الخميس، 23 أبريل 2015

دفاتري الثلاث

        مشاريع مؤجلة. هي مؤجلة وستظل هكذا. لماذا؟ ربّما لأنّ فيها من الجمال ما يقاوم الرغبة بتأطيرها. يقول إيكو "فالشخص إذ يتأمل اللوحة يشعر بحاجة إلى فتح الإطار ورؤية كيف يمكن للأشياء أن تبدو إلى يسار اللوحة أو إلى يمينها. هذا النمط من الرسم شبيه تماما بالقائمة، كسر للانهائي"(1).هكذا تمامًا أرى المشاريع المؤجلة؛ قوائم كثيرة، مدونة على عجلٍ في دفترٍ أسود وصغير. تبدأ الأشياء عادة من خلال التفكير بصورتي بأعين الآخرين "شوف، شايل معه دفتر". غالبًا ما أخجل من هذه الفكرة، فأبدأ بمداراة صورتي لأبدو طبيعيًا قدر الإمكان. لكن الأشياء الصغيرة تفتنني، أشعر بصوتٍ خافتٍ – ربّما للأشياء أصواتٌ حقًا – يجذبني نحوها. لديّ لغاية الآن ثلاثة دفاتر، اثنان منهم متخمان كطفلٍ سمين، والثالث يطالع موقعه على الرف فوقهما. مرعبٌ كم الأشياء غير المنجزة التي كتبتها داخلها. ومبهجٌ كم الأشياء التي تمكّنت من إنجازها كذلك. أفتح صفحة عشوائية من الدفتر الثاني، وأقرأ:

22-5-2014

1-      شراء رواية ذات.
2-      الاستمتاع قدر الإمكان بمعرض نون.
3-      شراء كتاب إليكترونيكس.

        تجلب كلّ صفحة دفقة عجيبة من المشاعر. شيء أشبه بالعودة لبيتٍ قديمٍ ومهجور عشتُ فيه سنواتٍ طويلة. كلّ صفحة، هي غرفةٌ مشققة الجدران. كل زاوية بقعة من الذاكرة، أمرٌ أشبه بالالتفاف على التاريخ بتدوينه. أتذكّر أنني كتبتُ على أحد الصفحات عن مشروعٍ طموحٍ للغاية. أبحث عن الصفحة، ولا أجدها. لكنني متأكدٌ أنها موجودةٌ في مكانٍ ما. لا زلتُ أذكرُ الحبور الذي لازمني أسبوعًا وأنا ممتلئٌ بالفكرة. كنتُ يومها على الطريقٍ إلى الجامعة، راكبًا سرفيسًا يقوده سائق يظنُّ أنّه يقود طائرة. كنتُ جالسًا على الطرف، وبحضني رواية "كافكا على الشاطئ". بجانبي شابٌ بجانبه امرأة. حين وصلنا المرتفع الذي يتوسطه مفترق جرش، فتحتُ الدفتر وكتبت بخطٍّ يهتزّ مع حركة السيّارة: "مقال (تحوّل مشروع المقال إلى مشروع بحث لاحقًا) عن علاقة البحر وتأثيره في الأدب، السينما، الأغنية. من ثمّ كتبتُ الأمثلة التي ستتضمنها المقالة؛ الأدب: لا أحد ينام في الإسكندريّة / إبراهيم عبدالمجيد. البحر البحر / آيريس مردوخ. حياة باي / يان مارتل. أحياء في البحر الميت / مؤنس الرزاز. السينما: About Elly / أصغر فرهادي. رسائل البحر / داوود عبدالسيد. The sea inside / أليخاندرو أمينابار. Climates / نوري بيلغي جيلان. الأغنية: لما كان البحر أزرق / فرقة المصريين. أنا بعشق البحر / نجاة الصغيرة. البحر بيضحك ليه / الشيخ إمام. شايف البحر / فيروز. ربّما لا داعي للقول بأنني لم أخطو بالمشروع أبعدَ من إخبار صديقٍ به، من ثمّ إرجاءه إلى وقتٍ أكون وحدي سيده.

        كثرت المشاريع، وأصبح النظر إليها ثقيلٌ أكثر مما هو شيء جميل. "اكتب عن أثر فصلِ اللحن عن الكلمات في الأغاني"؛ يؤجل. "اكتب عن صوت شاكيرا"؛ يؤجل.  اكتب عن جماهير كرة القدم؛ يؤجل. "اكتب عن مسلسل قلم حمرة"(2)؛ يؤجل. قوائم قراءة؛ تؤجل. قوائم بأصدقاء يجب إعادة وصلهم؛ تؤجل. "بلّش توفير مصاري للسفر – يومًا ما يعني –"؛ يؤجّل أيضًا.

        لكن كمحاولة لترك مساحة لزاوية أخرى من الفهم، أعود وأفكّر أن الصفحات تتالى، والأشياء تتراكم. تتراكم لتشكّل أشياءً مستقلّة بذاتها. تقول فيسوافا شيمبورسكا: "ولماذا لا نقول كلمتين عن الروزنامة التي نقطع صفحاتها؟ إنها كتابٌ رغمَ كل شيء، بل وكتاب ضخم جدًا حيث لا تقلّ صفحاتها بأي حال عن ٣٦٥ صفحة"(3) دفاتري الثلاثة هذه، ربّما مثل روزنامة شيمبورسكا، هي كتابٌ واحدٌ طويل وممتد. دفاتري هي أنا؛ أنا كما أحبّ أن أكون. بعيدًا عن صورتي في أعين الآخرين؛ بعيدًا عن صورتي في المرآة؛ بعيدًا عمّا أفعله بالحياة؛ بعيدًا عن حدبة الظهر التي بدأتُ ألمحها في ظهري. وإن كان لا بدّ من محاربة الموت – على ما في فكرة الخلود من سذاجة واغترارٍ بالذات – فسأختارها هي لتظلّ من بعدي.


 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ