الخميس، 29 ديسمبر 2016

الإعجاز القرآني وإنتاج العنف الأخلاقي

     . 



الإعجاز القرآني وإنتاج العنف الأخلاقي

      يقول الروائي الفرنسي ميشيل ويلبيك في حوارٍ له مع صحيفة الباريس ريفيو، في معرض حديثه عن الصفحات الأخيرة لرواية دوستويفسكي "الإخوة كرامازوف": "الأمر ليس أنني لا أستطيع قراءتها دون أن أبكي، أنا حتّى لا أستطيع التفكير فيها دون أن أبكي"1. ويلبيك هنا غارقٌ في حالة من اللذة تشي بحبّه لرواية دوستويفسكي. أستحضر هذا الموقف لأشير إلى أنّني كنتُ منغمسًا بكلّيتي في هذا البحث، لكنّني الآن، حين حانت لحظة الكتابة كأنّها ساعة الموت، وكأنّني لا حين أتذكّر وقوفي أمامها فحسب، بل حتّى حين أفكّر أنّني أقف أمامها، لا أجد سوى البكاء مهربًا. تبدو القراءة يسيرة دومًا، على الأقل هي أسهل الأمور، فبها أنت لا تكون أكثر من آلة تقلّب الصفحات وإن لزم الأمر تسجّل ملاحظاتٍ سبقك إليها غيرك، أنتَ تقف على الجهة الأخرى تمامًا ممّا كتبه الكاتب السوري منذر عياشي: "ثمّة فعاليتان للمتعة، تنطلق منهما كل عملية إبداعية: الأولى، وهي فعاليّة القراءة. الثانية، وهي فعاليّة الكتابة. ولقد نعلم أن هاتين الفعاليتين وجهان لفعل واحد. فالقراءة لا تنفك تدور في فلك الكتابة، بل هي كتابة ولكن بطريقة أخرى."2، فأيّ متعةٍ تنطوي عليها قراءة آراءِ من درسوا الإعجاز القرآني؟ إذ أنّك، كمن يُقدم على الزواج بفتاة ويكتشف أنّه تزوّج عائلة بأسرها، تكتشف أنّك لا تقرأ رأي شخصٍ بعينه، بل رأي أمّة بأسرها. بلى ثمّة استثناءات، وبلى ثمّة كلامٌ مهمٌ يُستشفّ وسط عتمةٍ لا تنثني، لكنّه حتمًا ليس موضوعًا ألتجئ له لحظة توقٍ للّذة.

      تبعًا، لم أشعر للحظة وأنا أقرأ وأفكّر في مسألة إعجاز القرآن، أنّ بالإمكان معالجة مسألة تضرب جذورها في تاريخ الإسلام بأكمله دون التطرّق لأسئلة وجوديّة تمسّ الهويّة العربيّة والمسلمة: لماذا أخذ خطاب الله هذه الحدّيّة حدّ تحدّي كلّ من يشكّك في كلامه؟ هل لعقليّة العرب في ذلك الوقت (والآن؟ بما أنّ الادّعاء بصلاح القرآن لكل زمان ومكان قائم) دورٌ في ذلك؟ ولماذا ما يزال السؤال مطروحًا كأنّ التاريخ لم يمشِ خطوة، أو كأنّنا الإثبات العيانيّ لمقولة العود الأبديّ؟ حاولتُ الحديث مع أبي في هذا الأمر. أقول حاولت لأنّ مرادي كان التفكير بصوتٍ عالٍ أكثر من الأخذ والرّدّ، فمسألة القول بإعجاز القرآن عنده تساوي الإيمان بالله وبالدّين، ليس أقلّ من هذا. لكنّنا، كاثنين يدخلان من بابٍ دوارٍ، كلّما دخل أحدنا من طرفٍ خرج الآخر من الطرف الآخر؛ السؤال ظلّ مفتوحًا كنافذة في يومٍ ماطر.

      لأقول الحقّ، احترتُ في شكلِ ما سأقدّمه: حين كان المطلوب عرضًا شفويًا لما وصلتُ/وصلنا إليه في بحثنا هذا، كنتُ قد قرّرتُ أن أقدّم عرضًا سريعًا للكتاب المنوط بالقراءة "ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرّمّاني والخطّابي وعبد القاهر الجرجانيّ"3 يفترضُ الوقوف على أرضٍ مكشوفة لطرفي العرض: المُتكلّم/المستمعون، من ثمّ الدخول في عرضٍ لما أفكّر فيه. الآن، ازداد الأمر صعوبةً، إذ أنّني أمام مخاطبٍ شبه مجهول. أقول شبه، لأنّني أعرف أنّني أخاطب د. بلقيس الكركي أولًا، لكنّني لا أعود أعرف من أخاطب بعد، وأحسب أنّ هذه الحيرة متأتّية من طبيعة الكتابة ذاتها، لا من طبيعة الموضوع. أذكر كلّ هذا لأقول أنّني أمام خيارين: إمّا أن أذكر الآراء الواردة في الكتاب، وآراء غيرهم من الكتّاب في مسألة الإعجاز بتفصيلها، أو أن أقف على نقاطٍ محدّدة، تتخفّف من الحلّ الأوّل الذي يقترب من التلخيص، وتساعد في أن يكون صوتي أكثر حضورًا. لذا، وبعد لأيٍ، اخترتُ الحلّ الثاني.

***

      خلال قراءتي لرسائل الكتّاب الثلاث (سأسميهم كتابًا تجاوزًا، كي يسهل الجمع بينهم)، لاحظتُ نوعين من الخطاب في كلامهم. الأوّل، ينطلقون فيه من نسقٍ معرفيّ سابقٍ على سؤال الإعجاز ذاته. في هذا النمط من الخطاب، هم يخاطبون أُناسًا متعيّنين في أشخاصٍ/أقوام لهم وجودهم الفيزيائي، إمّا أن يكونوا المشركين، أو أنّهم يخاطبون فئة ما، لنفترض أنها يعوزها الفهم. يقول الخطّابي في رسالته "بيان إعجاز القرآن"وأما ما عابوه من التكرار فإن تكرار الكلام على ضربين: أحدهما مذموم وهو ما كان مستغنًى عنه غير مستفاد به زيادة معنًى لم يستفيدوه بالكلام الأول، لأنّه حينئذ يكون فضلًا من القول ولغوًا. وليس في  القرآن شيءٌ من هذا النوع."4. واضحٌ هنا أنّ ثمّة مخاطبٌ ما، سواءً أكان يوجّه الخطّابيّ كلامه للمشركين مباشرة أم من خلال وسيطٍ مفترض، كلا الحالتين تقرّان بوجود مخاطب. وفي رسالته "النكت في إعجاز القرآن" يلخّص الرّمّاني فكرته عن الإيجاز والقَصْر مقابل الإطناب والتطويل، بقوله: "والإيجاز بلاغة والتقصير عيّ، كما أن الإطناب بلاغة والتطويل عيّ، والإيجاز لا إخلال فيه بالمعنى المدلول عليه، وليس كذلك التقصير.]...[. وإذا عرفتَ الإيجاز ومراتبه، وتأملتَ ما جاء في القرآن منه، عرفتَ فضيلته على سائر الكلام، وهو علوّه على سائر الكلام، وعلوّه على غيره من أنواع البيان."5.

      نلحظ أنّ كلام الرّمّاني، يمكن أن يكون تعليميًا، أي يفترض وجود مخاطبٍ مصغٍ يطلب الفهم والتفريق بين الإيجاز والتقصير، أو الإطناب والتطويل مثلًا. ويمكُن الإشارة لشيء شبيه لدى الجرجانيّ كذلك، لكن ليس هذا سبب استحضاري لأقوالهم، بل لأقول أنّ ثمّة خطابًا ثانيًا، خطاب متعالٍ على الآخر حدّ إلغائه تمامًا أو الاقتراب من ذلك، وهنا لا يعود واحدهم ينطقُ من موقعه فقط، بل هو يلغي فكرة الموقع ذاتها إذ لا يبقى في الوجود رأي سوى رأيه. يقول الخطّابي في رسالته: "ومعلومٌ أنّ الإتيان بمثل هذه الأمور (أي بمثل ما جاء به القرآن)، والجمع بين شتاتها حتّى تنتظم وتتّسق أمرٌ تعجزُ عنه قوى البشر، ولا تبلغه قُدَرُهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله"6. وهذا النوع من الخطاب يكثر لدى الجرجانيّ كذلك، فهو يقول مثلًا: "قد أردنا أن نستأنف تقريرًا نزيد به الناس تبصيرًا أنهم في عمياءٍ من أمرهم حتّى يسلكوا المسلك الذي سلكناه"7.

      لا يبدو لي أنّ الأمر نابعٌ من التواجد في نسق معرفيّ ما بقدر ما هو تعالٍ على الوجود الذي يجمع بينهم وبين من لا ينهج نهجهم (حتّى يسلكوا المسلك الذي سلكناه – الجرجاني). لذا ربّما، أقول ربّما لأنّني لستُ واثقًا تمام الثقّة مما سأقول، أنّ جزءًا من كِبَر المشركين إزاء القرآن، والإسلام تبعًا، هو هذا الموقف الذي لا يساوي بين طرفي الخطاب، فثمّة دائمًا من هو متفوّقٌ أخلاقيًا، لا في المكان الذي اختاره فحسب، بل حتّى في محاولته "تبصير" الآخر، وكأنّه يمدّ له يدًا وفي الأخرى يحاول منعه من الوصول إلى مكانه حتّى لا يقاسمه إيّاه.

بعيدًا عن أسلوب الخطاب المُتّبع، وعودة لأسباب كلّ واحدٍ منهم في إعجاز القرآن. فخلا الباقلّاني والجرجاني، لم أقتنع بآراء أحدٍ منهم في القول بإعجاز القرآن. ما يقوم به الخطّابي مثلًا، من تقديم حجج للقول بالصّرفة، أو عجز العرب المفاجئ عن الإتيان بمثل معاني القرآن، أو بالفروقات الدقيقة بين كلمة وأخرى ("من" و"عن" على سبيل المثال)8، كلّها أسبابٌ مفارقة لفكرة الإعجاز، أي بخصوصيّة النص القرآني عمّا سواه. وليس الرّمّاني ببعيدٍ عن هذا، إذ يورِدُ عددًا هائلًا من التشبيهات والاستعارات وأشكال البيان الأخرى ويُعمل فيها شرحًا، كأنّه أستاذٌ أصمّ، لم يسمع سؤال تلميذه ابتداءً فراح يشرح ويشرح كأنّما يشرح لنفسه لا لأحدٍ آخر. ما المعنى من وجود الكلام على ما هو عليه ابتداء؟ ما المعنى من وجود المجاز والاستعارة والتشبيه وغيرها من أشكال البيان؟ هذا ما لا يجيب عليه أيٌ من هؤلاء.

      الباقلّاني على خلافهما، وهو أسبق زمنًا من الجرجاني، فقد جاء على ما يشي باتّخاذه النظم مدارًا للنظر، فهو يقول في كتاب الرسائل الثلاث: "فإن كان إنما يعني هذا القائل أنه إذا أتى في كلّ معنى يتفق في كلامه بالطبقة العالية، ثم كان ما يصل به كلامه بعضه ببعض، وينتهي منه إلى متصرّفاته على أتم البلاغة، وأبدع البراعة، فهذا مما لا نأباه بل نقول به. وإنما ننكر أن يقول قائل إن بعض هذه الوجوه بانفرادها قد حصل فيه الإعجاز، من غير أن يقارنه ما يتّصل به الكلام ويفضي إليه، مثل ما يقول: إن ما أقسم به وحده مُعجز، وإن التشبيه مُعجز، وإن التجنيس مُعجز، والمطابقة بنفسها مُعجزة."9، وهذا تقريبًا عين ما أصابه الجرجاني، وإن كان قد عمد إلى توسعته أكثر وبات بالإمكان أن نُطلق على قوله "نظريّة" في تفسير إعجاز القرآن، تفنّد أقوال من قالوا بإعجاز الكلم منفردًا، أو أنّ الإعجاز في الحركات والسكنات، أو لما في الآي من تشبيه أو تمثيل أو استعارة أو مجاز أو غير هذا ممّا قال به سواه.

      الجرجاني فيما أراه، وجهٌ متجهّم، حادّ الذّكاء، لا يحاول الإجابة عن تساؤلاته الخاصّة فحسب، بل عن أيّ احتمالٍ ممكنٍ لفكرةٍ بعيدة قد تقوّض مسعاه. هو أشبه برجلِ مخابراتٍ يضع استراتيجيّات لقمع معارضين وهميّين لا وجود لهم على أرض الواقع، بل فقط في الخيال؛ إنّه تمثّل آخر لدون كيشوت، يصارع طواحين الهواء الخاصّة به وحده. ففي ما يختصّ بالإعجاز، وببساطة، يشير الجرجاني إلى أنّ الإعجاز يكون بتوخّي معاني النحو؛ أي بتعلّق الكلم بعضه ببعض، دون وجود احتمالٍ آخر لترتيب الكلام دون أن يفقد جزءًا من المعنى. وهذا القول مثلًا، يردم فراغًا مهمًا في ضعف القائلين بأنّ الإعجاز في الاستعارة فقط، لأنّه أولًا لا يمكن أن يكون الإعجاز في آيات معدودات ليس إلّا، وثانيًا – والكلام للجرجاني - "لأنّه لا يُتَصوّر أن يدخل شيءٌ منها في الكلم وهي أفراد لم يتوخّ فيما بينها، حكم من أحكام النحو، فلا يتصوّر أن يكون ها هنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون قد أُلّف مع غيره"10.

***

      توقّفت، وأنا أقرأ كتاب الرسائل، على بعض الأمور والتبريرات المقدّمة التي تدفع على الضحك، وبعد تفكيرٍ في إيرادها من عدمه، قرّرت أن أوردها لعلّها تكشف شيئًا من عقليّة التعامل مع النصّ الدينيّ.

1-         يقول ابن سنان: "وهذا معنى إذا عُبّر عنه بالألفاظ اليسيرة في قوله تعالى: "ولكم في القصاص حياة – البقرة 179" كان ذلك من أعلى طبقات الإيجاز. وقد استُحسِن أيضًا في هذا المعنى قولهم: القتل أنفى للقتل. وبينه وبين لفظ القرآن تفاوتٌ في البلاغة، وذلك من وجوهٍ: ]...[. ثالثها: أن نظير قوله القتل أنفى للقتل، القصاص حياة، والقصاص حياة، أوجز لأنه عشرة أحرف، والقتل أنفى للقتل أربعة عشر حرفًا.11". ناهيك عن الإهانة التي يتلقاها النص القرآني حين ينزل مرتبة يصير فيها بليغًا لأنّه أنقص بأربعة أحرف عمّا يوازيه في المعنى من كلام العرب، فإنّ القول ذاته فيه تزييف، إذ أنّه استبعد "ولكم في" من الحساب، ومعلومٌ أنّ كلّ كلمة في القرآن، كما يقول الجرجاني، تعطي معنًى خاصًا في السياق الذي توجد فيه، فكيف يتأتّى لابن سنان والرّمّاني من قبل (ينقل ابن سنان هذا القول عن الرّمّاني) أن يستبعدا الكلمتين على هواهما، فقط ليثبتا للقرآن ما يمكن أن يُثبت له من باب المعنى لا من باب التّعداد، كما كالأطفال؟.

2-         يقول الرّمّاني، في باب "نقض العادة" كدليلٍ على إعجاز القرآن: "وأمّا نقض العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة: منها الشعر ومنها السجع ومنها الخطب ومنها الرسائل، ومنها المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن نقصانًا عظيمًا." ثمّ يكمل: "ولذلك من جاءَ بغير الوزن المعروف في الطباع (يقصد الوزن في الشّعر)، الذي من شأنه أن يحسّن الكلام بما يفوق الموزون فهو مُعجز"12. من المفيد والمضحك في آن، وقد ظهرت عندنا نحن العرب قصيدة النثر الخالية من كلّ وزن وقافية، وبناءً على ما سلف من كلام الرّماني، أن نسأل ما إذا بالإمكان اعتبار قصيدة النثر، بما هي عليه من "غير الوزن المعروف في الطباع" أن نعتبرها أمرًا معجزًا؟!.

3-         تتكرّر آياتٌ بعينها ساعة الاحتجاج ببلاغتها لدى كثيرٍ من العلماء والفقهاء. خاصّة آية "ولكم في القصاص حياة – البقرة 179"، و"فاصدع بما تؤمر – الحجر 94"، و"واشتعل الرأس شيبًا – مريم 4"، و"وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورًا – الفرقان 23". حتّى وصل ببعضهم الحال لا بأن يكتفي بوصف بلاغة آيات أشبعها غيره كلامًا وتفسيرًا، بل حتّى أن ينقل الوصف كما هو، مثلما فعل ابن سنان حينما نقل بالحرف في كتابه "سر الفصاحة" حين قال: "لأن حقيقته – عمدنا – لكن (قدمنا) أبلغ لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر، لأنه من أجل إمهاله لهم عاملهم كما يفعل الغائب عنهم إذ قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم به، وفي هذا تحذير من الاغترار بالإهمال"13. وهو ما يرد بالصياغة نفسها، دون أن تنقص حرفًا، في معرض حديث الرّماني عن هذه الآية، ص86 من كتاب "ثلاث رسائل في إعجاز القرآن" (والرماني سابق على ابن سنان بمئة وسبعةٍ وعشرين عامًا).

      أرغب أن أكمل على ما انتهيتُ إليه في النقطة الأخيرة، إذ أنّ في بُعد البلاغيّين عن الغوص في إشكاليّات بعض آيات القرآن، مثل آيات الميراث، وحق الرّجال بالزواج من أربع نساء، والآيات المنسوخة، ما يشير إلى آليّة في التفكير، وغيرها الكثير، توحي بأنّهم، أي البلاغيين، حتّى وإن كانوا دائمًا ما ييمّموا وجههم صوب المعنى (الجرجاني على سبيل التخصيص)، فإنّ تعاملهم مع القرآن فيه فيضٌ من الحسّيّة، إذ يتشبثون بالآيات التي تغلب عليها براعة التصوير، ويهربون، كمن يهرب من ماضٍ أليم، من الآيات الإشكاليّة (مثل الآية 63 من سورة التوبة: "قالوا إن هذان لساحران"، وهنا يمكن لنا أن نسائل الجرجاني الذي يعتدّ بالنظم بما هو توخٍّ لمعاني النحو عن مخالفة النّحو لمقتضى الحال في هذه الآية، فـ"هذان" يجب أن تنصب لا أن ترفع كما وصلتنا).

***

      نعم قد يتوخّى القرآن أفضل نظم، وفي هذا قد يكون مُعجزًا، لكن هل يسائل الإعجازُ الحقيقةَ فعلًا؟ لا شكّ أنّ كلّ من قال بإعجاز القرآن يعتقد بأنّ معانيه سامية، ولا يسمو عليها أي معنًى فيما عبّرت عنه من أغراض. لكن أين الحقيقة، بما هي عليه من صدق، صواب، يقين.. إلخ من الإعجاز؟ قد تكون الحقيقة كامنة في أنّ القرآن مُنزلٌ، بالتالي يصير مرجع الإعجاز أنّه وحيٌ من الله (كاملٌ بطبيعته)، أي بتعاليه عمّا هو بشري (ناقص بطبيعته). لكن أليس هذا انزياح للحقيقة، وادّعاءٌ بأنّ الوحي، فقط لكونه وحيًا، مساوٍ للإعجاز؟

      ينحصر المعنى الاصطلاحيّ للإعجاز بالصيغة الصرفيّة: أعجز << أفعل14، أي بالمفاضلة دون المجيء على ذكرٍ للحقيقة. نزلت سُوَرٌ تحمل تحديًا للمشركين بأن يجيئوا بمثل ما جاء به القرآن، مثل سورة هود والإسراء، في وقتٍ أبكر من نزول سورة النور مثلًا. أي أنّ المسلمين كانوا على قناعة بأنّ كلام القرآن مُعجزٌ ولا ريب، لكنّ إيمانهم هذا لم يكن ليدفع الاتّهام الموجّه للسيدة عائشة في حادثة الإفك، لولا نزول الآيات التي تبرّئها. الإعجاز مصطلحٌ جامد، لا يجيب عن تساؤلاتنا التي تتغذّى على الشّكّ، إنّه مصطلحٌ لا يؤشر إلّا على نفسه، مثل مهرّج في سيرك كبير، أو كنجمة كبرت في السن ولم يعد من يلتفت إليها سواها.

      استكمالًا للفكرة السابقة، سأشير أولًا لقولين: الأول لعبدالله صولة، في كتابه "الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبيّة": "إنّنا ننطلق من فكرة بديهية جدًا، وهي أن القرآن خطاب. وكونه خطابًا يقتضي أنّه إقناع وتأثير". ويقول كذلك: "والقرآن، فضلًا عن كونه خطابًا موجهًا إلى متلقٍ فعليّ أو محتمل، مسرحٌ عليه تتحاورُ الذوات وتتجادل ويُحاجّ بعضها بعضًا"15. والثاني لإدريس جبري، في بحث له عن الخطاب القرآني عند محمد عابد الجابري: "بالنظر إلى درجة حضور البلاغة، بمعناها الكلي الذي يشمل الجناح التخييلي والجناح التداولي للحجاج، يمكن النظر إلى الخطاب القرآني عند الجابري والتعامل معه، على قاعدة أنه بالفعل خطاب احتمالي مؤثر، ...، خطاب احتمالي ينشد التأثير في المتلقّي"15.

      طبقًا لهذين القولين، فإنّ الإعجاز، بما يمشي على سائر القرآن، هو خطاب، خطابٌ قرآنيّ. كما يمكن أن نلحظ أنّ خطاب القرآن ليس خطابًا واحدًا، ففي الوقت الذي نقرأ فيه "وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ – البقرة 109"، نقرأ أيضًا "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ – العنكبوت 46". الآن، إذا أردنا نُخضع الإعجاز، كخطابٍ، للمساءلة، فأين يمكن أن نصنّفه؟ أشرتُ مسبقًا إلى جزءٍ من رأيي، لكنّني أستتبع أنّني لا أرى الإعجاز مفهومًا سالبًا وغير منتجٍ فحسب، بل أراه يحملُ عنفًا أخلاقيًا كذلك، في محاولته وسم الآخر بهويّة ثابتة واحدة قَصْدَ إلغائه. وأودّ أن أدلّل على كلامي هذا. لنأخذ عددًا من آيات التحدّي بالإتيان بمثل القرآن: "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً – الإسراء 88"، "أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ – هود 13"، "وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ | فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ – البقرة 23،24". في جميع هذه الآيات، يأتي طلب الإتيان بمثل معاني القرآن على الدوام مشروطًا بشرطٍ سالب (ولو كان بعضهم لبعضهم ظهيرًا، إن كنتم صادقين، إن كنتم صادقين (مجددًا)، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا). تقول جوديث بتلر في كتابها "الذات تصف نفسها"16 محاولة رسم حدودٍ للحكم الأخلاقيّ: "قد نعتمد أحيانًا على أحكام الإدانة أو البراءة لكي نوجز حياة الآخر"17، وفي مكانٍ آخر من الكتاب ذاته تقول: "تعمل الإدانة، والشجب، والاستنكار بوصفها طرقًا سريعة لرسم خط فاصل أُنطولوجي بين الحاكم والمحكوم، بل هي تُطهّر الذات من الآخر. تصبح الإدانة طريقة نؤسس بها الآخر بوصفه لا يستحقّ الاعتراف أو نتخلّص بها من جانب من أنفسنا نرميه على الآخر الذي نوجّه له الإدانة حينها. بهذا المعنى يمكن للإدانة أن تعمل على الضد من معرفة الذات، لأنها تضفي طابعًا أخلاقيًا على الذات يتحقق بالتنصّل عن المشتركات التي تجمعنا بالمحكوم."18.

      قد يُحتجّ على ما أقول، أنّ الحال لم يكن على ما أشير إليه من مجرّد سلبٍ لأهليّة المخاطبين ساعة النزول، أو أنّ القول بإعجاز القرآن هو دعوة لإثبات أنّه سماويّ من عند الله في النهاية، لكن كيف يصحّ ذلك، والخطّابي يقول في رسالته: "ومعلوم أنّ الإتيان بمثل هذه الأمور (يقصد أفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصحّ المعاني)، والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قُدَرُهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته أو مناقضته في شكله."19 ، ثمّ يعود ليكمل مباشرة: "ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة إنه شعر لما رأوه كلامًا منظومًا، ومرة سحر إذ رأوه معجوزًا عنه، غير مقدورٍ عليه."19 ويكمل بعد صفحة بقوله: "وكيفما كانت الحال ودارت القصّة، فقد حصل باعترافهم قولًا، وانقطاعهم عن معارضته فعلًا أنه مُعجز، وفي ذلك قيام الحجة وثبوت المعجزة، والحمدلله."20. أي، أنّهم ("الكفّار") لم يُهزموا فحسب، بل كانوا جزءًا أصيلًا من نهايتهم "الحتميّة" تلك!.

      دائمًا ثمّة آخر مطالب بأن يقف ندًا أمام النّصّ القرآنيّ، تمامًا كما كان امرؤ القيس ينازع كلّ من قال شعرًا21، حتّى لا يكون في الآخر سوى شاعرٌ واحد، إن هو أراد أن ينازع أحدًا في شعره، لم يجد إلّا نفسه!. ولعلّ خطاب من نافحوا عن إعجاز القرآن، في تعاليه إزاء الآخرين، لا يكون إلّا امتدادًا للنّص القرآني، مرآة ينعكس عليها ما انطبع في نفوسهم من إيمانٍ لا نهائيّ فيما يقوله القرآن.

***

      أرغب في الرجوع خطوة إلى الوراء، والقول بأنّ كلامي هذا لا يقول بوجود إعجاز في القرآن، لكنّه لا ينفي الإمكانيّة كذلك. ما أقوله أنّني لستُ مرتاحًا مع طبيعة الخطاب القائل بالإعجاز، والأخلاقيّات التي يصدّرها، لكنّ هذا ليس إثباتًا أو نفيًا لشيء. حتّى أنّني في الحقيقة، ما أزال أؤمن أنّ في نظريّة النظم من القوّة في المنطق ما يجعل مجرّد محاولة تحدّيها أمرًا ساذجًا. وإن كان لي أن أضيف، فإنّ ما يجعلني أقف دائمًا موقف شكٍ أمام كلّ من يستنطق القرآن بعيدًا عن اللغة (القول بالإعجاز العلمي للقرآن مثلًا)، أنّ القرآن يقدّم نفسه على أنّه كلامٌ، أي أنّه لغة. لذا، إن كان القرآن معجزًا حقًا، فأستغرب أن يكون إعجازه بعيدًا عن اللغة، وفي ما تختصّ به البلاغة تحديدًا من بيانٍ ومعنى.

      أخيرًا، لا تبدو قراءة ما كتبتُ لذيذة عند الانتهاء كذلك، ولا أقلّ هلعًا من لحظة البدء بالكتابة. كأن مصير الأشياء الثبات، كأن مصير الأشياء ألا تنتهي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): Michel Houellebecq, The Art of Fiction No. 206 – The Paris Review.

(2): الكتابة الثانية وفاتحة المتعة – منذر عيّاشي – المركز الثقافي العربي - الطبعة الأولى 1998 - ص5.

(3): ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرّمّاني والخطّابي وعبد القاهر الجرجانيّ – دار المعارف بمصر – الطبعة الثانية 1968.

(4): المصدر السابق – ص52.

(5): المصدر السابق - ص78-79-80.

(6): المصدر السابق - ص28.

(7): المصدر السابق - ص197.

(8): المصدر السابق – ص32.

(9): المصدر السابق - ص165.

(10): المصدر السابق – ص202.

(11): المصدر السابق - ص170.

(12): المصدر السابق – ص111.

(13): سرّ الفصاحة – ابن سنان الخفّاجي - دار الكتب العلميّة – الطبعة الأولى 1982 – ص120.

(14): معجم اللغة العربيّة المعاصر: ارتفاع عن مدى قدرة البشر "إعجاز القرآن: عدم القدرة على محاكاته وامتناع الإتيان بمثله".
مختار الصحاح: وأعْجَزَهُ الشيء فاته وعَجَّزَهُ تعجيزا ثبطه أو نسبه إلى العجز و المُعْجِزَةُ واحد مُعْجِزَاتِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

(15): القولان منقولان عن كتاب "بلاغة الخطاب الديني" إعداد وتنسيق محمد مشبال – منشورات ضفاف & منشورات الاختلاف – الطبعة الأولى 2015 – ص171.

(16): الذات تصف نفسها – جوديث بتلر – ترجمة فلاح رحيم – دار التنوير & جامعة الكوفة – الطبعة الثانية 2015.

(17): المصدر السابق - ص98.

(18): المصدر السابق - ص101

(19): ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرّمّاني والخطّابي وعبد القاهر الجرجانيّ – دار المعارف بمصر – الطبعة الثانية 1968 - ص28.

(20): المصدر السابق – ص29.

(21): "كان امرؤ القيس ينازع كل من قيل إنّه يقول شعرًا" - المصدر السابق – ص59.