الجمعة، 27 مايو 2016

"وحده الله يغفر"؛ أوديب مرتديًا سترة

        
          ينطلق Only God Forgives، الفيلم التاسع للمخرج الدنماركي نيكولاس فيندينغ رِفن، من حكاية تبدو بسيطة للغاية. شاب أمريكي في تايلند، يملك نادٍ للملاكمة ويدير شبكة تجارة للمخدرات (ريان غوسلينغ بدور جوليان). يُقتل أخاه بيلي (توم بيرك) بتحريض من ضابط شرطة تايلندي بعد اغتصاب بيلي لفتاة في السادسة عشر من عمرها. لتبدأ حكاية الانتقام مدفوعة برغبة عارمة لإراقة الدماء من قبل والدة جوليان وبيلي.

          لكن هذه ليست الحكاية فيما أعتقد، أو للدّقة هي واجهة لقصّة أخرى أكبر وأكثر عمقًا. لا تعكس الأشياء هنا معناها الأوّل والظاهر، فرِفن حرص هنا كرجلٍ مهووس بأن لا يتم فهمه على نحوٍ خاطئ، بوضع إشاراتٍ لما أراد قوله، أو أقلّها لأحد الأوجه التي يمكن قراءة العمل من خلالها. يبدو لي أنّ العلاقة الأهم في الفيلم هي علاقة جوليان بأمّه كريستال (كريستين سكوت توماس). علاقة الاثنين غير سويّة، تقول مرّة: "أقسم أنني، في بعض الأحيان، أعتقد أنّ جوليان يكره بيلي. ربّما الكره ليست الكلمة المناسبة، لكنّه دائمًا ما كان يغار منه. أنتِ تعرفين تصرّفات الصِّبية يا "ماي"؛ التنافس. بيلي كان دومًا الأخ الأكبر ومن يملك قضيبًا أكبر. لم يكن قضيب جوليان صغيرًا أبدًا، أمّا بيلي، أوه، لقد كان بالغ الضخامة." كل شيء هنا يحيل إلى قصّة أوديب ملك طيبة في الميثولوجيا الإغريقيّة، الذي أنفذ نبوءة تقول بأنّه سيقتلُ أباه ويتزوّج أمّه، وحين أتمّ ذلك دون معرفته بهويّتهما (في هذا تفصيل أكثر)1 يفقأ عينيه ليحيا كفيفًا منفيًا ما بقي من عمره.

          عناصر القصّة تتوفّر هنا، بزيادة أو نقصان. قرب نهاية الفيلم، تخبر كريستال رجل شرطة تايلندي بأنّ جوليان رجل خطير، فقد قتل أباه وفرّ إلى تايلند. تبدو المعلومة خارجة عن السياق، غير متّسقة مع نسق رِفن الإخراجي، فهو يُري المشاهدين أكثر ممّا يقول. لا مجال لتأطير هذه المعلومة في سياقٍ آخر سوى قصّة أوديب. يبدو الأمر فجًا ومباشرًا بعض الشيء، فالقصّة لم تكن بحاجة لإضافة شخصيّة خارجيّة لتكمل أركانها، إذ كان بالإمكان الاستعاضة عن الأب بالأخ الأكبر خاصّة مع ملاحظة أنّ رِفن حاولَ ربط الدافع الجنسي (الفرويدي) بالقصّة بإشارة كريستال إلى كبر قضيب بيلي. علامة أخرى تأتي قرب نهاية الشريط، تشير إلى أوديب أيضًا تتمحور حول العينين. بعد أن يتواجه جوليان مع قاتلِ أخيه، تتورّم عيناه في صورة توحي بانطفاء الرؤيا أمامه. لم يتبيّن أوديب الحقيقة مبكرًا، ففقأ عيناه بيديه. أمّا جوليان لم يُرد أن يراها من الأساس، فكان لا بدّ من طرفٍ خارجيّ يساعده على القيام بما لم يستطع القيام به؛ محاولة غلق عينيه.

(إلى اليمين الممثل الهولندي لويس بوميستر في دور أوديب عن مسرحيّة سوفوكليس (أوديب ملكًا). إلى اليسار ريان غوسلينغ في دور جوليان في Only God Forgives).

***

          تنقلب المفاهيم هنا، فكما قلت أنّ الأشياء لا تعكس هنا معناها الظاهر. يصبح الله المذكور في عنوان الفيلم (Only God Forgives) معادلًا للأم (أو لسلطتها)، والمغفرة هنا ليست مغفرة الضحيّة التي تنتظر من ينتقمُ لها، بل هو الغفران المنتظر من رضا الأم عن ولدها العاق. وإن كان العنوان يشير إلى أنّ الله وحده يمنح المغفرة، فإنّنا نجدُ انعكاس هذا في الفيلم، فالبشر، وإن علوا، يبقون آلهة غير متحقّقة، تتنازعهم العديد من الرغبات، لكن لا يبدو أنّ الغفران أحدها.

          نيكولاس فيندينغ رِفن، كما العادة، يستعرض عضلاتِه في استخدام الصورة لتكمل فراغات مقصودة في الحكاية، يساعده على ذلك أحد ممثّليه الأثيرين؛ ريان غوسلينغ. فغوسلينغ يوهم وجهه بسهولة بأنّه مترفّعٌ عمّا تنزلق يداه للقيام به من وحشيّة. وجهه محايد (Neutral) يقع خارج اللحظة، في مكانٍ آخر لا معنى فيه للصواب والخطأ. لكنّ وجهه، كما في الفيلم السابق لرِفن (Drive)، وجهٌ مركّب، قناعٌ تعلوه مسحة خفيفة تكاد لا تلحظ من الحزن، كأنّما يرفع علامة استفهامٍ في وجه المقولة التي تصارع لكي تثبت وجودها في الفيلم: هل يمكن أن نفصل بين الفعل والدافع إليه؟ بمعنى آخر، هي يمكننا القول هنا أنّه لا خطيئة في الانتقام، طالما سيقود إلى كسب رضا الله/الأم؟ (ويمكن هنا استبدال الانتقام بدوافع أخرى).

          هناك غضبٌ مكتوم، يتكثّف بشدّة مع الكوادر التي يطغى عليها اللون الأحمر والستائر التي تخفي خلفها بائعات الهوى. بائعات الهوى هنا هنّ النموذج الآخر للمرأة في قصّة جوليان، منفذٌ خاطئ لغضبٍ كان يفترض به أن يصوّب تجاه الأم. لكنّهن لم يوجدن عبثًا أو لمجرّد إفراغ الغضب بهنّ، فلو افترضنا عدم وجودهن مثلاً - ماي خاصّة – فسنكون أمام ثنائية وحيدة ليس فيها إلّا جوليان وأمّه، من ثمّ يصير الكلام الزاعم بأنّ الحزن البادي على وجهه هو رفضٌ غير مصرّحٍ به لخياراتها، الأخلاقيّة خاصّة، بلا دليلٍ ملموس يسنده. 

          يمدّ ريفن الصراع القائم بين الدولة ممثلة بتشانغ الضابط الفاسد، وعائلة كريستال العاملة في تجارة المخدرات ممثلة بوريثها جوليان، إلى آخر الخطّ معيدًا إياه إلى حالة من الحيوانية ممثّلة بالصراع بالأيدي والأرجل. تتعايش هذه الثنائية (السلطة الفاسدة & العائلات/العصابات)  عادة بلا مشكلات كبيرة، حتّى ينكسر العرف الذي تقوم عليه مثل هذه العلاقة. فوجود مثل هذه العائلات ينطوي في أساسه على حالة من الإنكار/التماهي تمارسها  السلطة لتحافظ على قدرٍ من الإحساس بالتفوّق والسيطرة طالما لم تتضارب المصالح ومناطق النفوذ. لكن في اللحظة التي اغتصب فيها بيلي فتاة قاصر في السادسة عشر من عمرها، تنفرط حالة الإنكار تلك جارفة معها، ككرة الثلج، كلّ تبعات الماضي المسكوت عنه.

***

          يظل Only God Forgives فيلمًا مذهلًا بصريًا. فالمخرج الدنماركي، وإن كان ينطلق من أفكار بدائية كما يقول، لا يتنازل في أيّ من أفلامه عن مستوى معيّنٍ من جودة الصورة يكرّسه كأحد أهم الشكلانيين في السينما الحديثة. زوايا التصوير، الكوادر داخل الكوادر، الإضاءة القاتمة المطعّمة باللون الأحمر، ومحاولته استخدام الألوان وأماكن التصوير كمرآة تنعكس عليها مزاجات الشخصيات. كلّ هذا ما ينفكّ يتكرّر كلازمة في أفلامه.


          قوبل Only God Forgives بصيحات استهجان حين عرض في مهرجان كان 2013، قابلها المخرج في إحدى الحوارات بقوله "أوه، كول". ليوضّح نفسه من بعد "من جهة أنت ترمي ما فعلت في أوجه الناس وفي نفس الوقت تقول لهم: أحبوني، من فضلكم. لا بدّ أن تتعرض لهذا. الفن العظيم – ما أفظع قول هذا - معنيّ بأن ينقسم الناس حوله، لأنّه إن لم يفعل لن يخترقك، وإن لم يخترقك يصبح عرضة للاستهلاك لا أكثر"2. بعيدًا عن وصفِ رِفن لما يقوم به بالفن العظيم (إن كان يقصد التخصيص في كلامه)، فإنّ قوله بأنّ أفلامه تقسم الناس حولها فهو يعبّر بصدق عن حقيقة أفلامه؛ إمّا أن تحبّها أو تكرهها، لا حلول وسط معها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ