، إذ لا بُدّ من مفارقة تدهش القارئ في نهاية كلّ قصة قصيرة، وإلّا لما استحقّت اسمها، عن عشقه لهوراكي موراكومي، قدرة البنيويّة على إثبات إعجاز القرآن، قدرة التقديم والتأخير على جلب الدهشة لجملة مثل: ذهب أحمدٌ إلى المدرسة، أو كما قال الجرجاني. (صمت).

أنا: دكتور، الجرجاني لم يقل هذا.

الدكتور: دعك من الجرجاني، السّكّاكي قال هذا. (صمتٌ).

تحدّث عن كلّ هذا وأكثر دون أن أسمعه، لكنّني بشكل لا أفهمه، أجدني أتذكّر كلّ هذا الآن، أتذكّره وأكره نفسي لذلك، فأكتبه رغبة في تقيّئه، مرّة وللأبد.

***

المحاضرة الثامنة: ليس ثمّة محاضرة ثامنة؛ إذ أسقطت المادّة قبل أن أسقط أنا.

***


استطراد: يتذكّر كثيرٌ من قرّاء العالم صمويل بيكيت اليومَ بشخصيّته "غودو" التي لم تظهر أبدًا. فهل يتذكّر الطلبة غدًا (حتّى لا أبالغ في وأقول العالم) الدكتور ضرار خليفات بمعرفته، التي لم تحضر أبدًا؟

استطراد أخير: السؤال أعلاه ليس استنكاريًا بقدر ما هو تماهٍ مع كلّ هذا الغباء. نعم، ثقل الدم يكون معديًا أحيانًا. 


Green Hat by Yue Minjun