الثلاثاء، 13 نوفمبر 2012

يوم جميل أتمنى لو أعيشه



يوم جميل أتمنى لو أعيشه

       بين الحقيقة والخيال، ذاك اليوم أستطيع أن أصنفه بيومٍ جميل. دائمًا ما كنت أؤمن أن البداية الجيدة تقود إلى نهايةٍ - ربما – أجمل، أو على الأقل بنفس جودة البداية، لكن ليست أقل منها على الإطلاق. وبالفعل جاءت ساعات الصباح الأولى مختومة ً بسحر ٍ فيروزيّ ٍ مضافا ً إليها كوبًا من (الشوكولاتة) الساخنة، مع جلسةٍ هادئةٍ تخللها نسيم الصباح. يا لحظي!

       في تلك اللحظات شعرت أنّ ما يحصل هو مقدمةٌ ليومٍ جميل،فكان لزامًا عليّ أن أستغل ما تبقى لي من وقت كي أخلد ذلك اليوم في مفكرتي.

       فكّرت بأفضل الحلول، فوجدت نفسي – لا واعيًا – أكلم الفتاة (س). طلبت منها أن آخذها في جولةٍ عمّانيّةٍ بحتةٍ. ويبدو أن القدر كان في صفي ذلك اليوم، فلأوَّل مرّةٍ لم أرها تتبرم وتختلق الأعذار.

      لبست ثيابي التي أعتقد أنّي أبدو مثقفا ً فيها، وتعزيزا ً لذلك الشّعور ارتديت نظارتي الطبية ذات الإطار الأسود – مع العلم أنّ لا حاجة لي بها إلا لمشاهدة التلفاز -.
   
      وصلت لبيتها مبكرًا، ولم تتأخر هي بدورها عن الخروج – كعادتها -. أحب فيها هندامها، فهي ليست شديدة التأنق، وليست قليلة ً أيضًا. يا إلهي كم أكره شديدي التأنّق، فهم أناسٌ يحترفون التملق، بل إن التملق يقطر من أعلى رأسهم حتى أخمص قدميهم. ولا أخفي بغضي أيضًا لرثّي المظهر، فالادّعاء باللامبلاة مبالاة ٌ من نوع ٍ آخر.

    - قلت يومها: إنّ رأيُكِ غيرُ مأخوذٍ به اليوم، فاليوم هو يومي، والشّيء الوحيد المسموح لكِ به هو أن تهزّي رأسك موافقة على ما أقول... وأن تشتميني أيضًا.

    -  فضحكت بتهكم وسألتني: إذا ً إلى أين نحن ذاهبان أيها المتسلط؟

    - قلت: سآخذك إلى أماكني الخاصة، التي كبرت ُ على حبّها، والتي أحببتها قبل أن أتعرّف عليكِ، وها قد جاء اليوم الذي عليكِ أن تتعرفي عليها أيضًا، وربما حبها من يدري... وافقت على مضض.

      بداية ً أخذتها إلى وسط البلد، وأفطرنا في مطعم هاشم، وبعدها أكلنا في أفخر محل (كنافة) في الأردن، لا بل في العالم كله (حبيبة). ربما سر المذاق الرائع عند هذا المحل هو تناول الوجبة الخفيفة على القدمين!!.

      دخل وقت العصر علينا وما زلنا نجوب وسط البلد على قدمينا، دخلنا المكتبات جلها، وجلسنا نثرثر عند عمي أبو حسين (صاحب مكتبة الطليعة)، ثم ذهبنا للمدرج الروماني، باختصار جبنا وسط البلد بأكملها.

     أظن أنّ التعب قد بدأ يتسلل إليها، لكن ما شأني أنا؟! فاليوم يومي ولن أبدده لمجرد أنها تعبت!. أخذتها إلى شارع (الرينبو) ودخلنا سينما الرينبو، أرادت أن تشاهد فيلم (آكشن) أو (رعب) أو أي فيلمٍ لممثلها المفضل (توم كروز). ولكني صدمتها باختياري، فقد سبق وحجزت مقعدين في صالةٍ تعرض فيلمًا أردنيًا يدعى (لما ضحكت الموناليزا). غضبت وكانت على وشك البدء بالصراخ قبل أن أرفع كتفاي وحاجباي مذكّرا إياها بأنّ الحقّ كلّ الحقّ لي في الاختيار، كما اتفقنا مسبقًا. في تلك اللّحظة كنت ميقنًا بأن مدافعًا من الشتائم السّريًة قد صُوّبت تجاهي، لكنها لم تكن تعلم مدى حاجتي لأن أشبع من عمّان، لأن أتنفس عمّان، ولو ليومٍ واحدٍ فقط.

      بعد نهاية الفيلم، كنت قد حققت انتصارين، أولّهما إجبارها على حضور ما لا ترغب، وثانيهما أن الفيلم أعجبها. يا لحظي!

      في إحدى أيام المدرسة، أتذكّر أنّ أستاذ اللغة العربيّة أراد أن يعطي درسًا يوم السّبت. وفي مثل هذه الظروف كان يتعيّن على الإدارة أن تؤمّن حافلات نقلٍ للطلّاب، لكنها لم تستطع تأمين ما يكفي، فقامو بدمج المناطق مع بعضها بحيث يُحضر السّائق طلّابًا من منطقتين مختلفتين. فكانت ماركا (مكان سكني) مضمومة ً لجبل التّاج. وأتذكّر أيضًا أنّه أثناء مرورنا بجبل التّاج كان هناك مقعدًا خشبيًا صامتا ً، يطل على عمّان بأسرها بهدوءِ صوفيّ ٍ استطاع أن يحقّق الاتّصال مع الله.
 
    أخبرتها بأنني سآخذها إلى ذلك المقعد الخشبي، كمحطة أخيرة ليومٍ تكللّ بسعادةٍ غامرة. وفي تلك اللحظة وقّع معي القدر صفقته الثانية، فعلى الرّغم من رفضها بعضًا من اختياراتي، وافقت هذه المرّة بكلّ سرور.

      وصلنا هناك، واشتريت لها ولي حبّتي ذرة من بائع ٍ متنقّلٍ على عربةٍ، كان يدعى (أبو إبراهيم) كما قال لنا. وجلسنا مقابل القمر الذي كان بدرًا في ذلك اليوم.

      لن أقول تكلمنا، فالكلام هو كل ما لم نفعله، بل الثرثرة هي كل ما فعلناه. ثرثرنا عن الحياة، آدم وحواء، الحب، الفن، الكتب، الموسيقى، الأفلام، بعضنا البعض، كل شيء. وضحكنا كما لم يضحك كلانا من قبل.

      كل شيءٍ كان يسير بمثاليّةٍ إلى أن دقّ جرس هاتف الفتاة (س)، كان رقمًا غريبًا، نظرت إليّ قبل أن ترد، وقد فهمت أنها ارتابت بعض الشيء من هذا المتصل الغريب. أومأت لها برأسي بأن لا يوجد ما يدعي للقلق، فأجابت. شَخَصَت عيناها قليلا ً للأمام. فاستغربت، ليس بسبب عيناها، لكن لأنها ظلت صامتة ولم تنبس ببنت شفة طوال المكالمة التي لم تطل لأكثر من 10 ثوانٍ. سألتها، فقالت: إن شخصًا ذو صوتٍ رخيم ٍ قال لها: إنّ الساعة اقتربت من الحادية عشرة ليلاً. ثم أقفل الهاتف. لم تفهم هي، لكنّي فهمت، إنه القدر. أراد أن يضع حدّا لهذا اليوم الجميل، فليس هنالك أجمل من هذه النهاية لتلك البداية، فابتسمت لها وقلت، هيا بنا نعود.

      أوصلتها لبيتها، وقفلت راجعًا إلى بيتي... أمسكت قلمًا وورقة ً صغيرة ً ودونت عليها "لقد كان يومًا جميلا ً، أتمنى لو أعيشه ثانيةً"...


11-11-2012
1:12 صباحا
نذير ملكاوي
J