الجمعة، 19 يونيو 2015

في معنى الاختلاف

"في بلد عم تكبر فينا
كل ما الدّنيا بتصغر
علينا وأمانينا
بنربّي الأمل تا يكبر
وبيكبر فينا الشّوق
زي بحّار للمينا..."

        ربّما أجمل الأشياء هي التي نفعلها بلامبالاة كبيرة. كان الجو حارًا، ولم يفصلني عن امتحان السيركيتس سوى يومٍ واحد. ظهر على شاشة الفيسبوك لدي إعلان للراغبين في تعلّم فنّ الحكي. كان أي شيء كفيل بشدّ انتباهي بعيدًا عن الكتاب المسجّى أمامي. غرقت في تعبئة الطلب حتّى وصلت إلى البند "يرجى كتابة فقرة  توضح الأسباب التي تقف وراء رغبتك المشاركة بهذا البرنامج التدريبي !". لحظة قراءة هذا البند، تذكّرتُ فيلمًا شاهدته منذ مدّة قصيرة "Another Earth". في الفيلم ثمّة طلب كان على البطلة تعبئته للاشتراك في رحلة فضائية. كتبت يومها شيئًا مؤثرًا. لكنّ الحياة ليست فيلمًا، أليس كذلك؟ سأبدو ساذجًا لو قلّدتها. لكن، قلت لنفسي، لأكتب كأن أحدًا لن يقرأ ما سأكتب، فهذا المشروع في النهاية "Too good to be true" كما يقال.

       قبل الإقامة بأربعة أيّام كتبت قصّة قصيرة، عن رجلٍ يحاول الانتحار، لكنّه قبل أن يقصّ شريط الحياة يقرّر مشاهدة بضعة أفلامٍ تدور حول الانتحار، وينتهي به الحال حائرًا كمن يقف بين الأرض والسماء. في الوقت الذي كنت أكتب فيه القصّة، كنت كمن ينظر في المرآة إلى وجهه؛ وجهه الذي لم يعد يعرفه. في درج ما داخل رأسي، كنت أخبّئ كلّ الأشياء الكريهة، الأشياء التي لا تبان معها الحياة سوى بالأبيض والأسود. المفارقة أنّني كنت أعتدّ بهذه الأشياء، وأحسبها رمزًا لاختلافي. كنت أسخر من كلّ شيء، ربّما محاولًا تمثّل شخصيّة هولدن كولفيلد (بطل رواية الحارس في حقل الشوفان) الذي لم يرى في العالم والأشياء المحيطة به سوى الزّيف.

       صباح اليوم الافتتاحي للإقامة، خرجتُ من البيت مع أمّي. سألتني: شو رح تعملوا بهالأسبوع؟. كان لديّ فكرة وإن كانت غائمة بعض الشيء، لكنّني أجبتها، بأنني لا أعرف، من ثمّ ذهبت. كان الهدف هو أن أكسر الدائرة المغلقة المحيطة بي. يقول صديقٌ لي، أنّ الخوف انتقل إلينا بالتطوّر، نتيجة لخوف الإنسان الأوّل من الحيوانات البرّيّة. المجهول حيوانٌ برّي بدوره، لذا حين رأيت المشاركين / المشاركات، توطّن الخوف في قلبي، ولم أعرف ما الذي أفعله بينهم. ذكّرت نفسي أن الألفة كذلك قد تكون انتقلت إلينا بالتطوّر، فالإنسان الأوّل تصالح مع بيئته، على صعوبتها. ومن الجيّد كذلك أننا أصبحنا أكثر خبرة باختصار الوقت والمسافة.

       كنتُ أفكّر في اللحظة التي يمكن أن أعدّها فارقة في مسار الإقامة. فكّرت أولًا في تيشيرت هيلين، لكنّه لا يعدو أن يكون مقدمة جيدة. من ثمّ فكّرت في الجو الحميم الذي عبر أثير الباص في طريق الذهاب. لكن لا، كانت اللحظة الفارقة، مثلما هي الآن ماثلة أمام عينيّ، حين قالت سرى، ونحن نضع الأعراف المطلوب اتباعها: ما حدا يحكي عن كلام حدا سخيف، لأنه ما في اشي سخيف. دائمًا ما تعجّبت ممن يؤكّد على أشياء مسلمٌ بها. فمثلًا يكثر التأكيد في الاعتصامات على شرعية المطلب (أيّ مطلب)، أو على عروبة فلسطين (مثلًا). كنت أشعر في مثل هذه الحالات بوجود خطأ ما، ما الفائدة من التأكيد والتذكير بمسلمات بديهية؟. لكن، حين قالت سرى ذلك، شعرتٌ بحجم السيولة التي كنت أعاني منها، ومن انزلاق أبسط المفاهيم منّي.

       يستخدم كونديرا تعبير "عالم انعدام التجربة" ليشرح المأزق الوجودي الذي وقعنا فيه. نحن لم نجرّب هذه الحياة سلفًا؛ كيف سنتعامل معها إذن، مع المواقف الصغيرة التي تخلّف أثرًا كبيرًا؟. لو تفاعلنا مع مقولته هذه، كيف ننعت شيئًا، أي شيء، بالسّخف؟ السّخف هنا، هو التّمترس حول مقولاتنا الماضية، ورصف كل جنودنا للدفاع عنها دون الاستماع للآخر. لحظة سمعت تلك الجملة، شعرتُ بالتّحرّر، وأصبحتُ أكثر تصالحًا مع ما يصدر منّي من أشياء. وأقلّ مراقبة لها.

       في (الحارس في حقل الشوفان)، يعجز هولدن عند سؤاله عن شيء واحدٍ يحبّه في هذه الحياة. أنا لستُ مثله بطبيعة الحال، لديّ عدد لا بأس به من الأشياء الّتي أحبّها، لكن حتمًا، إن كان عليّ الاختيار سأذكر هذه الإقامة كواحدة من أهم الأشياء في حياتي. كان بودّي لو كتبت عن كلّ شخصٍ بعينه، فأنا بالطبع أمتلك الكثير لأحكيه، لكن المكان يضيق عن المراد، عدا عن رغبتي في الاحتفاظ بالتفاصيل لنفسي، ففيها تلعب كل الشياطين الجميلة. لكن فيّ رغبة جامحة لاستعارة مقولة الطّيب صالح، إذ أنّ الجميع كانوا "نادرين على طريقتهم" (هيلين، سالي، آلاء، علي، آلاء خان، حسام، خالد، راما، رشا، رند، سرى، عامر، عمر، ماجد، محمد، ميال، ندى، يحيى)، ويكفي أنّكم حقيقيون، ويمكن لمسكم.

      


الأحد، 7 يونيو 2015

وراء الهاوية

          قبل أن أقدم على الانتحار بلحظة خفت. لا لأنني سوف أنهي حياتي بيدي؛ لطالما اعتقدت أن حياتي لا تساوي شيئًا. خوفي كان مرجعه قلة خبرتي. لم أقدم في حياتي على شيء إلا وفشلت فيه أوّل مرّة. لا أتذكّر الكثير من الأشياء، ذاكرتي مشوشة قليلًا، لكنّ ركوبي الأوّل للدراجة ماثلٌ كتمثالٍ أمام عينيّ. يومها، وعدني ابن عمّي أن أركب دراجته مقابل قيامي بمهمّة سريّة. أنجزت المهمة ومن ثمّ لم يأخذ منّي الأمر أكثر من دقيقة لأبات ليلتها في المستشفى. لا أذكر باقي التفاصيل، فذاكرتي مشوّشة كما قلت. المهم أنني خفت، ولم يخطر ببالي سوى أمر واحد. قررت أن أشاهد عددًا من الأفلام التي تدور حول الانتحار قبل أن أنفذ مهمتي.

          قلبت أدراج ذاكرتي، ولملمتُ ما تناثر من أفلامٍ على حاسوبي. وجلستُ أشاهدها مرة ثانية. في البدء شاهدت "Night Train to Lisbon"، ابتدأ الفيلم بفتاة على وشك القفز من فوق جسر، لكنّ أحدهم أنقذها ليبدأ رحلة من التيه محاولًا نفض الغبار عن قصتها. كانت الفتاة حاضرة في خلفيّة المشهد؛ تمامًا كحياتي. لكنّها لم تفصح عن أسبابها للرحيل. ربّما أغرتها الفكرة، ربّما لم تكن سوى أداة استخدمها الكاتب كمفتاحٍ لعالمه. المهم، أنّ هذه ليست القصّة التي أرى صورتي فيها.

          عدت للتقليب في أفلامي، محاولًا تفريغ رأسي من كلّ شيء. بدأتُ أشعر الآن أنّ العالم بات بعيدًا، بعيدًا كما الناس في الصور. وقع اختياري هذه المرّة على فيلمٍ وثائقي "The Internet’s Own Boy". يحكي الفيلم عن قصّة المبرمج آرون شوارتز الذي وضع حدًا لحياته بعد أن أدين بالسجن لأكثر من 35 سنة. في اللحظة التي وصل فيها الفيلم إلى  قول المذيع "Aaron Swartz killed himself in his apartment" ضبطت نفسي على وشك البكاء. كنتُ أشعر بأنني أحبّ هذا "الغيك"، وأخافه. شوارتز تخلّى عن كلّ المباهج التي نالها وقرّر أنّ العالم لا يستحقّ. لكنّني لم أفعل شيئًا يستحقّ الذكر لأتخلّى عنه، كانت كلّ خياراتي تشير إلى لا شيء؛ طريقٌ بلا نهاية، بلا إشارات توضيحية، بلا سيارات أو أضوية. آرون كان قويًا، لكنّني لستُ كذلك.

          بعد انتهاء الفيلم شعرتُ بالضّيق، لذا لبستُ سترة ونزلتُ من الشّقة. كنتُ أريد المشي لمرّة أخيرة في الليل. أعمدة الإنارة، شكل القطط المتسحّبة من أفنية المنازل، بعض الغرف المنارة، صوت قدمي، لعلها وحدها ما سأفتقده بعد مماتي. في رأسي الآن تدور أغنية وجدتني أبستم عند أحد مقاطعها:

"Sweet dreams are made of this
Who am I to disagree?
I travel the world
And the seven seas
Everybody's looking for something
" 


          وأخذت أكرّر بصوتٍ مرتفع "Everybody's looking for something.. "Everybody's looking for something".. "Everybody's looking for something" حتّى لم أعد أسمع صوتي الداخلي.

          تمنّيتُ لو كان بإمكاني التلصّص على ما وراء الجدران. أن أمدّ منظارًا وأرى ما يصنع أولئك الناس في الغرف المنارة. أن أقتحم عزلتهم، أن أدخل غرف نومهم، صالات جلوسهم. لكلّ منزلٍ حكاية، بل لكلّ نافذة واحدة: في تلك الغرفة، يصرخ عنّين بوجه زوجته حال فشله مجددًا في النوم معها. في واحدة أخرى، تهتزّ سيجارة في يد مراهقة كلّما ألقت النظر صوب باب غرفتها. في ثالثة، يظلّ ضوء الغرفة مشتعلا لا لشيء، إلا لإيناس وحشة طفلٍ وحيد. بعد مدّة، أُطفئت إنارة جميع المنازل، فقطفت عائدًا إلى شقتي.

          في البدء، شاهدت فيلم "Black Butterflies". كان يحكي قصّة الشاعرة الجنوب أفريقية "إنغريد يونكر". في إحدى قصائدها تقول:

"Small arrow feathered into space
Love fades away from its space
Carpenter seals a coffin that's bought
I ready myself for the nought"(1)

          القصيدة تتحدث عن حبّة الرّمل الصغيرة التي كانتها الشاعرة، وعن السهم الذي صارته. السّهم الذي فرّ من الحياة الجميلة / المزيّفة التي كانت تعيشها، لتهيّء نفسها بعد ذلك إلى العدم؛ العدم الذي اختارته رغم مشاكلها النّفسيّة والعقليّة. أحببت القصيدة، ولعلّها مفارقة أن أحبّها لغنائيتها لا لعدميتها. كان الموت رقصة، رقصة تنوء عن كلّ الصراعات القومية، تنوء عن "الطفل (الذي) لم يمت بعد"(2)، تنوء عن "جنيني (الذي) يستلقي في المجاري"(2)، وعن كلّ العشّاق الّذين لم يجدوا ما يقتاتون عليه سوى "معركة لا نهاية لها من الذكريات المتناقضة"(3). أنهت يونكر حياتها بالقفز في البحر، كم تمنّيت لو أنني الذي قفزت بدلًا منها. لو أنّني الذي كتبت كلّ تلك القصائد الجميلة. بعد أن انتهى الفيلم، شعرتُ برائحة غريبة لجلدي، ورغبت، كما لم أرغب من قبل، أن أنسلخ عنه، وأفرّ هاربًا بعظامي.

          بات الأمر جليًا أمام عينيّ، لكنّني كنت أفتقر للطريقة التي سأطوي بها حياتي. جلستُ أمام النّافذة، زجاجها كان متّسخًا بعض الشّيء. العالم في الخارج كان هادئا كتنينٍ نائم. في المدينة، ليس ثمّة أفق؛ لا شيء سوى كتلٍ من الإسمنت تحجب الرؤية، عماراتٌ متشابهة؛ كلّ شيء يشبه بعضه. هل سيكون الموت واحدًا كذلك، حتّى وإن اختلفت الطريقة؟ أفكّر في شكلي بعد الممات: في ملابسي المنقّعة بالدّم؛ في يداي المرتخيتان على جانبيّ؛ في لساني إن كان سيظل داخل فمي أم سيخرج منه؛ أو ماذا سيفعلون بملابسي بعد أن ينتهي كلّ شيء؟ ولأن الأسئلة تفتح الباب ولا تغلقه، أغلفته لأشاهد فيلمًا نرويجيًا أبقيته للخاتمة: "Oslo, August 31st". الفيلم يتحدّث عن آندرش. آندرش خرج من مصحٍّ لمتعاطي المخدرات، ليحاول العودة لحياته السابقة. حياته لم تكن تساوي شيئًا، صديق متعاطٍ شفي هو الآخر، حبيبة لا تجيب مكالماته، وبضع كتاباتٍ كتبها منذ زمن بعيد، والكثير من الكتب المقروءة، وأربع وثلاثون سنة يحملها فوق كتفيه أينما ذهب. آندرش واقف في المنتصف، طريقٌ بلا نهاية، بلا إشارات توضيحية، بلا سيارات أو أضوية.

***

          في المدرسة، كنت لاعبَ كرة قدم ماهرًا. كان الآخرون يعوّلون عليّ، وكانت هنالك تلك المباراة الهامّة مع مدرسةٍ أخرى. يومها، كنّا بحاجة لأفضل لاعبينا، وأن نؤدّي جميعنا أفضل ما لدينا. حين نزلتُ إلى الملعب، أخذت يداي ترتعش، ولم أستطع ضبطهما. ناداني المدرّب "شو مالك؟" لكنّني - كما لو أنّ شخصًا آخر استعمل صوتي - قلتُ له "ما بقدر ألعب اليوم".

          آه صحيح. خسرنا يومها بثمانية أهداف للا شيء. 

___________________________

(1): ترجمة الأبيات المذكورة:

"سهمٌ صغيرٌ طار في الفضاء
أحبّ أن يتلاشى بعيدًا عن موطنه
ختمَ النّجّار النّعش الذي تمّ شراؤه
وأعددت نفسي للعدم"


(2): مقتبس من قصائد الشاعرة:

(3): الجملة مقتبسة من رواية "1Q84" لهاروكي موراكامي.