الأربعاء، 20 أغسطس 2014

كويتزي: عن المثاليّة الإنسانيّة؛ روجر فيدرير مثالًا



(Here and Now)، هو كتاب مراسلات، يضم رسائل تبادلها الروائيّان بول أوستر (أمريكي) وجون ماكسويل كويتزي (جنوب أفريقي) بين عامي 2008 و 2011. يتضمّن الكتاب العديد من آراء الكاتبين حول الأزمة الماليّة العالميّة، رؤيتهم للنقّاد، الرّياضة، مشاكل الشّرق الأوسط مع إسرائيل  والعديد من الأمور الأخرى. هذا جزء من رسالة جاءت كاعتراف من كويتزي بعشقه للاعب التّنس السّويسري روجر فيدرير.

_________________________

15 – مارس – 2009

عزيزي بول، 

             لقد كتبتَ لي عن تعلّق الأطفال الصّغار بنجوم الرّياضة، وقد ميَّزتَ ذلك الفعل عن الموقف النّاضج الّذي يحاول أن يستشفّ الجمال الكامن وراء المشهد الرّياضي.

             أنا مثلك، أعتقد أن مشاهدة الرّياضة على التّلفاز في معظمها مضيعةٌ للوقت. لكن هنالك تلك اللحظات الّتي لا تكون فيها كذلك، كتلك الّتي تبرز مثلًا، الآن ولاحقًا، في أيّام روجر فيدرير المجيدة. على ضوء كلامك السّابق، قمتُ بتفحّص تلك الّلحظات، عدت لأزورها مجدّدًا في ذاكرتي – فيدرير يضرب ضربة ڨولي* خلفيّة عابرة للملعب (Cross-Court backhand volley) على سبيل المثال. لقد سألت نفسي، هل الجانب الجمالي، وحده، هو الذي يجعلني أشعر بمثل تلك اللحظات؟

             يبدو أنّ هناك فكرتين عبرتا ذهني وأنا أشاهده: (1) لو أنّني أمضيت مراهقتي أتدرّب على الضّربة الخلفيّة بدلًا من... عندها، أنا أيضًا سأتمكّن من ضرب مثل تلك الكرات وسأجعل النّاس في كلّ أرجاء العالم يفتحون أفواههم مندهشين؛ (2) حتّى لو أمضيتُ مراهقتي كلَّها أتدرّب على الضّربة الخلفيّة، لن يكون بمقدوري تسديد واحدةٍ مثلها، ليس تحت ضغط البطولات على الأقل. مهما أبديت من الإرادة. وهذا ما يقودنا إلى: (3) لقد شاهدتُ للتّو أمرًا بشريًّا وفوق بشريٍّ في الوقت نفسه؛ لقد أدركتُ أنّ المثاليّة الإنسانيّة يمكن الوصول إليها.

             ما أودّ قوله في معرض ردودنا هذا، أنّه بطريقة ما أطلّ الحسد برأسه ثمّ ما لبث أن اختبأ. بدأ الأمر بحسدي لفيدرير، من ثمّ انتقلت إلى الإعجاب به، من ثمّ لم أعد أحسده أو أعجب به بل أجللت ما يمكن للبشر – البشر بمعنى شخص واحد – أن يقوموا به.

             لقد وجدتُ أنّ ما أقوله هنا، مشابهٌ لرأيي في روائع الأعمال الفنّية، تلك الّتي قضيت وقتًا طويلًا معها (تمحيصًا، وتحليلًا)، وقد وصلتُ إلى نقطةٍ خرجتُ فيها برأيٍ جيدٍ فيما يقومون به: أنا أستطيع معاينة ما يفعلون، لكنّني قاصرٌ عن الإتيان بمثله، إنّه أمرٌ يتجاوزني مقدرةً؛ ولكن في نفس الوقت يظلّ من قام بذلك رجلًا (أو بطبيعة الحال امرأة) مثلي تمامًا؛ يا له من شرفٍ أن تنتمي إلى الجنس البشريّ الّذي يمثّله هؤلاء الرّجال (والنّسوة أحيانًا).

             عند هذا الحدّ لم أعد أستطيع تمييز ما هو أخلاقي عمّا هو جمالي.

أطيب الأمنيات،

جون

ترجمة: نذير ملكاوي

_________________________

                 (*) أبقيت على الكلمة بأصلها الإنجليزي، لأنها تدلّ على حركة معيّنة بمضرب التّنس، ولم أجد مقابلًا عربيًا 
                       لها.



الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

كفافيس يرحل من جديد


الإسكندرية
1:00 مساءً

             في الترام الموصل لمحطة الرّمل، يوم الإثنين 18-8، كان يجلس قسطنطين كفافيس إلى جوار نافذة الترام. لم يعر هاتفه الذي يرنّ منذ الصباح أي انتباه، هو يعلم أنّه سينجوبوليس يريد أن يطمئنّ عليه. لم يكن سبب تجاهله إيّاه هو صوته الذي بدأ يتلاشى كقصيدة عبرت في البال دون أن تتوقّف، لكنّه كان مشغولًا بطفلٍ يجلس قبالته، ويبكي على حضنِ أمّه راجيًا إياها أن يذهبا للبحر. أدهشه صغر سنّ الأم، كانت ضئيلة إلى حدٍ لم يفهم معه كيف يمكن أن ينبثق من جوفها وجودٌ آخر. نظر إلى ساعته، ثمّ عدّل من جلسته: ما يزال ثمّة وقت.

***

الإسكدريّة
10:00 صباحًا

             "قسطنطين، الإثنين القادم ستتغدّى عندي في الدكان، تمامًا كما كنت تفعل عندما كانت ماما كريستينا على قيد الحياة" خرج كفافيس من البيت باكرًا ذلك اليوم، ليزور أحد المعارف في سبورتنغ أولًا، من ثمّ ليلبي دعوة ألخيس ماسيوس "برويدروس / الرّيّس" كما يحبّ أن يدعى، صاحب مطعم "إيليت" القائم في شارع صفية زغلول / محطة الرمل. ألخيس هو مدّعٍ يوناني أصيل. كلّما زرته، يجلس معي يحدّثني عن منزلهم في كريت، يقول أنه يتذكر جيدًا نيكوس كازانتزاكيس الذي كان أشبه بأسطورة تمشي على قدمين في كريت. كنت أعرف أنه يكذب، فزيارته الأولى لكريت كانت وهو في العاشرة من عمره، وحينها كان كازانتزاكيس قد مات. لكنّني لم أخبره بذلك قط؛ عليك أن تستمع له وهو يتكلّم كي تفهم لماذا لم أفعل. كان شخصيّة أثرية، ببطنه الّتي تشعر بأنها ستسقط حالما يخلع قميصه، وفمه المجوّف كمغارة، ويديه اللتين يلوّح بهما كما لو كان يكتب على الهواء. في هذه اللحظة خطر لي بأنه شخصيّة هاربة من أحد روايات كازانتاكيس، فابتسمت من تلقاء نفسي.

             في الحقيقة، لم أكن لألبي الدعوة لولا أنني قرّرت ترك هذه المدينة، العيش لم يعد سهلًا هنا بعد كلّ التبدّلات التي طرأت والّتي ستطرأ على الحياة والنّاس. في حياتي كثيرًا ما انتظرت إشارة ما لأقدم على عملٍ يشقّ عليّ القيام به، لكن الإشارات هنا باتت أكثر وضوحًا من ألّا ترصدها العين المجرّدة. افتح نافذتك، وانظر إلى شاطئ البحر المتّسخ؛ ناقش بائع بقالةٍ في أمرٍ سياسيّ؛ انشر قصيدة عن خراب المدينة الجميلة. كان شيئًا بدهيًا أن أنعت بالـ "يوناني" كدعوة للتنحي جانبًا وعدم التدخّل فيما لا يعنيني، أو أن أتعرّض لابتزازات عديدة، قد تحصل تلك الأمور في أي مكانٍ آخر في العالم، وكنت سأحتملها كما كنت أفعل دائمًا. لكن، ما تحت الشّمس لم يعد إطلاقًا كما كان. هناك شيء قد تغيّر لا يمكن لأحدنا أن يصفه على حقيقته، لكن يمكنك الشعور به، شيء أشبه بوحشيّة باتت تسيطر على الناس، الرّغبة في نهش لحمك وتركك عظامًا، فقط انظر إلى أعين الناس وستفهم وحدك. حين نقلت لسينجوبوليس ما أشعر به، قال لي: لا بدّ أنّ البرابرة قد وصلوا، ثمّ سكت. فكّرت كثيرًا في جوابه ذاك، وما كان منّي إلا أن ألملم ما تبقّى من هذه المدينة فيّ وأغادر.

***

الإسكندرية
1:00 مساءً

             كلّما ركبت في التّرام، أشعر أنّني أعود في الزّمن إلى الوراء، وأنني حين ألتفت لأنظر من النافذة سأشاهد كلّ شيء بالأبيض والأسود. لكن ذلك يتلاشى بمجرّد أن ينطلق الترام، وتنطلق معه صفارته التي تحزّ الهواء بصوتها. كلّ شيء يتضخّم هنا، وحين تنظر إلى كمّ البشر المرتحلين على متن هذا الترام الصغير، تخاله يكاد ينفجر. أعداد كثيرة تتنقّل، كأنما الإسكندريّة كلّها حشرت في هذه العربة.

             من سبورتنغ حتّى محطّة الرّمل، هناك عشر محطّات، ولا أملك لقتل الوقت إلّا التّمعّن في وجوه النّاس. بجانب مقعدي، كان يقف شابّ نحيل، عرفت أنّه طالب من الكتب التي يحملها في يده. بجواره شابٌ آخر، يسأله أين كان، فيجيب أنّه كان عند صديقٍ آخر في سيدي جابر للدراسة، فالكهرباء في بيته لا تأتي إلا شطرًا من الليل. في مكانٍ آخر، عجوزٌ كفيف يطلب مقعدًا من الجالسين، داعيًا لمن سيجلسه بالأمن والسلامة. لكن لا أحد يجلسه، ويظلّ العجوز متشبثًا بفراغٍ ضئيل على المقبض العلوي. رغبت في إجلاسه مكاني، لكنّني كنت بعيدًا، ولا مجال للقيام بذلك دون المخاطرة بالوقوف باقي الطريق.

             توقّف التّرام أكثر من مرّة، وفي كلّ محطّة، تتدفّق أعداد جديدة داخل هذه الكبسولة البشريّة. يزداد الصخب مع مرور الوقت: صرير العجلات، كلام النّاس غير المفهوم كثيرًا بالنسبة لي، مضافًا إليها رائحة عرقٍ كثيفة. شكّل كلّ ذلك ما يشبه الغلالة على عينيّ، فكأنّما استدرجتُ إلى نومٍ عميق.

***

             في عرض البحر، يلوح شبح شخصٍ يغرق. أقترب من الشاطئ، لأجد مجموعة من عشرة أشخاصٍ يتحلقون حول الشاطئ ويضحكون، كما لو أنهم يشاهدون فيلمًا كوميديًا. لم أعرف ماذا أفعل، فأنا لا أجيد السباحة، كنت بحاجة للتأكد ممّا أرى، فلبستُ نظارتيّ. ما رأيته كان فظيعًا، الغريق كفيفٌ، لم يكن صعبًا الحدسُ بذلك، فحركات يديه تؤكدان ذلك. استمرّت الضحكات في الارتفاع واستمرّ معها عجزي. من ثمّ، وفجأةً، انقطع أمل الرجل، هناك على حافّة الشاطئ وسط البحر.

***

الإسكندريّة
1:45 مساءً

             أيقظني من نومي صوت صراخ، كان أحد الركّاب يصيح بسائق التّرام: "وقّفت ليه؟". فيقسم الرّجل أن لا دخل له: "بصّ حوليك، الكهربا قطعت عن الشّارع كلّه". لكنّ الشّمس كانت كثيفة تلك الظهيرة، ولم يظهر في القريب أيّ علامة لانقطاع الكهرباء. هدأت سورة الغضب تلك، لكن وجه الراكب لم يشي بأنه اقتنع. سمعته يقول بعد لحظات: "وبعدين مع العيشة دي، لإمتى يا رب حنفضل تحت رحمة الكهربا!". نظرت إلى ساعتي، وكانت تقترب شيئًا فشيئًا من الساعة الثانية: موعدي مع ألخيس.

             كان كلّ شيء كما تركته قبل نومي، الرّجل الكفيف، يأن في مكانه بصمت، ويده اليمنى معلّقة على المقبض كما لو كانت مكسورة. الشّاب النّحيل يتنهّد، ويخاطب من بجواره: "كان فاضل محطّة عن الجامعة، شكله الامتحان ضاع يا معلّم". من النّاحية الأخرى، يطلّ البحر علينا بوجهٍ محايد، وبين الفينة والأخرى أسمع صوت الضحكات التي سمعتها في نومي تتعالى، حتّى لم يعد شيئًا مسموعًا سواها. 



(بورتريه لكفافيس - الرّسّام غير معروف)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




  • قسطنطين كفافيس بإيجاز، هو شاعر يوناني، عاش ومات في الإسكندريّة (1863 - 1933). 
  • قصيدة المدينة لكفافيس 
  • القصة في الأساس مستوحاة من واقعة حقيقية: انقطاع التيار الكهربائي عن ترام الإسكندريّة