السبت، 9 يوليو 2016

في استخدام الراوي العليم: أورهان باموق وميشيل ويلبيك أمثلةً

A Tale from the Decameron by John William Waterhouse

منذ مدّة طويلة، قرّرتُ الاهتمام بتتبّع صوت الراوي في كلّ رواية أقرأها. عند قولي هذا، أحيل بطبيعة الحال إلى الراوي العليم (الصّوت الذي يتكفّل بتتبّع مسار جميع الأحداث والشخصيّات مستخدمًا ضمير الغائب في الحديث عنهم). فتعدّد الرواة أو الصوت الأوّل لا حاجة لتبريره. الراوي العليم وحده يشكّل تهديدًا حقيقيًا للروائيّين، فبقدر مباشرته (قد يكون ببساطة صوت الكاتب)، بقدر خطورة التعامل معه، إذ من السّهل أن تنزلق اللغة فيه إلى المعرفة والادّعاء.

سأطرح مثالين هنا لرواياتٍ استُخدمت فيها تقنية الراوي العليم. الأولى "ثلج" لأورهان باموق، والثانية "الخريطة والأرض" لميشيل ويلبيك. في الأولى، ولصفحات لا بأس بطولها وتنوّع الأحداث فيها، نتعرّف على كا، الشاعر الذي ينتحل شخصيّة صحفي تحقيقات يتقصّى ظاهرة انتحار فتياتٍ محجّبات في مدينة قارص الحدوديّة. قد لا يمثّل الراوي العليم مشكلة فيما لو التصق بكا وحده، لكنّه يقفز من كا إلى معشوقته إيبيك، من ثمّ إلى عددٍ من الشخصيّات الأخرى، مخبرًا إيّانا عمّا يسرّون به ويعلنون. وبين الفينة والأخرى يعطي الراوي تلميحاتٍ بكونه شخص عرفه كا يومًا. الأمر الذي يُفهم على أنّه حيلة، تتمظهر فعلًا بظهور الكاتب ذاته "أورهان باموق" في الفصول الأخيرة، ليقول لنا أنّه صديقٌ قديمٌ لكا، وهو يكتبُ ما أخبره إياه على شكلِ رواية ليس إلّا،  " قصيدة "حيث ينتهي العالم" هي القصيدة التاسعة عشرة والأخيرة التي أُلهمتْ له في قارص. [...]. في الليلة ذاتها حين عدتُ إلى غرفتي وانتشيتُ قليلًا بالخمر، وجدتُ في دفتر فتحته لا على التعيين بلورة الثلج التي وضعتها في نهاية الفصل التاسع والعشرين من هذه الرّواية"1. نلحظ هنا تحوّل السّرد من ضّمير الغائب (كا) إلى المتكلّم (أورهان)، وفي هذا تحديدًا تكمن إحدى مشاكل الرّاوي العليم؛ أنّه غير موضوعيّ فأمانته مشكوكٌ بها تباعًا، لكن حين يظهر أنّ لصوت الرّاوي جسدٌ يتمثّل به يصبح لكلّ شيءٍ قيل معنًى ومصداقيّة. لكنّني أتساءل: ماذا لو لم يخبئ باموق لنا هذه المفاجأة؟ هل سوف تتأثّر قوّة الرّواية، خاصّة إذا علمنا أنّ شخصيّة باموق في الرواية لم تلعب أكثر من ناقلٍ للأحداث (وإن أضاف إليها جزءًا من يومياته بعيدًا عن كا)؟ 

أورهان باموق


في السابق (وحاليًا؟)، حين يحكي الحكواتي قصصه، قافزًا من شخصيّة لأخرى ومن عالمٍ لآخر، لم يكن الجمهور ليسأل نفسه: كيف عرف كلّ هذا؟. الإجابة أبسط من أن تحتمل سؤالًا. لكن إن كانت بسيطةً فعلًا، فهذا ليس مرجعه أنّهم لم يهتموا بمعرفة الطريقة التي ألمَّ بها الراوي بكلّ هذه التفاصيل، بل لأنهم يوقنون أنّ الحكواتي لم يكتب هذه القصص بنفسه، بل ينقلها كما يتذكّرها. الكتابة كما أفهمها إدانة للكاتب، بينما الحكي إجازة باستباحة النصّ.

في المقابل، نجد ميشيل ويلبيك في روايته "الخريطة والأرض" (يتحدّث فيها عن عالم الفن من منظور جاد مارتان (رسّام ومصوّر فوتوغرافي)؛ عن زيف الحياة الخارجيّة مقابل امتلاء الحياة الداخليّة وغناها بالعزلة). في "الخريطة والأرض" يكتب ويلبيك من الكلمة الأولى وحتّى الأخيرة بصوتِ الراوي العليم " كان ذلك مدعاة للحنق. أصلًا، لطالما أثار المصورون، وتحديدًا الكبار منهم، حنق جاد، بادعاءاتهم اكتشاف حقيقة موديلاتهم في الصّور التي يلتقطونها لهم"2. لكن الأمر لديه ليس خاضعًا لتصنيفات الأبيض والأسود، فهو لم يكتب رواية كالعمى لجوزيه ساراماغو. أعني بشخصيّات مستقلّة عن شخص الكاتب يرويها بصوته فقط. بل إنّه أقحم نفسه في العمل، وحين فعل ذلك ظلّ يكتب بضمير الغائب!.

ميشيل ويلبيك


تثير مسألة حدود الواقع والخيال في الرواية الحديثة حنق كثير من كتّاب اليوم، ففي الوقت الذي يعلن كثير من القرّاء والنقّاد فيه موت الخيال وقيام الرّواية التي تقصّ سيرة الكاتب، أو بعضها، نجد ويلبيك يحاول عامدًا، لا أن يفصل بينه وبين شخصيّاته - وهو أحدها - فحسب، بل أن يُظهر ذلك للقارئ، فلا نجد أنّ وجود شخصه في العمل دعاه لأن يتحوّل إلى ضمير المتكلّم. "غمغم مؤلف "الجزيئيات القاتلة" بغموض، وكأنّه يسترجع حلمًا ميتًا، قبل أن يركن سيارته في موقف الفندق"3، بهذه الطّريقة يتحدّث ويلبيك الكاتب عن ويلبيك الشخصيّة كأنّها أحدٌ غيره، لا شبه بينهما إلّا في التفاصيل، الذوق، ونمط الحياة "ويلبيك يبقى شخصية ثانوية يجعل ظهورها البناء أكثر تعقيدًا"4.

أعود وأطرح، على نفسي أولًا، هل ما زالت أرى الرواية ناقصة طالما لم تبرّر صوت الراوي العليم؟ أذكّر نفسي، قبل الإجابة، بأنّ ويلبيك أخذ التقنية إلى مساحة أبعد، ووضع مسألة تطبيقها محلّ تساؤل: كيف نبرّر وجود ويلبيك(ان)، واحدٌ داخل الرواية وآخر خارجها؟. في هذه الفسحة من السؤال، يكمن جمال استخدام الراوي العليم، إذ تدفع صعوبة تبريره الروائيّين إلى مساحاتٍ جديدة لم يطأها أحدٌ من قبل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): من "ثلج" – ص390.

(2): من "الخريطة والأرض" – ص8.

(3): من "الخريطة والأرض" – ص137.