الخميس، 3 نوفمبر 2016

اختفاء

"ما تقوليلي تحت الأرض

إلي أسبوعين واقف عالأرض
عم بحكي.. وبشكي
مصافي وقوانين.. طاقة وعلوم
ما تطلعي فوق؛ عالم مجنون
عم بحفر.. نازلّك.. عم بحفر"

تحت الأرض - المربّع


***


ليلة الأحد، رفضتني سارة

         اسمي "جبر العساف"، 27 سنة. أسكن المدينة الرياضيّة مع أمّي، أشجّع نادي الوحدات، أحبّ لعب البلايستيشن وقراءة الروايات. كنتُ، قبل أسبوعين من الآن، أعمل في البنك العربي فرع المدينة الرياضيّة. كنتُ أحبّ مناكدة الموظّفين بقرب إقامتي من العمل "من التخت للشغل الله وكيلكم". لا أحبّ تذكّر واقعة فصلي من العمل، إذ كلّما مرّت الذكرى في خاطري، أتذكّر المسافة من الشارع المقابل لمخبز بسمان إلى بيتنا، وأرى، تمامًا كما يرى الميتُ شريط حياته أمامه، موضع خطواتي من باب البنك حتّى درجات البيت. يوم الأحد قدِمتُ إلى العمل سكرانًا. لم تكن المرّة الأولى التي أفعلها، لكنّ المدير، الأستاذ أحمد خضير، لمحني في الليلة السابقة، أخرج من بار "تشابلن" في اللويبدة، وعلمتُ لحظتها أنّه بيّت لي نيّة سيّئة، فلم أبخل على نفسي بالشّرب. في اليوم التّالي طلبني. تحدّث بهدوء، بهدوءٍ أمكنني معه أن أشعرُ ببرودة المقصلة التي يُنزلها ببطء على رقبتي. أوقفته، وسط حديثه، وقلت له: "أستاذ أحمد، إذا عشان البار مبارح، فأنا ما بحبّه لتشابلن، حتّى لما شفتني كنت طالع منّه لأروح عمايسترو. هناك الجو غير. فاهم علي؟". المُختصر: طُردت، من ثمّ حملت صندوقًا صغيرًا فيه بطاقات تحمل صورًا لرأفت علي، بضع رسائل مكتوبة بخطّ اليد، نسخة من رواية "الإحساس بالنّهاية" لجوليان بارنز. وغادرتُ، دون أن ألقي التحيّة على أحد.

         ليلة الأحد، رفضتني سارة. أعرف سارة منذ سنة ونصف، ومنذ ذلك الوقت أدعوها بصديقتي. لا أعرف أين يبدأ تعريفنا للأشياء، ولا أذكر من نعت الآخر أولًا بالصّديق. ما أعرفه أنّ هذا اللقب يلتصق بالمرء مثل فصيلة دمه. سارة جميلة، شيءٌ في وجهها يعلو به عن النعومة، لعلّهما عيناها ما يعطيان ذلك الإحساس. كنتُ، حين أنظر فيهما، أنقلبُ كأنّما أصيرُ خشبةً في وجه الموج. حين أدركتُ أنّ الوقت في غير صالحي، تقدّمتُ خطوة وأخبرتها فيما أشعر. هل قلتُ أحبّها ذلك اليوم؟ لا أذكر، حقًا لا أذكر. أجابتني  بثبات كأنّها تحضّرت سلفًا لمثل هذا الموقف "حابة أكون معك، بس بنفس الوقت حابّة حرّيتي أكتر.. فاهم علي جبر؟". رنّت جملتها بأذني، كانت مألوفة كحلمِ يقظة، لكنّها ظلّت تنأى كلّما فكّرت فيها أكثر، تمامًا كما ينأى وجهها عنّي، وجهها الذي لم يبق منه سوى شفتين: رقبة نابتة تعلوها شفتان تنطقان بجملة واحدة: "بحب حرّيتي أكتر" آلاف المرّات.

         ذهبتُ ليلتها، بعد أن رآني المدير، إلى مايسترو لأفرغ حزني في الشّرب. شربتُ كثيرًا حتّى أمكنني أن أرى حزني في انعكاس الزّجاج والمرايا. هنا، يملأ الجاز المكان، ولا أجده متناغمًا مع حزني. رفعتُ صوتي قليلًا وقلت: "لونّهم يحطولنا تِكنو ولّا أي اشي، لأنه هالحزن ما بعد حداثي" وضحكتُ بصوتٍ خفيض. ألمحُ، ليس بعيدًا عنّي، ملصقًا على الحائط عليه صورة لأم كلثوم "التي ستطرب الجمهور في تسجيلاتها الأصليّة على مسرح مايسترو"، ثمّ ألمح واحدًا آخر للويس آرمسترونغ وأخمّن المكتوب عليه. تعلو الموسيقى لحظة أشعر أنّني شخصيّة في رواية لهاروكي موراكامي؛ أشعرُ أنّ حياتي تافهة فأتساءل ما إذا يعاني في كتابة رواياته!. أحاول التفكير، مكملًا اللعبة التي بدأتها، أيضًا كشخصيّة لموراكامي: أين سمعتُ جملة سارة تلك؟ ولماذا تبدو مزيّفة هكذا كأنّها لحنٌ مسروق؟.

         تستيقظ أمّي باكرًا لتذهب إلى عملها في وزارة الأوقاف. تستيقظ كلّ يومٍ لتجدني أضع السماعات على رأسي وألعب البلايستيشن. اسم أمّي صباح، لكنّها لا تشبه الصباح في شيء. اندفعت اليوم متناسيةً "صباح الخير" لتقول "لمتى بدّك تظلّ مآنسني بهالقعدة؟"، "بتعرفي إنّك مش شبه الصبّاح بالمرّة؟"، "إيش تفضّلت؟"، "لا يعني انتِ هيك ما بتشبتهي الصّباح"، "بشبه شو لعاد؟"، "يمكن العصر، أو ما بعرف. بس للأمانة فيكِ من نكدُه". يتكرّر المشهد كلّ يومٍ بتنويعاتٍ مختلفة، وحده النشاز يظلّ  عنصرًا ثابتًا. في المحصّلة تواظب صباح على ما درجت عليه؛ تدفع الأشياء إلى نهاياتٍ باكرة، غير عابئة بالعواقب.

         بدأتُ أخرج من البيت، توصلني أمّي إلى دوّار المدينة، وأكمل من هناك. كلّ يومٍ في جهة، وكلّ يومٍ وسيلة نقلٍ مختلفة. في البدء، لم تكن نيّتي البحث عن عملٍ وإن كان هذا ما جهرتُ به. ما كنتُ أرغب فيه حقًا مسافة تبعدني عن كلّ شيء، أن أنظر لنفسي كمن ينظر إلى الناسَ من شرفته، أن أنغمس في أشياء تصل بتفاهتها حدّ اللاشيء. كنتُ راغبًا في الخروج من ذاتي بلا هدف، حتّى أشعر بخلاف ذلك.

         في الأيّام الأولى، بدأتُ أركب باصات الجامعة الأردنية أو باصات صويلح. المسافة قريبةٌ جدًا ولا تكفي لفتح كتابٍ حتّى. ركبتُها أسبوعًا، لأجد نفسي أصلُ بأقلّ من عشرة دقائق، فيفيض الوقت عندي كالأرز ولا أعرف فيما أصرفه. في يومٍ، كنتُ أهمّ فيه أن أدخل لأجلس في مقهى "indoor" نادى كونترولٌ عليّ "زرقا شب؟". ألقيتُ نظرة سريعة على كعب رواية جوليان بارنز بين يديّ وقلتُ له "زرقا".

         لطالما رأيتُ وسائل النقل مجازًا لشيء أكبر، شيء غامض لا أفهمه. ولأعمّم الأمر أكثر، فإنّ المجاز يخصّ الطريق عينه. الحياة برمّتها تتلخّص بسيّارة يسير صاحبها نحو شيء لا يدركه، لا يعرفُ هو لماذا اتّخذ هذا الطريق لا غيره، لماذا يسير أصلًا، لكنّ قوّة أكبر منه تشعره بأنّه يفعل الشيء الصحيح. أنهيتُ بظرفِ يومين  رواية بارنز. ثمّ أشفعتها بروايات أخرى، قرأتُ بول أوستر، كويتزي، رينيه الحايك وغيرهم. ما أستطيع قوله الآن، أنّ نهمي للقراءة كان معادلًا لطول الطريق؛ نهمي كان بلا نهاية.

         لم تتّصل سارة بي منذ ذلك اليوم، وشيئًا فشيئًا بدأت أفهم معنى النّسيان. أمّي خفّت حدّتها، وباتت أرقّ من السابق كأنّها تتواطأ معي فيما أفعله. "ماما.. بتعرفي إنك زي سيارة بنظامين، واحد عادي وواحد أوتوماتيك"، "بتتمسخر علي ولك؟"، "لا والله، يعني هسا انتِ هادية وعين الله عليكِ، فكأنّك أوتوماتيك"، "بشو تفضّلت أستاذ جبر؟ لأ وبتزعل لمّا أقلّك إنك عطايلي"، "شايفة كيف. هسّا انتِ حوّلتِ عالعادي." فتضحك، وأضحكُ معها.

***

بروتوكولات سائق سرفيس

      -          للسرافيس بروتوكولاتها، فاهم عليّ كيف؟

      -          لا والله مش فاهم.

      -          يعني بزبطِش بنت تقعد مع شبّين ورا، وشب جاعصلي حالو قُدّام.

      -          اشْمِعنى يعني؟ لسّا مش فاهم عليك.

      -          مفِش اشْمِعنى، اسمع هالقصّة تقلّك. هاي بيوم كان رمضان، الدّنيا حرّ زي متقول جهنّم. يومها أجاني راكب قام قاعد قدّام. شوي ولّا إجا راكبين ورا ولحقتهم صبيّة. هالصبيّة وقفت وين أحكيلك، على بعد مترين من بوز السيّارة. بتعرف على أساس الزلمة يِحْترِم حاله ويقعّدها مطرحو. أخونا بلّط ودندل رجليه. قوم إيش؟ شب صغير قاعد عالرّصيف وشايف إيش عمّالو بصير، قام قلّو يا أخ البنت بدها تقعد. قسمًا بالله ما أزِلّ، اللّي قاعد جنبي نِزِلّه وقلّه بدّك تعلّمني الأدب ولك انت. المسكين متوقّعش يعلق فقال مش القصد. إجا هاد بقلّه ولك واحد منيك قد إجري بتقلّي بصير ومبصِرِش. ورزع الباب وقلّي اطلع، ورا خالص.

      -          وانت شو عمِلِت يومها؟ بس ما تحكيلي ما ركّبت البنت!.

      -          أيْ طبعًا ما بدّي أركبها. ضربت سِلف وقلت يا هادي!.

***

الملل بوصلتي

         كان الملل بوصلتي في تلك الأيّام. أملّ من منطقة، من خطّ مواصلات، من كتابٍ ما، فأغيّر الوجهة. أنزلُ يوميًا إلى مجمّع رغدان القديم، وأختار إلى أين أذهب من هناك. زرتُ أماكن عدّة: الهاشمي، ماركا، طبربور، المدينة الطبّيّة، الشميساني، وادي السّير، جبل عمّان، وغيرها. اليوم، ركبتُ سرفيس جبل الحسين، وأخذ يخاتلني وجه الفتاة التي لم تتمكّن من ركوب ذلك السرفيس. أزعجني قصور مخيّلتي عن تجسيد ملامحها. كانت مجرّد علامة استفهام لا سؤال قبلها. الجوّ حارّ، والطريق إلى جبل الحسين قصيرة، فما أن يأخذ السائق مفرق العبدلي قبل وسط البلد، لا يتبقّى لنا سوى صعود شارع الملك علي بن الحسين لنصل. المشاهد من النافذة تنسحب مسرعة إلى الوراء دون أن تترك للمرء فسحة تخيّل حيوات النّاس. نزول أوّل راكب نبّهني إلى حقيقة أنّني لا أعلم أين أذهب أو أين أنزل. لحق الراكبَ الأولَ ثانٍ بسرعة تاركًا إياي أناوش حيرتي. جهلي بالمنطقة دفعني للنزول حين أوقف الراكب الثالث السائق لينزل هو الآخر. يبدو جبل الحسين مكانًا مألوفًا حتى وإن لم تزره سابقًا، فلشوارعه هيئة الذكريات. مشيتُ أتلفّت كي لا أضيع، وحين أدركتُ استحالة ذلك قرّرتُ اللحاق بالراكب الذي نزلتُ وإيّاه. مشى بخطًى سريعة، اللافتة بجانبي تشير أنّنا نسيرُ في شارع الملكة نور، بعد أمتارٍ قليلة التفّ نحو اليمين داخلًا في شارع خالد بن الوليد. مررنا بعد دقائق بوزارة الصحّة. ظلّ الراكب يمشي بالإيقاع ذاته، لا يلتفت يمينًا ولا يسارًا. لم أعد أنتبه إلى أسماء الشوارع، حتّى إذا وصل مطعمًا يدعى "شاورما الباشا".

         حين نزلتُ من السرفيس، لم يخطر لي أنّ ما كان فعلًا عارضًا تمامًا سينقلبُ إلى أسلوبٍ في الحياة. قلتُ سابقًا أنّ الملل بوصلتي، لكنّ دخول الراكب إلى محلّ الشاورما وعدم خروجه منه أدخلني في حيرة لم تطل حتّى استحالت رغبة ممضّة في معرفة سبب تأخره. كان العالم موجودًا، لا شكّ في هذا، لكن مع كلّ دقيقة تمرّ كان يتعاظم داخلي شعورٌ بأنّه ينزلق من بين أصابعي. لم يخرج الرّاكبُ من المطعم أبدًا، وحتّى فكرة كونه يعمل فيه تبدّدت حين ذهبتُ لأتأكد بنفسي.

         حين عدتُ إلى البيت يومها، أخذتُ قرارًا بأن أعيد الكرّة مع مجهولٍ آخر، في سرفيسٍ آخر.

         في اليوم التالي، كان الدّور على جبل التاج، هكذا بلا أيّ سببٍ منطقيّ. يطلّ الجبل على المدرّج الروماني، أجزاء من غرب المدينة، الديوان الملكي، وقصر رغدان. كان، كما هو حال شوارعه وأبنيته، مكتفيًا بما هو عليه: خلفيّة في مشهد المدينة. في ذلك اليوم، قرّرتُ اللحاق بطالبٍ جامعيٍّ. دافعي هذه المرّة كان بسيطًا، فراكبان من أصل ثلاثة نزلا قبل الوصول إلى الجبل. وجه الشاب متعب، وكلّما أطلت النظر فيه يتعاظم شعورٌ داخلي في أنّني أشبه القتلة المتسلسلين. يدخُل الشابّ في شارعٍ محاذٍ للبنك الإسلامي، ثمّ في عددٍ من الشوارع الفرعيّة حتّى وجدتُ نفسي، وسط شعوري بالضّياع، في شارعٍ يدعى "الإمام البخاري". حرصتُ هذه المرّة على تقريب المسافة لأتجنّب إضاعته كما أضعت الراكب في اليوم السابق. دخلَ صيدليّةً بهت اسمها، وحين تأكّدتُ أنّه على مرمى بصري أخرجتُ سيجارة من جيبي وأشعلتها. انتظرتُ عشرة دقائق قبل أن يضربني إحساس البارحة، بكلّ الرّعب الذي يختزنه. دخلتُ الصيدليّة، أجَلْتُ النظر في المكان بلهفة من يبحث عن عضوٍ هرب من جسده. شعرت الصيدلانيّة بشيء فسألتني عن غرضي. "في شب دخل هون من 10 دقايق، معه دفتر، شفتيه إشي؟"، "آه، إجا من شوي وطلع، بقدر أساعدك بإشي؟"، "لا ولشي، يسلمو إديكي".

         تتضاعف الاحتمالات بسرعة مجنونة مع انفتاح الأسئلة على إجابات قد تصل حدًّا مهولًا. كنتُ أنزلق، هذا لا شكّ فيه، لكن السؤال الذي احتجت إلى إجابة سريعة عليه هو الحدّ الذي يمكن معه أن يستمر هذا الانزلاق. أخذتُ استراحة من كلّ هذا فترة من الزمن، احتجتُ لأقوم بأشياء ترسّخ قدميّ على الأرض، وتعيد لي الإحساس في من أكون.

         عدتُ أناكف أمّي كلّ صباح، ألعب البلايستيشن، أشاهد مقاطع لرأفت علي، وأعيد قراءة "الإحساس بالنهاية" مقنعًا نفسي بأنّها المرّة الأولى الّتي أقرأها. بدا كلّ شيء طبيعيًا كما يخلف الإثنين الأحد، لكن كيف يضبط المرء نفسه، إن حدث ولم يعد شيء على طبيعته؟.

         مضى أسبوعٌ وأنا في البيت، لأعود بعده إلى ما كنتُ أقوم به: أذرع المدينة، ألاحق النّاس، وأرجو الله ألّا يختفوا. احتجتُ أن أغيّر وجهتي وأصعد إلى جبل عمّان. استقلّيت سرفيس الدوّار الثاني من شارع بسمان في وسط البلد. في انتظار أن يكتمل عدد الراكبين، سألتُ السائق "معلّم، هو ليش بسمّوه جبل عمّان؟"، "كيف يعني؟"، "يعني هَيْ الجوفة، التاج، الأشرفيّة مش كلها جبال عمّان؟"، "والله هاي بدّك تسأل عليها عقل بلتاجي"، "لأ، عهيك بنمشّيها جبل عمّان، وبلا منّه هالسّؤال". نزل السائق من السيّارة وظللتُ وحيدًا فيها. طال انتظاري، وجاهدتُ في كتمانِ شعورٍ بأنّ المدينة تبتلعني، ذلك حين غاب كلّ شيء، غاب وغرق في الظّلام.

***

هذه أنا عمّان

         مدينة صغيرة، تأخذ تتمدّد كل فينة كأنّما تُعيد السيارات رسم خريطتها مع كلّ موضعٍ تدوسه عجلاتها. هذه أنا عمّان، وأقولها لكِ بفمٍ ملآن: حذارِ أن تصيري مدينة يومًا. وإن شاء القدر وصرتِ كذلك، احرصي أن لا تصيري مثلي؛ نقطة في آخر السطر، أو عمّان كما أُعرَف.

         سأحاول، من خبرتي القصيرة في العيش كمدينة، أن أشرح لكِ أسباب قولي ذلك. أعتقد من البَدَهِيّ أن تكون القاعدة الأولى لتصيري مدينة جيّدة، أن تمتلكين بحرًا، خضرةً، سوقًا استثماريًا أو أقلّها شبكة صرفٍ صحّي جيّدة. ولا داعِ للإشارة إلى افتقاري لكلّ هذا. لا أخفي أنّني طالبتُ بأشياء كثيرة سابقًا، لا أقول بأنني كنت أشعر بقدوم اليوم الذي ستغصّ فيه شوارعي بأناسٍ لا يبارحهم شعورٌ بأنّهم مسلوبون، فأنا كنتُ صحراء جاهلة فيما مضى. لكنّك ستكونين مغفلة إن لم تسعي لتأمين نفسك منذ البداية. اسمعي، قالوا لي أن أرفع صوتي، أن أزاحم، أن أفعل أشياء قذرة كي أنال ما أريد. لا أدّعي أنني أكثر أخلاقًا من غيري، أنا فقط لم أعرف كيف أفعل كلّ ذلك، لذلك أنتِ تَرَيْن الآن ما أنا عليه وما بيروت أو دبي أو جدّة عليه.

         من المهمّ أيضًا، أن تمتلكين فضاءً عامًا، سهل الوصولِ إليه، موزّع مناطقيًا وللأعمارِ كافّة. حصل خطأ فظيع في السابق، لا عدول عنه الآن إلّا بهدم أكثر من نصف شوارعي بعماراتها وعلى ساكنيها. لو سألتكِ مثلًا ما هي عمّان؟ أو ما هي الأماكن التي تجعلني ما أنا عليه؟ يمكنكِ مثلًا أن تستثني جبل النظيف من الإجابة، لكن هل يمكنك فعل ذلك مع الدوار الرابع؟. أرادوا مركزًا فحصلوا عليه، لذا اسعيْ جاهدة أن لا تتخذي شكلًا دائريًا، المدن العظيمة تكفر بالدائرة.

***

هذا البلد أفقٌ مغلق

         أيام الخميس لا أملك حصّةً أخيرة، فتسمح لي المديرة بالانصراف قبل انتهاء دوام المدرسة. المدرسة في راس العين، وبيتي في الدوّار الثاني. تأخذ المسافة منّي عشرين دقيقة مشيًا، وأوفّر بمشيها 30 قرشًا، كي أصل سرفيس الدوار الثاني في شارع بسمان. يستنفد العمل مع الطالبات كلّ طاقتي، ولا أبالغ إن قلت أنها تستفد طاقة يومٍ لاحق أيضًا، فأظلّ ألاحق يومًا لا يأتي، كأنّني ألحق ذيلي فلا أمسكه.

         هذا البلد أفقٌ مغلق، نهاية مسدودة نمشي لها صاغرين. اليوم مثلًا، تشاجرتُ مع المديرة، كنتُ قد طلبتُ من الطالبات أن نقرأ سويّةً "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح دون علمها، فثارت ثائرتها كأن شيطانًا تكشّف لها. هذرت بكلامٍ كثير عن دور المدير الوسيط بين الطالب والمعلّم، أهمّيّة المركزيّة في الإدارة وأشياء كثيرة لا أذكرها. كلّ هذا شأنها، أفكارها، ما يعنيني هنا ما قالته عن الرواية "بعدين عفوًا منك يا آنسة مريم، بصير نقرِّئ بناتنا هيك كلام؟ انتِ فهيمة وبتخيّل فش داعي أشرحلك". "أستاذة حنان، انتِ قرأتيها للرواية شي؟ بتعرفي إنّو البنات عمرهم صار 16 وبيفهمو قدنا إزا مش أكتر؟". "آنسة مريم، بمون عليكي إنو نلتزم بالمنهج المقرّر من الوزارة، ويا ريت هالموضوع يتسكّر هون".

         تمنّيت أن يختفي العالم، أو أختفي أنا حين ناداني بائع ثيابٍ في وسط البلد "تفضّلي صبيّة، عنّا أشياء رح تعجبك كتير". لماذا لا يرانا إلا من لا نريدهم أن يَرَوْنا؟ كأنّ هذا العالم مصمّمٌ على غير مقاسنا، تمامًا كأنّنا نلبس بيجامة أكبر من حجمنا. خروجي باكرًا اليوم أتاح لي اللحاق بسرفيسٍ وحيد في شارع بسمان. الأصعب من التنقّل بالمواصلات العامّة، انتظارها. شيءٌ عبثي جنبني القدر اختباره اليوم. في السرفيس، راكبٌ وحيد، يبدو نائمًا في المقعد الخلفيّ. رأسه ممدّدة على خلفيّة المقعد، وجهه يستقبل حرّ السماء، وجبينه يبدو كما لو أنّ جزءًا منه قد ذاب من شدّة الحرّ.

         يمطّ الراكب في الخلف يديه ويتثاءب. يضع سماعتين في أذنيه، ويبدأ يهزّ رأسه كما لو أنّه يومئ إجابةً لسؤال لم أسمعه. أناظر الساعة في يدي، من ثمّ أنظر لمرآة السيّارة لأجده يحدّق باتّجاهي. وجهه، من زاويتي، لا يظهر إلّا في زاوية المرآة اليمنى، فتبدو كأنّها كادر فيلمٍ، ونحن نتبادل فيها دور الممثّل والمشاهد. كنت راغبة في التأكد ما إذا كانت مصادفة، فأعدت النظر في المرآة، لأجده ما زال يحدّق كمن يبحث عن شيء أضاعه في وجهي.

         أسمع كثيرًا، طالما أعيش في هذه البلد، عن أحداث مخيفة: قتل، خطف، وغيرها من مشتقات الرعب. كلّها أشياء تحدث للفتيات دون غيرهنّ. لكنّني أسمع بها فقط ولا أختبرها. عدم حصول هذه الأشياء معنا، معي تحديدًا، يجعلني أتساءل: ألستُ فتاة، أم لعلّي لا أعيش في هذه البلد؟ خطر لي أنّني أنال اعترافي أخيرًا. ها هو الشبح، محقّق الأمنيات، يجلس ورائي ويكاد يخطفني بنظراته. عاد السائق بعد قليلٍ ضجرًا يسأل: "تدفعو بدل راكبين ونطلع؟". وافق كلانا، فانطلق السرفيس بنا.

         طلبتُ من السائق أن ينزلني أمام مكتب البريد، على الدوّار الثاني. المكانُ عام، ويسهل فيه أن أحمي نفسي إذا ما كنت طريدة أو شيئًا شبيهًا. مشيتُ صوب الحديقة داخل الدوّار، وخرجتُ منها إلى الطرف الثاني، حيث الشارع يقود إلى مطعم أبو جبارة. دون التفات للوراء عرفت أنّه خلفي، أدركتُ ذلك كأنّه الحقيقة. دخلتُ دكاكين وخرجت، وفي كلّ مرّة ألحظ فيه وجوده أجد جذعه ملتفًا إلى زاوية أخرى. كان عليّ، بعد أن أستجمع قوى الأرض بمن فيها، أن أضلّله. وقبل أن أفكّر في سبيل إلى ذلك، وجدتُ نفسي داخل تاكسي يحملني إلى لا مكان بالتحديد، وإلى كلّ مكان بالمحصّلة.  

***
كنت أهمي إذن

         استيقظت صباحا واكتشفت أن طبقة من أسفل قدمي قد زالت. هكذا بلا مقدمات، قدماي كانتا تؤلمانني من تمشيط شوارع المدينة في أوقات الحرّ، وحين تحسّستهما وقعت طبقة الجلد العليا كأنّها قاع حذاء مفصول. هل كانت الأشياء أقلّ صعوبة أبدًا؟ أتساءل وأنا أفكّر في وجه الفتاة مخطوف اللون وهي تقفز داخل التاكسي. فيّ رغبة كبيرة أن أوقف العالم، أن أوقفه وأبرّر ما أفعله للآخرين فردًا فردًا. لكنّ العالم لا يتوقّف، والآخرين لا ينتظرون تبريرًا. وحدي أنا من أسعى على الدّوام لأن أنتمي للأشياء الخاطئة، وهذا هو الجزء الأصعب في الأمر.

         اختفت الفتاة إذن. اختفت وهي تعتقد أنّني منحرف. لكن، ألستُ، بمعنًى ما، منحرفًا وأنا أقوم بما أقوم به؟ قلت من قبل أنّني أنزلق إلى المجهول، لكن ما المجهول؟ لا مجهولَ بعد وجه الفتاة. الحقيقة كلّها هناك في تحديقة عينيها. ما لم أقله لها، وما لن تعرفه أبدًا، أنّني لحقتها كالمهووس لأنّ بها شبهًا لا يفسّر من سارة. تملّكني شعورٌ بأنّها هي، لم أفهم أن تتغيّر بهذه السّرعة وتلبس الحجاب. لو أنّها توقّفت لأسألها لماذا لبسته، لماذا هربت هكذا مثل سمكة مذعورة؟. لستُ واهمًا بأنّني مركز الكون، لكنّني خفتُ أن يكون اختلافها هذا بسببي. أو لعلّي خفتُ من كوني لا أعرفها بعد أن ظننتُ أنّنا كتابان مشرعان على آخرهما لبعضنا البعض. سارة، البنتُ التي أحببت، هربت منّي دون أن تنظر في عينيّ حتّى. أيّ حزنِ أكثر من هذا؟.

         بدأتُ، في محاولة لتمالك ما تبقّى منّي، أبحث جادًا عن عمل. بحثت في كلّ البنوك في عمّان. جميعهم إمّا مكتفِ، وإمّا أنّني لا أناسبهم. لم أتوقّف عند حدود المدينة، أرسلت سيرتي الشخصية لأفرعٍ في محافظات أخرى، ولم ألقَ سوى انتظارٍ لا آخر له. في يومٍ أرسلت لي صديقة صورة توضّح رغبة كافيه "رومي" في اللويبدة بتعيين غاسل صحون "جادّ"، فراسلتهم وحظيت بالوظيفة.

         لعلّي منذ البداية كنت أبحث في المكان الخاطئ. غسل الصحون هو ما كنت أحتاجه تحديدًا. 8 ساعاتٍ أمام بحرٍ من الرغوة والزجاج. انغماسٌ تامّ كأنّه صلاة ؛ صلاة من أجل اللا شيء. أبدأ عملي في الثانية مساءً، وأنهي في العاشرة. عملتُ في المقهى شهرين لم أعرف فيهما أحدًا. يمرّ الآخرون بي ولا يرونني، وأنا أحببت هذا الدّور. وحدها الموسيقى ظلّت أنيسي الوحيد، أذهب، كلّما أقيم حفلٌ في مكانٍ قريبٍ لأشاهده. القرب من مايسترو أتاح لي خياراتٍ مختلفة كذلك. موسيقى، زوايا ضيّقة لا يراك فيها أحد، حفلات، بحرٌ من الكحول، معارف قلّة، كلّ هذا في مكانٍ واحد.

         اعتدتُ أن أجد كلمة أصف بها حياتي من فترة لأخرى. كان شيئًا مبتذلًا انغمستُ به كسرًا للملل أحيانًا، ولاعتقادي أنّه أمرٌ سهل، لكنّ قاموسي، بعد فترةٍ بات ينضب قبل أن أبدأ التّفكير حتّى. هذه الفترة، لم أجد كلمة تصف حالي فيها، هذا قبل أن أجلسَ في مايسترو، ليلة أحد أيّام السبت، وأقع على كلمةٍ شدّني إيقاعها في آخر مكانٍ يمكن توقّعه؛ حساب طقس العرب على فيسبوك: من المتوقّع أن يهمي المطرُ على غير عادته في هذا الوقت من السنة، فوق ثغرة عصفور وما حولها. قرأتُ الكلمة وبحثت عنها فورًا لأجد ما يلي. هَمَت العين: صبّت دموعها. هَمَى الحمل: سقط. همى الشخص على وجهه: هامَ، خرج ولا يدري أين يتوجّه. كنت أهمي إذن.

         لم أعرف هل من "الهميان" أيضًا أن تأتي لتأخذ طلبي ذات الفتاة التي لحقتها في طريقها للدّوار الثاني؟ لم أشرب بعد كي أشكّ في صواب ما أرى. كانت هي ذاتها. ووجهها المخطوف عاد ليركض أمام عينيّ كأنّ ما حصل يحصل مرّة أخرى. لم يبدُ أنّها تتذكّرني، أو لعلّها لم تدقّق في وجهي. "مرحبا" بادرتُها. "هاد انت؟ انت إيش بدّك منّي؟". "ما بدّي إشي.. بحكي مرحبا". "أنا بشتغل هون وما بصير أحكي مع الزباين". " بتعرفي شو.. كثير غريب كيف صار شكل الواحد ما بدلّ عليه". "بتعرف شو.. انت حدا وقح". "ما قصدي اللي فهمتيه والله. كنت بعرف بنت بتشبهك، وطلعتي مو هي بس هاي كل القصّة". بانت أسنانها هنا، وقالت: "شو بتحب تشرب؟". "روم، روم مع عصير تفّاح لو سمحتي".

***
ماذا يقول مراقبٌ من نافذة؟

         لا موعدَ له، شابٌ في أواخر عشرينياته، لباسه غير مرتّب في العموم، لكنّه يبدو جادًا. لفتني، وأنا أنظر من نافذة غرفة المعيشة، مِشيته. كان يمشي كأنّما يخاف أن يُكتشف موقعه. نظرت بعيدًا حيث ينظر، فوجدتُه يلحق فتاة في نفس عمره. تكرّر المشهد، وكلّ مرّة مع شخصٍ مختلف. وحده الشّابّ ظلّ ثابتًا. هو ليس أزعرًا كما قد يبدو للوهلة الأولى، أستطيع أن أجزم بذلك دون أن أعرفه، كان يبدو كأنّه خائف. حركاته كلّها بدت كأنّها ردّ فعل لا فعلًا. ثمّة شيء أكبر من هذا الشاب يحرّكه، شيء أعلى منه، هو نفسه لا يعرفه، هكذا بدا لي. كان الأمر غامضًا، بل يزداد غموضًا كلّ يوم. تهيّأ لي يومًا أنّني لم أعد أرى الشّاب أمامي، بل أرى رمزًا، معنًى يمشي على قدمين. حينها أدركتُ أنّني لن أفهم شيئًا أبدًا، فأغلقت النافذة وأسدلت الستائر، وهي مغلقة منذ ذلك الحين.

***
حزنُه البادي في عينيه

         اسمه جبر، هذا ما أخبرني إيّاه وأنا أقدّم له كوكتيل الرّوم، الذي لا يطلب سواه، وقال لي: "يمكن لو حكيتلك اسمي تتأكدي إنّي ما بدّي منّك إشي، أنا أساسًا كنت آجي للمكان قبل لا تشتغلي فيّه". درجتُ على أن لا أربط الأسماء بالأشخاص. الأسماء حاشية، وذات الشخص هي المتن. لكن ماذا أعرف عن المتن؟ لا شيء أبدًا. "وأنا إسمي مريم"، أجبته حينها.  

         ظلّ جبر يواظب على المجيء إلى المكان، لا يسعى لشيء، فقط يجلس في زاويته صامتًا يقرأ كتبًا تتبدّل بين الفترة والأخرى. كان الشاب سؤالًا، لعلّي لن أغلب في أن أكتشف إجابته، لكن هل أريد ذلك؟ مال جزءٌ منّي للتعرّف عليه، فغموضه مغوٍ، وحزنه البادي في عينيه يثير الفضول. جزءٌ آخر كان يشعر بالخطر: الانكشاف على المجهول، المغالاة وعدم المغالاة في التوقّعات، الفراغ الذي يسكن المرء ولا يريد لغيره أن يراه، ما أريد ولا أريد من المستقبل. وغيرها وغيرها.


***

للأشياء منطقها الخاصّ

         اختفت مريم. قالوا تركت، ولا نعرف لها طريقًا. ظللتُ حريصًا على المجيء إلى مايسترو، كان هذا عزائي الذي أمشي فيه. انغلق الأفق وبات يسكنني شعورٌ بأنّ المدينة بحرٌ أُغلقَ عليّ. تركتُ العمل في رومي، وصار حديثي أقلّ فأقلّ مع الأيّام.

         لا أعرف وسيلة لنسيان نفسي والغرق في الكآبة سوى مشاهدة الأفلام. في مثل هذه الظروف، أقضم الوقت بمشاهدة متتالية لثلاثة أفلام على أقل تقدير. أحزان، أفراح، تصالحات، خصومات، رومانس، كوميدي، نُوار، عربي، فرنسي، أمريكي. كلّ هذه التصنيفات تساوي الكآبةُ بينها كما يساوي الموت بين الناس، كما يساوي البحر بين الغرقى.

         بسبب السّماعات حول أذنيّ، لم أسمع صوت باب الغرفة وهو يُفتح. ظللتُ سارحًا في الفيلم الذي أشاهده. انتبهت حين رُفع غطاء التّخت ، اندسّت فتاةٌ بجانبي دون أن تنبس بشيء. إنّها مريم. مريم بعينها. خلعت حجابها، ورمته على المكتب المجاور. "مريم، إيش بتعملي هون؟"، "أنا مش مريم". "ولّا مين، سارة؟". "مش مهم... إيش بتحضر؟". "Biutiful، فيلم إسباني لإينياريتّو.. بتعرفيه؟". "مش هاد تبع Babel؟". "هو بعينه". "طيب بعِّدْلِي خليني أفوت جنبك".

         لم أفهم شيئًا، كنتُ كأنّني مستيقظٌ في حلمي، أو ربّما في حلمها. لكن حلم من فيهنّ؟ كانت الأسئلة تحفر في دماغي، قبل أن تقول مارامبرا ليوكسبال في الفيلم، متأسّفة على فشلها كأم لطفليهما: "أودّ أن أصير مخلصة. لكنّي أريد أن أحظى ببعض المرح أيضًا، مثل عاهرة" فتذكّرت جملة سارة التي انحفرت في رأسي. حينها فقط، علمتُ أنّ للأشياء منطقها الخاصّ، حتّى وإن لم أتوصّل لفهمه بعد.

By Daniel Martin