الجمعة، 2 أغسطس 2013

ثرثرة ساعة الفجر

              كم من الكلام يلزمنا أن نثرثر به لنعبّر عن كلّ الأشياء الجميلة في العالم؟ أن أكون ممتلئًا حدّ الثّمالة، فذلك كلّ ما أريده من هذه الحياة. يزعجني بأنّ أغلب الأموات، فارقونا وهم خاوين، لم يحملوا معهم إلى مثواهم الأخير إلّا بضع خيباتٍ، لم تتركهم إلّا وقد أسلمتهم لخيبة أكبر؛ الموت. يزعجني التّفكير بأنّني قد أموت وأنا لست إلا فكرةً ، عبرت خاطر الزّمان يومًا، وتلاشت قبل أن يكون هنالك مجالٌ لتنفيذها. لا أريد أن أظلّ محض احتمال، لا أريد أن يعلّق أحدهم صورتي داخل إطارٍ حزينٍ بعد موتي. ولا أن يتدلّى رأسُ آخرٍ حزنًا عليّ كلّما سمع اسمي، لا أريد أن أكون لائقًا للحزن.

              في الشّهر الماضي، تعرّضت لحادثٍ كاد أن يودي بحياتي. ربما كان يلزمني هكذا ضربة على الرّأس كي أستفيق، وأعي ما الذي يفوتني، في الوقت الذي أقف فيه مكتّف اليدين، أناظر ما يدور حولي بكلّ بله العالم. إلا أنّني لم أستفق. ربما لم تكن الضّربة قويةً بما يكفي لكي تهزّني، أو ربّما قد وصلت حدًّا لا رجعةَ معه من اللّامبالاة.

              أفكّر، لو أنّني أعلم متى سنتتهي حياتي، هل كان ذلك ليغيّر شيئًا؟ وإن حصل وأُحدِث التغيّر المطلوب، ما الذّي يستحقّ أن أكرّس ما تبقى لي من عمرٍ لأجله؟. في الواقع، الفكرة جِدُّ مرعبة، ولا أستطيع أن أفكّر بها، دون أن يعبر خاطري العديد من الأشياء التّي تستحقّ أن تقبع في الذّاكرة ما حييت.

***

              ثمّة لحظةٌ، تستطيع أن تشعر بعدها بأنّك لن تعود كما كنت أبدًا. ربّما هي ارتعاشة تسري في الأوصال، من أعلى الرّأس إلى آخر الأخمص. أو ربّما نزول دمعةٍ تهدم كلّ المخاتلة التّي نزعم أنّنا نمتلكها أحيانًا. أو ربّما مجرّد إطراقةٍ طويلةٍ، تكاد تجزم أنّها استمرّت طوال العمر، وغيرها من الأشكال التّي لا تحصى. السّؤال هو: كيف نضبط تلك اللّحظة، لتدوم أطول وقتٍ ممكن؟ كيف لنا أن نتصوّر فقدان شيء، ما إن نتركه حتّى يحتلّنا الفراغ، الفراغ الذّي يحيلنا إلى كآبة لا قبل لنا بها؟ يمكننا ذلك، لو علمنا على وجه الدّقة، ما هي الأمور التّي تستحقّ أن نعيرها اهتمامنا، في اللّحظة المناسبة.  إلا أنّ الأشياء الجميلة لا تفصح عن ذاتها قبل أن تذهب، وهذا من سوء حظّنا، أو ربّما من حسنه.

              لو أنّني كنت واقعيًا يومًا، لربّما استطعت التّعلق بأشياء أكثر مادّية، كالعائلة مثلًا. لكن كلّ ما أعشق يتمركز حول اللّاشيء: بضع أفلامٍ اخترقتني يومًا (تحديدًا، أفلام وودي آلن، وجاك نيكولسون)، القليل من الأغنيات الخالدة، صوتكِ الذّي لم أحظى بهِ كثيرًا، مقعدٌ صامتٌ ومهجورٌ أسفل جسر منهاتن، قصّة كتبتها يومًا، ولم تعجب أحدًا، رسومات أيمن المالكي، شخصيّات مؤثّرة في رواياتٍ شتّى، كالمرحوم في رواية 366 لأمير تاج السّرّ، يسري فودة، صوت حسن حجازي الرخيم عند الساعة التاسعة والنصف من كل يوم اثنين وثلاثاء وأربعاء على إذاعة عمان إف إم... لم أعد أتذكّر المزيد، ومن الجائز أيضًا، أنّ هذا كلّ ما لديّ.

***

"تربّص بي الحزن
لا تتركيني لحزن المساء"

(أحلام مستغانمي)

              كم بِتّ أخشى المساء، فهو كائنٌ ثقيل الظّل، يجثم على قلبي فيحيلني حطامًا. المساء، يذكّرني بأجمل اللّحظات، تلك التّي لم ولن أمتلكها يومًا. يذكّرني بعمّان؛ مدينة أحلامي. يذكّرني بكِ، بأجمل الأوقات التّي قضيناها سويًا، بالمزاح الباهت الّذي كنت ألقيه، فقط كي تبتسمين.  يذكّرني بالمطر. أليس هذا تناقضًا؟ كيف يكون المساء سيئًا وهو يذكّرني بكلّ تلك الأشياء الجميلة؟ لا أدري.

***

"لا مكان،
الحبُّ يرحل،
والوجوه المُمعناتْ:
الثلجُ ماضٍ لا يحيدْ،
وقفةٌ بين المُعادْ
دورةٌ في المستيحلْ
ومضةٌ في المنتهى
والمنتهى لا يستثير
كان لي – يومًا –
مكان"

(يسري فودة)


              لست من هواة الغزل المفرط، ولا المجازات المبالغ بها، فقط أودّ أن أقول بأنّني كنت أملك مشاعرًا جميلةً نحوكِ يومًا، هي جميلة وستظلّ كذلك دومًا، مهما حصل. فأنتِ أصعب من أن أتجاوزك. إلّا أنّني الآن باستطاعتي القول، بعد أن أعبَّ كمّيّةً لا بأس بها من الهواء، أنَّ الحبّ ليس إلّا نكتة، قالها أحدهم يومًا، ولسوء الحظ قد أعجبت الكثير. تخيفني البدايات كثيرًا، ففيها يبدأ كلّ شيءٍ صاخبًا، وتعطينا أملًا  في المستقبل لن يطول قبل أن يندثر. لذلك، ما الفائدة من إكمال لعبةٍ خاسرة؟ لا شيء!.

***

              هذه أوّل مرة أثرثر فيها إلى هذا الحدّ، وهذا ما كنت أفتقده مؤخّرًا. أشعر بأنّني أصبحت أخفّ ثقلًا الآن، بل وربّما يمكنني التّحليق، وهذه فرصة لا مثيلَ لها كي أنهي ما كتبت، وأضع نقطةً في آخرِ السّطر.




(مقطوعة من فيلم "The Bucket List"
الذي جاء هذا النص بسببه)





(مقعدٌ صامتٌ "ليس" مهجورًا أسفل جسر منهاتن)




 (الصّورة مأخوذة من فيلم "منهاتن" لوودي آلن)



                                                                                                                                 ن.ع.م.
                                                                                                                             4:25 صباحًا
                                                                                                                            03-08-2013