السبت، 18 يوليو 2015

الحبّ، قدرٌ يتربّص خلف الباب

          يطرح المخرج التركي زكي ديميركوبوز بفيلمه "قدر / Kader" (2006) سؤال الحب مجددًا، فاتحًا به دفاتر قديمة قدم التاريخ عينه. قد يكون الفارق بين إبداع شيء جديد والاجترار، هو زاوية نظر. بورخيس كان يعتقد أن ليس ثمّة سوى اثنتي عشرة استعارة في هذا العالم (تشبيه الزمن بالنهر الجاري إحدى هذه الاستعارات)(1)، لكنّنا ما نفتأ نقرأ استعاراتٍ أخرى للزمن (ودخلنا في سباقٍ غير متكافئ مع الزمن الذي يقود مركبته الفضائية بأقصى سرعة. وصرنا نستمهله: أيها الزمن انتظرنا! فلنا موعد بعد شهر، فلا تسرع) (2) على سبيل المثال. قد لا يعني هذا أن بورخيس على خطأ بقدرِ ما يعني أنّ الحياة ليست ذاتها في كلّ المناظير.

          ما الحب، أو ما الذي يعنيه أن نقع في الحب هذه الأيام؟ تسوّق القنوات الإعلامية التلفزيونية منها والإلكترونيّة لمفهومٍ استهلاكيّ للحب. تنطبع صورة ما في المخيال الجمعي للفتاة المرغوبة، فهي حتمًا طويلة، شقراء، ممشوقة القوام. أو بالمقابل،  فإنّ الشّاب منفوخ العضلات، أسنانه بيضاء، قد يملك لحية أو لا (هذه تفصيلة مختلف عليها). لكنّ الحياة في مكانٍ آخر غير الذي نراه في التلفزيون أو على الإنترنت، ولا تملك صكوكًا تبيعها للغافلين منّا. لذا فإنّ للحبّ مقاييس أكثر غرابة من أن يتمّ قياسها سلفًا، فهو ينزل كالقدر بلا مفرٍ منه، كما يقترح زكي ديموركوبوز.

          "بيكير" شاب وحيدٌ لأهله، يعمل في محلّ أبيه لبيع السّجّاد. في ظهيرة يومٍ ما، يغطّ نائمًا في المحلّ، ليستيقظ على وقع حركة زبونة "أور" تتفتّل في المحلّ. يقترح ماريو فارغاس يوسّا شكل الشاب الذي يقع في الحبّ مثل عجل، كأشد الطرق رومانسية للوقوع في الحبّ. "بيكير" وقع تمامًا كعجلٍ في حبّها، ومن النظرة الأولى. هل لنا أن نعدّها مصادفة أن لا تبادله "أور" الحب، أو أن تحبّ شخصًا آخر عليه؟ هل يعدّ كون الشاب الذي تحبّه مجرمًا (أقلّ أخلاقية من بيكير) تفصيلة شاذة؟ 

          يشيع بين الناس المثل القائل "القط بحب خناقه". بعيدًا عن المعنى العامّ والواضح للمثل، قد نستطيع استنطاقه لنقول أنّ العاشق قد يزداد ارتباطه - بلا تفسيرٍ منطقيّ - بمن يعتقد بصعوبة إقامة علاقة حبٍ حقيقيّة معه. "كا" في رواية أورهان باموق "ثلج" أحبّ "إبيك" وهو يعلم كمّ الحزن الذي يمليه عليه هذا الحبّ. "تيريزا" في "كائن لا تحتمل خفته" أصرّت على حبّ "توماس" رغم خياناته التي لا تحصى. لكن ورغم كون "الحبُّ خطوات حزينة في القلب"(3) إلّا أنّه يظلّ "موتكَ المشتهى" (4). فكما لم تصب رصاصتان مقتلًا من "بيكير"، فقد رضي لنفسه أن ينتحر على بابِ "أور".

          لا شكّ أنّ هذا العالم شهد قصصًا لا تحصى من الحبّ، ما الذي قد يجعله يلتفت لقصّة "بيكير" و "أور"؟ لعلّ السّمة الأبرز في هذه العلاقة هو ثقل دم الأبطال، المقصود. يعجّ تاريخ الأدب والسينما بعشّاق يسهل التورّط بحبّهم والوقوف في صفّهم. لكنّ الأمر ليس على ذات الشاكلة، حين نتابع عاشقًا حاله كحال من "يقولُ لِيَ الواشونَ ليلَى قَصِــــيرةٌ ... فليتَ ذِراعًا عرضُ ليلى وطولها"، إذ لا مفرّ من القربِ من محبوبته إلّا القرب.

          حين ملّت "أور" من "بيكير" وملاحقته إيّاها، سألته:

"-          ماذا تريد؟ إلى أين سيأخذنا هذا؟
-          إلى أي شيء
-          ماذا تعني بأي شيء؟
-          لا أستطيع فعلها بدونك."

          صحيحٌ أنه "إذا كان الحبّ حبًا.. فإن الزمن كلمة حمقاء"(5) لكن لا مندوحة لنا عن الاستعانة بالزمن كاختبارٍ لصدقِ الحبّ. فبه وحده يسقط من يسقط، ويقف من يقف في وجه الرّيح. بينيامين إسبوزيتو (بطل فيلم The Secret in Their Eyes) ما كان له أن يؤمن بمشاعره، حين نظر في عينيّ إيرين أخيرًا، دون أن يزيح عشرين عامًا من عمره عن كاهليه، دفعها ثمنًا لتردّده. وكذا "بيكير" إذ نعلم حقيقة أنّه أحبّ "أور"، لكنّ حبّه هذا ما كان ليصير كبيرًا لولا أنّ الزّمان استحال عنده إلى شيء مبهم، لا يمكن الإمساك به، كـ"أي شيء".

          يورّطنا زكي ديموركوبوز في محكّ أخلاقيّ في فيلمه هذا؛ "بيكير" يهجر عائلته ملاحقًا أملًا كاذبًا بالحبّ. لكنّه، في الوقت ذاته يعنون فيلمه بالقدر، كأنّما يجنّب "بيكير" مسؤولية أفعاله. قد يكون الحبّ خطيئة، كما يمكن لعائلة "بيكير" أن تسمّي ما فعله ابنها بهم، لكنّه ربما الخطيئة التي يتساوى عندها جميع العشّاق والعاشقات، السيّء منهم قبل الجيّد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): بورخيس – صنعة الشّعر.
(2): محمود درويش – في حضرة الغياب.
(3): محمد الماغوط –  سرير تحت المطر.
(4): محمود درويش – درس من كاما سوطرا.
(5): من رسائل فروغ فرخ زاد.


السبت، 11 يوليو 2015

سياق الفوضى

"لا شيء يوجعني على باب القيامة.
لا الزمان ولا العواطف. لا
أحسّ بخفّة الأشياء أو ثقل
الهواجس. لم أجد أحدًا لأسأل:
أين "أيني" الآن؟ أين مدينة
الموتى، وأين أنا؟ فلا عدمٌ
هنا في اللا هنا... في اللازمان،
ولا وجود" 

 محمود درويش.

***

          في البدء كان ثمة شيء ما، هيسودوس(1) يقول أنه الفوضى. لكن ما الفوضى؟ حين أغمض عينيّ محاولًا تمثّل الكلمة في خيالي، أرى فضاءً أسودَ كالكحل، تتناثر عليه نتف أحجارٍ عديدة. بين هذه الأحجار الكثيرة كان هناك حجر واحد، نعيش عليه الآن. وسط كلّ ذلك الخراب، خرج حجر واحدٌ عن السياق، ليعطي وجوده معنًى ما. لجانيت وينترسون(2) تعبيرٌ جميل، إذ تقول "في الفضاء الكامن بين الفوضى والشكل، ترقد فرصة أخرى". قد لا تقول الأشياء ما توحي به من النظرة الأولى (الانطباع الأول ليس صحيحًا في الغالب)، لذا فإن التقاط الجمال فرصة، لا يقع على كاهل جيراننا التفتيش عنها.

          دائمًا ما كنت أؤمن أن التفاصيل وحدها ما تؤثث هذا العالم؛ المشاهد الكبرى ليست أكبر من نقطٍ سوداء في لوحة كبيرة. لكن أحدًا لا يفهمني. حاولتُ شرح ذلك لأمي كثيرًا، لكنّها، في أفضل الحالات، لم تكن تزيد في ردّها عن كلمة "طيب". حاولت تقريب المسافة بيننا، قلت لها "المنسف ما بيتاكل يوم أحد" على سبيل المثال، لكنّني لم أفلح باستمالتها يومًا. كان جدارٌ بحجم سوء الفهم هذا يتعمّر بيننا، أقصد بيني وبين العالم الخارجي، بما فيه من بشر وأشياء كثيرة.

***

          تمرّ أيام السنة ثقيلة كعجوز نسي كيف يمشي، لا تحمل في طياتها الكثير ليقال. تتملّكني حيرة كلّ مرّة أتلقى فيها سؤالًا على شاكلة "شو عامل هالأيّام؟". لن يتفهّم سائلكَ جوابًا من قبيل "ولا اشي"، فالحياة تسير، ولا بدّ أنّني أخبئ شيئًا تحت إبط الزمان لن أقوله له. اعتدت أن لا أذكر من الأيام سوى تلك التي تزن شيئًا، لا يهمّ إن ثقل أم لا، طال أم قصر. كانت لي صديقة اسمها "سلاف"، عرّفني عليها صديقٌ في الجامعة، ولم يطل بنا الحال حتّى توطّدت العلاقة بيننا. كانت خليطًا عجيبًا من شعرٍ منثورٍ غير مسرّح، وملابس فضفاضة بألوان زاهية؛ لم تكن إلا على سجيّتها. كنت أقول لها دومًا أنّها خارجة عن السياق: سياق الجامعة، الطلاب، والمحيط بأكمله، وكانت تضحك لذلك. هنالك أشخاصٌ وجدوا ليرتبوا فوضانا، هكذا كانت "سلاف" بالنسبة لي؛ مرتّبة فوضاي.

          هنالك لحظاتٌ أشعر معها بارتفاع مستوى الوعي إلى أقصاه، وتيقظٍ مفاجئ للحواس، لحظتئذ أبدأ بتلمّس يداي والتأكد من وجودي لا شعوريًا. تأتي هذه اللحظات عادة عند الانتباه لشيء بديع الجمال والتكوين. لكنّ هذا الشيء دائمًا ما يكون منقوصًا، كأن يكون مقطعًا صغيرًا في فيلم مفرط في العاديّة، أو جزءًا من قصيدة، رسمة "غرافيتي" على حائط متّسخ، بابٌ عتيق يختال بلونه الذي لم يبهت مع الأيّام. أشياء كهذه أشعر كأنّها اقتطعت من الزمان جزءًا لتخلق به زمانها الخاصّ. مرّة فكرت بالأمر كثيرًا، لجأت إلى "سلاف" وسألتها: كيف ممكن نمسك الزمن؟ نظرت إلى عيني، ثمّ قالت: جيب ريكوردر، وشغله بمكان ما فيّه حدا. وأتبعت كلامها بضحكة مجلجلة.


***

          نافذة، يمرّ من ورائها شهابٌ مسرعٌ. يختفي كلّ شيء، ويظلّ في الخلفيّة فضاءٌ أسود كالكحل، تتناثر عليه نتف أحجارٍ عديدة.

***

          الظلام يطمس الملامح، لا شيء محسوس سوى صوت أنفاسي. شيئًا فشيء تملأ الأشكال إطاراتها، ويأخذ الظلام بالانقشاع. أشعر كما لو أنني ولدت من جديد، لكنّ أحدًا لم يستقبلني في ولادتي الجديدة. أمامي باب، بابٌ أزرق عتيق، ينام وراء نبتة هيدرانجيا بأزهارها البيضاء. يخبو صرير الباب كلّما ابتعدتُ عنه لتعلو محلّه أصوات عيدان تتكسّر تحت قدميّ. مشيت مسافة لا بأس بها، لأدخل ما يشبه متاهة لا آخر لها.

          لا شمس في الأفق، ولا غيوم كذلك، أحسب أن الوقت أقرب للمساء منه للصباح. رائحة تعبق في الجوّ تجرّني من أنفي إليها، أدعها تقودني إلى حيث ترقد زهرة بيضاء ضاحكة. أغمض عينيّ وأستحضر الذّكرى: جدّي يمسك يديّ في مشتلِ صديقه المولع بالأزهار، كان المشتل أقرب للوحة من الألوان، لكنّ شكلًا واحدًا أسرني يومها، زهرة جذرها في الأرض وقدماها في السماء، لكنها انكفأت على نفسها في الزاوية، أخبرني يومها أنّ اسمها "أوركيد الشبح"، زهرة نادرة الوجود، يمنع قطفها بموجب القانون كيلا تنقرض، ولم تظهر إلّا لمامًا في فلوريدا وكوبا. الآن ها هي أمامي، تطأ بقدميها الهواء، كأنّما تهمّ بالوثوب نحوي. ابتعدتُ عن الزّهرة قليلًا، ونظرتُ حولي؛ هذا المكان مألوفٌ كأغنية سمعتها عشرات المرّات. تحسّست قدميّ، إذ بي أمام درجات زاهية الألوان. بدأت أصعدها بتؤدة، ومع كلّ درجة أصعدها أتذكّر المرّات التي جلستُ فيها على درجة من درجاته مع صديق ما. وكما توقّعت وجدتُ اسم "دارة الفنون" منقوشًا على جانبه، دون أن توجد "دارة الفنون" حقًا. أكملتُ الطريق إلى أعلى، لأجد نفسي لا في اللويبدة، بل أمام مضيق البوسفور. هذا عالم أوسع من الدهشة، لذا أكملتُ طريقي بلا كثير سؤال. المضيق وحيدٌ بنوارسه، لا بشر يؤنسون وحشته، تستلقي المياه على ظهرها، تطالع السّماء وتجلب الذكرى. اقتربت قليلًا من حائط الكورنيش، وأخذتُ أقرأ من العبارات التي امتلأ بها: "ما أحاول وصفه الآن ليس سوداويّة اسطنبول، بل الحزن الذي ينعكس في أنفسنا، الحزن الذي نستغرق فيه بزهوٍ ونتشارك فيه كمجتمع. إن الشعور بهذا الحزن يعني أن ترى المشاهد، وتستحث الذكريات، حيث تصبح المدينة نفسها صورة الحزن وجوهره". أعرف هذه العبارة، ولطالما أُخذتُ بدقّة وصفها وبراعته. ذلك حين أدركتُ أنّني لم أكن وحيدًا. إلى جانبي، على بعد عشر أمتارٍ وقف رجل طويلٌ يلبس نظارة يقرأ جملًا أخرى، جملًا تملأ الحائط كما تملأ النوارس المكان. اقتربت منه، لم يكن عسيرًا أن أعرف هويّته، لكنني لم أفصح له عن معرفتي هذه. أخذتُ أقرأ ما يقرأ: "نورس راقد على الشاطئ، يحتضر وحيدًا. منقاره هاجع فوق الحصى. عيناه حزينتان وعليلتان. الأمواج تضرب الصخور القريبة. الريح تنفث الريش الذي يبدو ميتًا بالفعل. ثم تبدأ عينا النورس تتبعني؛ كان ذلك في الصباح الباكر؛ الرياح باردة. وفي الأعلى.. الحياة تسير؛ في السماء نوارس أخرى. والنورس المحتضر فرخٌ صغير ]...[ ربّما صوت البحر يجعل الموت أسهل". أطال وهو يقرأ الجملة الأخيرة، كأنّه يعيد كتابتها الآن. سألته إن كان يعرف كاتب كلّ هذه العبارات، هزّ رأسه نافيًا، وقال: ليتني أعرفه، ليتني. لعلّ أورهان باموق(3) يكذب، لا أعلم. إنّ شيئًا من هذا لا يهمّ؛ لطالما اعتقدتٌ أنّ يومًا سيأتي لن تعترف فيه الكلمات بأصحابها، فلعلّه أراد أخذ السبق عليها. حين سألته ماذا يفعل في حياته الآن، أخربني أنّه يرسم. يجلس كلّ يومٍ في بيته المطلّ على البوسفور ليرسمه، أو ليرسم الياليات(*) النائمة على حوافّه. لا شيء أكثر، لا شيء أقل.


***

          تجود الحياة على المرء أحيانًا بأشخاصٍ لك أن تقول لهم أكثر الأشياء جنونًا دون أن يقاطعوك، ومن ثمّ، حين تنتهي يربّتون على كتفك بصدقٍ تامّ. من عادة "سلاف" أن تهزأ بي، تقول أنّني أجلس بين حاجبي حين أصير جادًا. لكنّها اليوم، حين أخبرتها بما حدث معي، لم تفعل ذلك. اكتفت بالقول أنّ الحياة غريبة بما يكفي لتصدّق ما حصل. عنّي، أخبرتها أنّني أشعر بالغرابة، كان شيئًا كالدّخول إلى متحفٍ شيّدته في عقلي. قالت ضاحكة بعد صمتٍ طال: طيب أنا ما كنت هناك؟.

***

          لا معنى للحدود هنا، فلا الأرض أرض ولا السماء سماء. كما لو كنت أمشي على خارطة العالم خرجتُ من اسطنبول ووجدتُ نفسي في ساحة معركة، في فيتنام تحديدًا. ذكرى الجنود الأمريكيّين وهم يتهيّبون الخروج من موقعهم كي لا تنال طلقة قنّاص منهم تحضرني بلا عناء. أقتربُ قليلًا، في المنتصف، حيث خاف الجنود الوصول وجدت ستانلي كوبريك(4)، يأخذ صورًا كأنّما يخلّد الدّماء فيما سيغدو فيلمًا لا يمكن أن ينسى(**). خرجتُ من ساحة المعركة، لألفي نفسي أمام رجلٍ عريض الوسط، ينزّ عرقًا ويحدّث صورة زوجته الميّتة بصوتٍ عالٍ. ناديت عليه وسألته: دوتّور بيريرا(***)، أهذا أنت؟ ردّ بالإيجاب. أبحث عن شخصٍ يدعى أنطونيو تابوكي(5)، قالوا لي أنك تعرفه، هل يمكن أن تدلّني عليه؟ قطّب بين حاجبيه، لوهلة ظننت أنه سيعرفه، لكنّه قال أنّها المرّة الأولى التي يسمع فيها اسمه، ليعود لمحادثته الصغيرة مع زوجته. حين أوليته ظهري، نادى علي: يا سيّد، لديّ ليموناضة لذيذة، أتريد كأسًا؟. أشكرك، لكنني على عجلة من أمري.

          غمرني الفضول وصرتُ أسيرًا له، كنت أرغب بأن أتشرّب هذا المكان عن آخره، أن أتغلغل به ويتغلغل بي. توارت سماء وطلّت أخرى تطوي تحتها عجائب أخرى (هل يمكن ذكرها كلّها؟). كلّما مشيت أكثر كلّما شعرتُ بالضآلة أكثر. من بعيد، شاهدتُ امرأة شعرها منثورٌ غير مسرّح، وتلبس ألوانًا زاهية تجلس وحدها في حديقة عامّة. اقتربتُ منها، ولمّا هممت بالجلوس جانبها غطّاني ظلام كثيف. لم أتبيّن معه حتّى شكل يديّ.

***

          في اللحظة التي أرخيت فيها دفاعاتي، لم أعد أعرف الفاصل بين الواقع والخيال. أكان أجدى لي أن لا آخذ الأمر على محمل الجدّ؟ في كثيرٍ من الأحيان، تبدو لي سلاف غير حقيقيّة، شيء خلاف ما يحدث في ذاك العالم الآخر تمامًا، إذ تبدو الأشياء حقيقيّة أكثر من اللازم. لكنّ التفكير فيها كان سببًا في أن ألجه أكثر وأكثر. كانت تخيفني بقدر ما تحفّزني.  يقول كازانوفا: "ثلاثة أرباع الحبّ، فضول"، حين سألتني فيما لو كانت هناك، في ذاك العالم، أكان ذاك اعترافًا نرجسيًا منها بالحبّ، دون نسيان مدى الجنون الذي قد يحمله كلّ ما قلته؟.

***

          أطرٌ ثلاث، كنت فيها واحدًا وكنت جمعًا. ولم أكن مرّة كامل الأعضاء. مرّة أجلس متكأً على يدي اليمنى، مرّة منحني الرأس أطالع موضع قدميّ، ومرّة مقرفصًا. نظرتُ إلى من يرسمني وقلتُ له: سيد بهرام(6)،هيك مش زابطة، لازمني حدا يونّسني. غضب، لوّح بسبباته في وجهي، من ثمّ رسم في كلّ لوحة فتاة تتحاشاني عمدًا. لكنّه لم يكتفي بذلك، بل رمى بنا إلى الشارع، حيث صوتُ أنفاسنا وحده يقرع طبلة أذنينا.

___________________________

(1): هيسودوس: شاعر يوناني عاش في الفترة بين 750 – 650 قبل الميلاد.
(2): جانيت وينترسون: روائية إنجليزية (1959 - ).
(3): أورهان باموق: روائي تركي (1952 - ).
(4) ستانلي كوبريك: مخرج أمريكي (1928 – 1999).
(5): أنطونيو تابوكي: روائي إيطالي (1943 – 2012).
(6): المقصود هنا هو الرسّام الكردي / السّوري بهرام حاجو (1952 - ).

(*): الياليات (جمع) المفرد (يالي): كلمة تركية بمعنى منزل أو قصر ساحلي.

(**): الفيلم المقصود هو Full Metal Jacket.

(***): دوتّور بيريرا هو الشّخصيّة الرئيسية في رواية "بيريرا يدّعي" للكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي. ودوتّور هي لفظة أصلها دكتور تطلق تحبّبًا على من يحظون باحترامٍ لدى النّاس.






Convergence by Jackson Pollock