السبت، 31 مارس 2018

الخيال العلمي باللغة العربيّة؛ لعبة "استغمّاية" من لاعبين فقط


الخيال العلمي وإشكاليّة التّسمية


قبل أن نخوض في مسألة وجود أدب خيال علمي عربي أم لا، لا بدّ لنا من عودة إجباريّة لتقعيد هذا المفهوم المخاتل الذي ينضوي تحت مسمّى "الخيال العلميّ". تشير الروائية الأمريكيّة أورسولا ك. لو غوين في مقابلة مع الباريس ريفيو إلى فكرة مهمّة حول "الخيال العلمي": "يتناسى كُتّاب الخيال العلميّ كلّ شيء ما عدا، بالطبع، الفيزياء، الفلك، وربّما الكيمياء. أمّا علم الأحياء، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، فهذه ليست علومًا بالنسبة لهم، إنّها سقطُ متاع". وهذه مشكلة حقيقيّة ستواجهنا ما إذا شئنا الحديث عن أدب خيال علميّ عربيّ. إن أخذنا بكلامها، سنجد أنّ الأدب العربيّ، الرّواية على سبيل التخصيص، لم تخلُ منذ زمنٍ طويل من روايات قائمة على العلم، سواء بالبحث القبلي (الذي قد يشمل التاريخ، الجغرافيا، علم النفس، أو غيرها من العلوم) أم بطريقة بناء العوالم الداخليّة للروايات. فلو أخذنا صنع الله إبراهيم مثالًا هنا، وهو الذي اعتمد و/أو تعمّد استخدام قصاصات جرائد كما هي في رواياته، وما قد يمثّله أسلوبٌ كهذا من انعكاس التأريخ الحقيقي/الواقعي، ممثّلا بقصاصات الجرائد (بافتراض أنّ ما قام به صنع الله يستند إلى منهجٍ علميّ)، على التأريخ التخييلي/الروائي، هل يمكننا القول إذن، إنّ روايات صنع الله إبراهيم روايات خيال علميّ؟

لا آتي بجديدٍ حين أقول إنّ للخيال العلمي صورة متشكّلة أساسًا في أذهاننا (لم أستطع معرفة مصدرها الأوّل)، صورة "إكزوتيكيّة" تتمحور حول السفر بالزمن، والفضائيّين (غزاة أم مغزوّين)، والصعود إلى الفضاء، وما شابهها من أشياء. ويبدو أنّه ثمّة رفضٌ ومحاولات تنصّلٍ من هذه الصورة، بما يصاحبها من نظرة دونيّة سواء من النقّاد، القرّاء، أو الكتّاب أنفسهم، حتّى في بيئة ينتشر فيها هذا الشكل الأدبي. في ذات المقابلة مع أروسولا ك. لو غوين، تبدو الروائية الأمريكيّة غاضبة حين شعرت أنّها وُصمت "بقبلة الموت" كما تقول؛ الخيال العلميّ: "الحالة التي أكون مُستعدّة فيها لأبرز أشواكي وأكون عدائيّة فيها هي حين أوصف بإنّني كاتبة خيال علميّ وحسب، أنا لستُ كذلك، أنا روائيّة وشاعرة...". وهو ما يُذكّر بالموقف العدائي للروائيّة الكنديّة مارغرت أتوود حول الخيال العلمي بشكلٍ عام، وحين تُصنّف بعض رواياتها كذلك بشكل خاصّ، فهي تفضّل أن تُصنّف على أنّها "speculative fiction"* لا science fiction. (سأعود في مقالٍ لاحق إلى هذا الفارق).

كان لا بدّ لي من الاستطراد قليلًا، قبل مناقشة المسألة عربيًّا، لأوضّح مسألتين: الأولى: هو درجة مراوغة "الخيال العلميّ" كشكل أدبي. والثانية: إنّ مسألة التقليل من شأن هذا الشكل الأدبي ليست عربيّة، كما قد يُخيّل للبعض، بل هي "ماركة" عالميّة.

هل ثمّة أدب خيال علميّ باللغة العربيّة؟

نشر الكاتب المصريّ أحمد خالد توفيق ملفًّا كبيرًا عن الخيال العلمي عامّة والعربي خاصّة عام 2010، ويُظهر الملفّ وجود ما لا يزيد عن عشر كتّابِ خيالٍ علميٍّ عرب. وهذا يُظهر، كما قال الكاتب السوري الراحل زهير غانم في الملفّ ذاته "أنّه يوجد لدينا أدباء خيال علمي لكن ليس لدينا أدب خيال علمي". يحاول الكاتب السعودي أشرف الفقيه، وهو واحد ممّن يكتبون الخيال العلمي باللغة العربيّة، في ورقة نُشرت له على منصّة تكوين أن يطرح بعض الأسئلة حول المسألة، منها مثلًا: "لِم لا يكون الحال غير ذلك؟ لم لا نقول بأن الخيال العلمي لم يُقدم له بالشكل اللائق جماهيريًا في العالم العربي؟"، ويجيب عنها عدّة أجوبة، منها مثلًا أنّ ثمّة إشكاليّة نخبويّة بين دارسي المعارف الإنسانيّة ودارسي المعارف التجريبيّة، إذ يعتبر دارسو المعارف الإنسانيّة أنفسهم سدنة المعرفة و"حملة مشعل الفكر والحضارة وهو ما لم يعد متسقًا مع الأهمية القصوى التي بات يضطلع بها علماء الطبيعة والهندسة وبخاصة في زمن ما بعد الثورة الصناعية". كما يضيف "نحن ]العرب[ لا نصنّع ولا ونبتكر، ولا حتى على المستوى المعرفي. وتسارُع قدرة الحواسيب على معالجة البيانات لا يشكل معضلة يومية بالنسبة للمواطن العربي الذي لا يشتغل في مصانع (إنتل) ولا مختبرات (غوغل). فضلًا عن أن أولئك المهتمين بالصناعة والابتكار لا يجيدون بالضرورة الفنون الرفيعة للكتابة." وأظنّ أنّ ثمّة إشكاليّة في هذا الكلام، إذ يُظهر من الكلام أعلاه أنّ هذه الأشياء  (الصناعة، الابتكار، الاهتمام) تُكتسب بمجرّد توفّر الرّغبة، الأمر البعيد عن الواقع العربيّ، إذ يُغفل الكلام العوامل السياسيّة في احتكار التصنيع والابتكار، عدا عن أنّ جامعاتنا لا تصرف على البحث العلمي لبناء مجتمعٍ واعٍ بالتقدّم التكنولوجي، لذا على العكس من استهجانه من انعدام اهتمام العربيّ ب "تسارُع قدرة الحواسيب على معالجة البيانات ]...[ في مصانع (إنتل) ولا مختبرات (غوغل)" يبدو الأمر منطقيًا على ما هو عليه. لا يخفى على أحدٍ صعوبة الحياة من يومٍ إلى يوم في البلاد العربيّة، كما إنّ الادّعاء بأنّ العرب لطالما غابوا عن الإنتاج المعرفي: "لنقارن ذلك بنيوتن ولايبنتز ولافوازييه، ثم بكتابات هاينلاين وكلارك وستانسلاو لِيم من بعدهم. أعمال الخيال العلمي الأولى وفق البيبليوغرافيا البشرية ظهرت في القرن السابع عشر (أطلنتيس جديدة لفرانسيس بيكون – 1627). أين كان العرب في العام 1627؟" ليس دقيقًا جدًا، لا قديمًا ولا حديثًا، فمن العرب من برعوا في الفلك والطب والحساب وغيرها من مجالات المعرفة التجريبيّة أمثال ابن رشد (1126) وابن سينا (980) وابن النفيس (1213) وغيرهم، أي أنّهم تواجدوا على الساحة العلميّة قبل التاريخ المذكور بقرون. ومن المحدثين أمثال الروائي اليمني حبيب عبد الرب سروري، الذي اختبر قدرة العلم التجريبي في كثيرٍ من رواياته (عرق الآلهة وتقرير الهدهد أمثلة)، أو محمد ربيع في روايته "عطارد" التي نرى فيها توسّعًا في حضور المنتجات العلميّة في الحياة اليوميّة. لذا أعتقد أنّ أسباب ندرة الخيال العلمي المكتوب بالعربيّة تقع في مكانٍ آخر. فهل عدم الاعتداد باللغة العربيّة كلغةٍ للعلوم في جامعاتنا أحد أسباب ندرة الخيال العلمي عنها؟.



العربية بوصفها لغة منبوذة علميًّا؟

قد يتبادر للذهن مسألة انقطاع العربيّة عن العلم، فهي لغة غير معتمدة لتدريس العلوم التجريبيّة على الأقلّ (تُعتمد اللغة العربية في تدريس العلوم الإنسانية)، وهو الأمر الذي قد لا يخلق بيئة مناسبة لتطوير مخيّلة علميّة (إذا استثنينا العلوم الإنسانيّة، على طريقة من تحدّثت عنهم أورسولا ك. لو غوين في المقال السابق)؛ فهل يمكن أن يكون هذا سببًا في غياب الخيال العلمي عن اللغة العربيّة؟ طرحنا هذا السؤال، ومجموعة أخرى من الأسئلة، على الروائي الأردني فادي زغموت**، الذي سبق له أن نشر رواية خيال علميّ: "جنّة على الأرض" (2014)، تدور أحداثها في عمّان عام 2091، وتحاول أن تتخيّل مجتمعًا شابّا لا شيخوخة فيه بفعل اختراع حبّة دواء تعمل "على تنظيف الخلايا الحيوية وصيانتها بشكل دوري يؤدي إلى الحفاظ على نشاط وحيوية الجسم الإنساني"، فأجاب: "ربّما، لكني لا أعتقد ذلك، فالكتابة تتطلب البحث والتمحيص والخيال لو كنت تريد أن تكتب رواية خيال علمي أو رواية رومانسية أو تاريخية أو غيرها، وقصور المعرفة في اللغة العربية لا يقتصر فقط على المعرفة العلمية. قد تكون قلة إنتاج أعمال الخيال العلمي مرتبطة بقلة عدد القراء بشكل عام وخصوصاً القراء المهتمين بالعلم...".

إجابة فادي هذه تقودنا إلى مسألتين، الأولى، وهي تعيدنا لما قالته أورسولا ك. لو غوين: سخافة الفصل في التعامل مع العلوم المختلفة، تمامًا كما أشار فادي إلى أنّ مسألة البحث واحدة ولا شأن لها بموضوع الكتاب المُزمع كتابته. الثانية: لماذا يبدو السؤال عن قلّة الخيال العلمي المكتوب باللغة العربية تُهمةً؟ يبدو السؤال كما لو كان جلدًا للذات، استشراقًا ذاتيًا، نمارسه على أنفسنا: لماذا لا يسأل الغربيّون أنفهسم عن أسباب غياب المقامات أو الموشّحات عن لغاتهم المحليّة مثلًا؟ (سؤال استنكاري تمامًا، ليس التفكير بالمؤامرة إحدى دوافعه) لكنّ فادي زغموت لا يزال يرى حاجةً لكتابة الخيال العلمي باللغة العربيّة، فيقول: "بالتأكيد، فنحن بحاجة إلى المزيد من المعرفة العلمية ووجودها في كتب روائية وقصص مشوّقة من المؤكد سيزيد من انتشارها. كذلك فإنه من الجميل قراءة الخصوصية التي يمكن إيجادها من جمع الخيال العلمي مع ثقافتنا العربية، فنحن تعودنا الخيال العلمي الغربي".

أودّ الإشارة هنا إلى أمرٍ يتعلّق بتاريخ كلمة الأدب عند العرب. فكلمة الأدب ارتبطت لأوّل مرّة بالمعرفة في العصر الأموي حين انتشر المؤدبون الذين يعلّمون أولاد الخلفاء المأثور من الشعر والنثر والأنساب، بعد أن كانت تعني الدعوة إلى الطعام في الجاهليّة، أو حسن الخلق في بداية العصر الإسلامي، واستمرّت المفردة تراوح بين دلالتي الاخلاق والمعرفة حتّى في العصر العبّاسي قبل أن يرسخ معناها المرتبط بتحصيل المعرفة.

كما أنّ الشّعر ظلّ لفترة طويلة أرفع أنواع الأدب وأبلغها لدى العرب: "كانت العرب تحتال في تخليدها بأن تعتمد على الشعر الموزون والكلام المقفى، وكان ذلك هو ديوانها"1. والتخييل بشكله الحديث (من رواية وقصّة قصيرة) ظلّ أمرًا مُغيّبًا، يقع خلف جدارٍ عازلٍ خلف البحار. لذا حين نناقش مسألة غياب الخيال العلمي عن اللغة العربية، فإنّنا نناقش مسألة حديثة نسبيًا. إلّا لو كنّا نناقش أسباب غيابه عن التراث نفسه، وهنا يمكن القول أنّ شكلًا قريبًا من الخيال العلمي كان موجودًا، لكنّه ليس هو حتمًا. شكلٌ أقرب لل "speculative fiction" (الذي سأتطرّق له في المقال اللاحق)، مثل: رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّي، ألف ليلة وليلة، حي بن يقظان لابن طفيل، وغيرها. فهذه الكتب، وإن تبنّت عوالم غريبة وبعيدة عن الواقع المُعاش، تظلّ تراوح بين الأسطورة، الخرافة (بصفتها إحدى تحوّلات القصّة المحكيّة)، والفانتازيا. وفي هذا الشأن، سألنا فادي زغموت: أين يقع الحدّ الفاصل بين الفانتازيا والخيال العلمي؟ فأجابنا: "قد يكون الحد الفاصل بين الفانتازيا والخيال العلمي هو وجود سند علمي أو بحث علمي حالي أو متوقع أو ممكن الحدوث كمبدأ. أما الفانتازيا فقد تكون أكثر حرية بحيث تكسر حدود المنطق وتبني عوالم أبعد من حدود العلم". الإجابة التي تقترب ممّا قاله أشرف الفقيه في الورقة المشار إليها في المقال السابق: "والذين يقارنون ثيمة (بساط الريح) بـ (ستار تريك) على أساس أن الاثنين ينتميان لذات الجنس "الخيالي" ينسون شطر "العلم" في الخيال العلمي! العلم هو عكس الأسطورة. العلم نقيض الخرافة. العلم يفكك أسرار المجهول ولا يبني عليها. فكرة بساط الريح ليست علمية لكنها فانتازية غرائبية بامتياز. وإن كان الأدب العلمي والعمل الأسطوري يتشاركان في تحقيق قيَم الإبهار التي هي في صميم أي عمل إبداعي مُحكم، أدبي أو فني.

إذن ما هو الspeculative fiction؟ وهل يساعدنا التفريق بينه وبين الخيال العلمي في شيء؟ 


إذا سمحت، هذه ليست رواية خيالٍ علميّ

ثمّة طرفة فنلنديّة تحكي أنّه كلّما اجتمع سويديّان ليتحدّثا عن الخيال العلميّ يقضيان ثلاثة أرباع الوقت يتقاتلان ما إذا كان هذا الكتاب أو ذاك يصلح تصنيفه كخيال علمي أم لا. وهي طرفة تشي بكثير من الحقيقة. ثمّة كتبٌ كثيرة يمكن أن نهرش رؤوسنا مرارًا دون أن نعرف تحت أي شكلٍ نصنّفها (رواية "الخالق" (2013) لأحمد شافعي مثلًا). حتّى في واقعنا العربيّ، نحن نطلق المصطلح، جُزافًا، على أشياء لا تمتّ للأدب بصلة أحيانًا، فسقوط حاكمٍ عربيّ قبل ال2011 مثلًا كان يمكن بسهولة نعته بالخيال العلميّ، وكثيرًا ما يُفاخر الكتّاب بإصابتهم الحقيقة قبل وقوعها (اُشتهر الروائي عز الدين شكري فشير كثيرًا لتطابق الواقع مع كثير من الأحداث المأساوية لروايته "باب الخروج" (2012)). سألت فادي زغموت السؤال التالي: هل ثمّة شكل واضح للخيال العلمي من وجهة نظرك، أم أنّه مصطلح مراوغ أكثر من اللازم؟ فأجاب: "معك حق قد لا تكون تلك الأعمال خيالاً علميّاً لابتعادها عن العلم في تفاصيلها. وأعتقد أن الغرب قد واجه هذه المشكلة ولذلك أصبح هنالك توجه جديد لتسمية هذه الأعمال speculative fiction عوضاً عن sciecne ficton وهي تسمية أوسع وأشمل."

يُعرّف قاموس أوكسفورد الspeculative fiction بالتالي: نوع من الأدب ينضوي أسفله الأعمال التي إمّا تدور أحداثها في عالم غير الذي نعرفه، أو تتضمّن الخوارق، أو استشرافًا للمستقبل، أو عناصر مُتخيّلة أخرى. وبحسب ويكيبيديا، هذه هي الأشكال الأدبية التي تُصنّف على أنّها speculative: الفانتازيا، الخيال العلمي، الرعب، اليوتوبيا، الديستوبيا، التاريخ البديل، الأبوكاليبس، ما بعد الأبوكاليبس، الأبطال الخارقون. وهنا أيضًا شاركنا فادي زغموت برأيه حول المسألة، إذ سألناه: بدأ ينتشر مؤخّرًا، وباطّراد، ما يُعرف بروايات الديستوبيا بالعربيّة، هل يمكن أن نعتبر الديستوبيا شكلًا من أشكال الخيال العلمي؟ ليجيب: "أعتقد أنه يمكننا ذلك، فأنا مثلا في روايتي "جنة على الأرض" أردت أن أتخيّل عالماً يوتوبيّاً قريباً من جنة الفردوس حين يصبح الشباب الدائم في متناول اليد، لكني وبتطبيق الفكرة على أرض الواقع ومقاربتها مع النفس البشرية فإن العمل ظهر ميّالاً للديستوبيا أكثر منه يوتوبيا. قد لا تبنى عوالم الديستوبيا واليوتوبيا على الخيال العلمي، ولكنها أضحت مؤخراً وسيلة فعالة لتخيّل المستقبل في ظل التطوّر التكنولوجي السريع وما قد تؤول إليه أحوال المجتمعات البشرية إن أساءت استخدام هذه الأدوات الجديدة".

إذن، كيف يفيدنا هذا الفصل بين الspeculative fiction والscience fiction؟ إذا نظرنا للأدب العربي الحديث (المنشور مؤخّرًا)، نستطيع التأشير على تشكيلة واسعة من الأعمال التي تُقارب الخيال العلمي لكنّها لا تقترب من الشّكل القارّ في أذهاننا عنه، لذا صار بإمكاننا أن نصنّفها على أنّها speculative fiction دون تردّد. روايات مثل "عطارد" (2014) لمحمّد ربيع، "الانحناء على جثّة عمّان" (2014) لأحمد الزّعتري، "سفر الاختفاء" (2014) لابتسام عازم، أو حتّى "كان غدًا" (2016) لهلال شومان، لا تقرب الشكل التقليدي للخيال العلمي، لكنّها جميعًا تحمل سمات الديستوبيا، والتنبؤ بأشكالِ تواصلٍ جديدة بين البشر، لذا صار من السهل تصنيفها ووضعها في إطار أوسع، دون الانتقاص من قيمتها الفنّيّة (بطبيعة الحال هم بصحبة جيّدة إلى جوار مارغريت آتوود).

هل نحتاج كلّ هذه التّقسيمات؟

أذكرُ جيّدًا النقاش الدائر حال وصول روايتي أحمد السعداوي "فرانكشتاين في بغداد" وأحمد مراد "الفيل الأزرق" للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربيّة (2014)، رأيتُ كاتبًا يُهلّل لجرأة لجنة الجائزة باختيارها أعمالًا تقارب الرعب والخيال العلمي، ورأيتُ آخرين مصعوقين من تدنّي "ذوق" اللجنة لاقترابهم من أصناف "تجاريّة" أو "بوب". بعيدًا عن جودة العملين المذكورين، أظنّ أنّ تصنيف الأعمال الأدبيّة في مناطق وأشكال مختلفة، غير مهمٍّ لقارئ لا يطلبُ أكثر من الاستمتاعِ بوقته، لكنّها مسألة مهمّة لدارسي الأدب، خاصّة حين يتقادم الزمن على الأعمال، فيصبح التنقيب في زوايا معيّنة أكثر سهولة.


كلمة أخيرة

كنتُ أرتجي من التفريق بين الspeculative fiction والscience fiction القولَ بأنّنا نملك العديد من الرّوايات المُهتمّة بتخيّل عوالم مفارقة للواقع المعيش (ثمّة عديدٌ من الروايات غير التي ذكرت)، وإن استندت إليه بدرجات متفاوتة بينها. لذا إن كان ثمّة تهمة تُلصق بالأدب العربي، لا أعرف إن كانت صالحة حقًا، حين تحصر الخيال (العلمي) في زاوية ضيّقة من العلم والخيال سويًّا.
كما أردتُ الإشارة إلى أنّ كثرة السؤال عن غياب هذا الشكل غير مجدٍ، الأمر أشبه بالنقد الموجّه للمخرجين الإيرانيّين حول عدم انتقادهم السلطة في أفلامهم، فلو توقّف هؤلاء المخرجين ليجيبوا عن هذا السؤال، لما صوّر أحدهم فيلمًا واحدًا. وحين نأخذ بعين الاعتبار حداثة الأدب العربي (بشكله الحالي)، يصير السؤال عن أسباب هذه الندرة التي تقارب الغياب محض تزجية للوقت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*): لا أعرفُ مقابلًا عربيًّا لمفهوم الspeculative fiction، الترجمة الحرفيّة له هي: الخيال التنبؤي. ووجدت العبارة ثقيلة لذا آثرتُ شرحها في المتن، وتركُها بصورتها الإنجليزيّة دون ترجمة.

(**): فادي زغموت (1978)، روائي أردني، صدر له روايتان: عروس عمّان (2012)، وجنّة على الأرض (2014).

(1): كتاب الحيوان، الجزء الأول، ص51 – الجاحظ.


الأحد، 11 مارس 2018

لقد صرتُ أحدًا، انظُر لي*


كارل أوفه كناوسغارد

10، حزيران 2014

By Robi Rodriguez

ليس لك أن تعتقد أنّك شخصٌ مميّز. ليس لك أن تعتقد أنّك جيّد مثلنا. ليس لك أن تُقنع نفسك أنّك أفضل منّا. ليس لك أن تعتقد أنّك أهمّ منّا. ليس لك أن تعتقد أنّك جيّدٌ في أيّ شيء. ليس لك أن تعتقد أنّ أحدًا يأبه لأمرك.

هذه ستٌّ من عشرة وصايا شكّلت قانون يانتي Jante؛ وهو مفهوم ابتدعه الكاتب الدنماركي-النرويجي آكسِل ساندِموزه عام 1933 في روايته “A Fugitive Crosses His Tracks”. يشرح القانون عقليّة مجتمعٍ يتحكّم الجميع فيه بالجميع، يخنق الجميعُ الفردَ حتّى يصير ثمن الحرّيّة الفردية هو النفي، ولكن حدود ]المنفى[ تتجاوز بلدة يانتي الخيالية الصغيرة. كان تشخيص ساندِموزه ]لتلك[ السلوكات مصيبًا فيما يخصّ الثقافة الاسكندنافيّة بأكملها. وقد ظلّ سويًّا حين كنتُ أكبرُ في سنوات السبعين من القرن الماضي. "ليس مسموحًا لك أن تعتقد أنّك أفضل من أيّ أحد" هي اللازمة التي لطالما سمعتها في طفولتي، ولم يلزم الأمر أكثر من قبّعة غريبة بعض الشيء أو سروال لا تألفه الأعين قبل أن يُذكّرك الناس بها، أو قبل أن يضحكوا عليك، أو في أسوأ الأحوال، يتجاهلونك. "يعتقد أنّه مميّز" هي أسوأ عبارة يمكن أن تُقال بحقّك.

لذا حين كان يُعرض المسلسل الأمريكي "شهرة – Fame" على التلفزيون النرويجي في بداية سنوات الثمانين، كان بالإمكان ]افتراض[ تصويره على كوكبٍ آخر. اعتقد كلّ من في الشاشة أنّهم مميّزون – هذا ما يدور المسلسل حوله! – كما لم يعدم وجود قبّعات غريبة بعض الشيء أو سراويل لا تألفها الأعين. ما الذي أراده أولئك الأطفال؟ أرادوا أن يُرَوا. أرادوا أن يعرضوا أنفسهم. وليس أمام محيطهم المباشر، أمام أصدقائهم وحسب، بل أمام الجميع. أرادوا أن يصبحوا مشاهير.

لماذا أرادوا ذلك؟ إنّه سؤال غبي. الشهرة تجلب الثروة، والثروة تجلب السلطة، وحياة تكون فيها جميع الأبواب، حتّى لأكثر الملذّات والمطامح انحطاطًا، مفتوحة. لكن ما هو أكثر أهميّة هو النقيض: لماذا - بحقّ العالم – قد يرفضُ أحدٌ كلّ هذا؟ أو، بشكلٍ أكثر دقّة، لماذا كان يُنظر للشهرة، في النرويج سنوات السبعين، على أنّها أمرٌ سوقيّ، غير مقبول، مُتهتّكة في أعمق معانيها؟

لقد كان هنالك مشاهير بالطبع، نجوم بوب ورياضيّون، يعبدهم الجميع، إضافة للعائلة الملكيّة. لكن ما كان يجمع هؤلاء المشاهير المبجّلين هو إصرارهم على أن يظهروا مثل الآخرين. لقد كانوا بسطاء، متواضعين، لا متكبّرين ولا مغرورين. لقد اهتمّوا بإبراز مدى عاديّتهم. لا تعود أكثر صور الملك أولاف الخامس أهمّيّة في مراسم تتويجه، حين ظهر محاطًا بكلّ تلك الأبّهة التي تخصّ الملوك، بل تعود إلى أزمة النفط سنة 1973، حيث كان جالسًا في الترام مُرتديًا معطفًا مطريًا مُظهرًا تذكرته للكمسري، مثل أيّ مواطنٍ آخر. بات الملك أولاف محبوبًا بسبب تلك الصورة، وما زال. ملك الشعب، هكذا يدعونه.





أثناء رحلة عائلية في ]قرية[ سوربوفاغ، النرويج، أواخر سنوات السبعين مع أخيه، عمّه وجدّيه،
 يبقى كارل أوفه كناوسغارد جالسًا، يتموضع للكاميرا.

تغيّر هذا الوضع في سنوات الثمانين والتسعين. لقد تمّ تشييع قانون يانتي رسميًّا، فقد تلفّظ رئيس الوزراء النرويجيّ غرو هارلِم برِوندتلاند، قبل بدء الألعاب الأولمبيّة الشتوية في ليلهامر عام 1994، بكلماته المُرتجلة: "أن تكون جيّدًا، فهذا نرويجيٌّ تمامًا". بينما كانت تسود احتفالاتِ نهاية الفصل في مدرستي التراتيلُ والجدّيّةُ، لا تمثّل فعاليّات ابنتي شيئًا مثلما تمثّل تجارب الأداء ]في سلسلة برامج[ "آيدل Idol". يعزف التلاميذ ويغنون أغانيهم الخاصّة، فينفجر الجمهور تصفيقًا لهم. يتمّ إعطاء الطلاب الموهوبين اهتمامًا خاصًّا، الأمر الذي لم يكن واردًا قبل ثلاثين عامًا، ووسط كلّ هذه الإثارة، فإن آخر ما تبقى من مجتمع يانتي - تذكير القسّ بأنّ الشهرة والثروة عديمتا الأهمّية في جوهريهما – قد استحالَ غبارًا.

أنت ذو شأن. بإمكانك فعل الكثير. يهتمّ الجميع لأمرك. أليس هذا ما يحاول الجميع إيصاله لأطفالهم؟

بالطبع، لكن هذه الرسائل ليست بالضرورة ما كانت الأجيال السابقة ترفضه. تضمّن قانون يانتي أيضًا مثالًا ideal للتضامن. في نموذج الرفاهية الاسنكدنافي، كما تشكّل في الأعوام اللاحقة للحرب العالمية الثانية، فإنّ الأخلاق البروتستانتية: اعمل بجدّ؛ كُن مُقتصدًا؛ لا تُقدّم نفسك على الآخرين، إذا اتّحدت مع فكرة الحركة العمّالية القائلة "واحدٌ منّا"، يصيران معًا أكثر أهمّيّة من كونك شخصًا مميزًا. كانت النتيجة في النرويج هي رعاية صحّيّة وتعليم على مستوى عالمي، تلفزيون وإذاعة عموميّين، شبكة سكّة حديد واتّصالات عموميّين، تسكين housing وزراعة مدعومتين من الدولة، واعتقاد رسّخته الدولة أنّ لا أحد أفضل من أحد. في المدارس، لا يُقيّم الطلبة بالعلامت حتّى يبلغوا الثالثة عشرة. من حقّ الجميع، وبالأخص الأطفال، أن يتمّ التعامل معهم بسويّة.

ومع ذلك، أو ربّما لهذه الأسباب تحديدًا، أبقى مستيقظًا في الليل، محاطًا بسنوات السبعين أنّى تقلّبت، حالمًا بأن أصير مشهورًا. في البدء أردتُ أن أصير نجم كرة قدم، لاحقًا نجم روك. كنت عديم الموهبة في كرة القدم، كما أنّني عاجز على العزف على أيّة آلة بمقدار عجزي عن الغناء، لكنّ رغبتي لم تتزعزع لهذه الأسباب، فقد كانت جبّارة. حاولتُ الحصول على الأدوار الأولى في جميع المسرحيّات أيّام المدرسة، كما أرسلتُ مرّة إلى مذيع في التلفزيون العام أطلب المشاركة مع نجم الروك إيجَه أليكساندرسِن في سلسلة كانت تجمع المشاهدين مع النجوم. لم أخبر أحدًا بهذه الواقعة. لو اكتشف والديّ أو أصدقائي ذلك، لتمّت إدانتي. في الحقيقة، لم يحصل أن أخبرتُ أحدًا عن هذا الإطلاق. ما تزال تُشعرني بالخجل.

ما الذي يجعلني أملك مثل هذه الرغبة العظيمة بأن أكون مختلفًا؟ ما الذي يجعلني أرغب في أن يراني الجميع؟ هل كنت أعتقد أنّني أفضل منهم؟ في الحقيقة لا، بل على العكس: لقد كنتُ نكرة، ولعلّ فرصتي الوحيدة لأكون أحدًا، كما يبدو، في أن أصير مشهورًا، لا يهمّ في أيّ مجال. عالمٌ مشهور، لاعب كرة قدمٍ مشهور، موسيقي روك مشهور، رسّام مشهور، كاتبٌ مشهور. مشهور، مشهور، مشهور؛ كانت تلك الطريقة الوحيدة لأنتقل من كوني لا أحد إلى كوني أحدًا.

هذه هي العواطف القوية. إذا لم تكن متجذرة في الذات، يتم تحديد الهوية من قبل عوامل خارجية، والتي قد ينتهي بها الحال لتصير قوًى حاسمة ومسيطرة. الرغبة في الشهرة هي أوّلًا وقبل كلّ شيء، ولعلّها ليست أكثر من هذا، رغبة طفوليّة. بالنسبة لمعظم الناس، فإن العثور على الطريقة للتعامل مع الشهرة – أن تُقدّم احتياجات الناس على احتياجاتك – هو جزءٌ من انتقالك لمرحلة البلوغ. بالنسبة لبعض الناس، تظلّ ]الرغبة[ خارج السيطرة.

تمّ نشرُ كتاب أوسنه سايرشتاد حول القاتل الجماعي آندِرش بيهرِنغ برايفِك الخريف الماضي في الدول الاسكندنافية. برايفِك هو الرجل الذي ذبح عشرات من الشباب في جزيرة أوتويا، بالقرب من أوسلو، قُبيل ثلاث سنوات تقريبًا. العنوان النرويجي للكتاب هو "En Av Oss" أي "واحدٌ منّا – One of Us"، لأنّ برايفِك بدا، بطرقٍ عدّة، عاديٌّ جدًا: شاب من الطبقة الوسطى أقام في دولة رفاهٍ على تخوم أوروبا. الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في سرد سايرشتاد هو وصفها لطريق برايفِك نحو التطرّف والإرهاب: تمنّي برايفِك على الدوام أن يُرى دون أن يجني سوى النسيان، التجاهل، الإهمال؛ كيف بات معزولًا أكثر فأكثر حتّى بقي وحيدًا في النهاية في غرفة، أمام شاشة، يلعب World of Warcraft بشكلٍ متواصل على مدار سنة. إنّه لا أحد، وأن تكون لا أحد يعني أنّك ميّت، وحين تكون ميتًا، تصيرُ متجاوزًا كلّ شيء. ليس ثمّة ما يمكن خسارته؛ كلّ شيءٍ مباح. قتل برايفِك 77 شخصًا في ذلك اليوم حتّى تتمَّ رؤيته. لم يعد هنالك فرقٌ كيفَ يُرى. لقد كان بطلًا بعيني نفسه، مُحرّرًا، الشخص المختار.

يتمّ انتقاد هذا النوع من المقاربة النفسية دائمًا لتقليلها من الجوانب الإيديولوجية والسياسية لما فعله برايفِك، واستخفافها بكراهية الإسلام والأجانب التي أفصحت جريمته عنها. لكنّ الإيديولوجيا مجرّد شكل، إطارٌ لا بُدّ من ملئه بالمشاعر ليكتسب قوّة تدفعه على الفعل. ثمّة تمهيدٌ واضحٌ لجرائم القتل في أوتويا ألا وهو مذابح المدارس التي حدثت في العقود الأخيرة، في الولايات المتّحدة بالدرجة الأولى، لكن أيضًا في بريطانيا، فنلندا، ألمانيا وبعض الدول الأخرى. كان الجُناة في الغالب صِغارًا، كما كان أغلبهم، بطريقة أو بأخرى، معزولين، وحيدين ومنفيّين. ما إن تُوجَد أفعالٌ كهذه في العالم، فمن المُرجّح أن يُعادَ وجودها. اليوم، تنتشر صورُ هذه الأحداث على الفور. بالنسبة لشخصٍ ما، في مكانٍ ما، تخلق ]تلك الصور[ إمكانيّة. لم يكن من الممكن التفكير بوقوع مجزرة أوتويا في النرويج سنوات الخمسين.





كناوسغارد خارج استوديو عمله في Glemmingebro، السويد - Robi Rodriguez





أن ترى أطفالَك يقفون أمام المرآة، يغنّون ويحلمون أن يظهروا في التلفزيون، فهي مسألة مختلفة تمامًا عن مسألة برايفِك. إنّها لمسألة بالغة العِظَم أن تُرى، لكن الحاجة في أن يراك الجميع، وهي ليست إلّا خيالًا طفوليًا، تصير غير طبيعيّة حين تواصل وجودها بعد ]سِنّ[ الرُّشد. هذا يعني أنّ شيئًا ما غير متوازنٍ. إنّه أمرٌ بَدَهيّ، بما أنّ التناغم لا يخلق أيّ شيء. ]بل[ لا يحتاج أن يخلق شيئًا. إنّ فقدان التوازن وتنافر النغم هما اللذان يولّدان القوّة التي تدفع برجلٍ في سنوات الستّين ليقف على المسرح عازفًا على قيثاره مُغنّيًا لساعات كلَّ ليلة، في بلدٍ تلو البلد، ]ليسمع[ هُتاف الجماهير. "كراهية الذات"؛ ذلك ما قدّمه بروس سبرنغستين بوصفه المفتاحَ في مقابلة مع النيو يوركر. لا أعتقد أنّ هذا ينطبق عليه وحده؛ فالأمر نفسه ينطبق على العديد من أولئك الذين يقفون في دائرة الضوء. كراهية الذّات هي المحرّك؛ الشّهرة هي الوقود.

بالنسبة لي، فقد التصقت بحلم الشهرة طوال سني مراهقتي. حين بدأت سنوات العشرين، أردتُ أن أصير كاتبًا مشهورًا. لم تُشكّل الكيفيّة فرقًا؛ منت على استعداد لكتابة أيّ شيء لأبلغ ما أريد. في مقابلة محرجة للغاية أجريتُها لإذاعة طلّابيّة بينما كنت أدرس الكتابة الإبداعية حين كنت في العشرين من عمري، قارنتُ نفسي، بكلّ جدّيّة، بـ ]كنوت[ هامسون و]إرنست[ همنغواي. هذه الطفوليّة التي كان عليها أن تبرُز، الأمر الذي يصير أقبح وأكثر إثارة للشفقة كلّما كَبُرت، والتي، بناءً على ما كتبتُ حدّ الآن، لا تحتاج إلى محلّل نفسيّ لتُدرك أنّها تغذّت على ]الإحساس[ بالخجل وكراهية الذات، التقت فجأة بنقيضها، ما اكتشفته حين بدأتُ كتابة روايتي الأولى أنّ بإمكاني الاختفاء داخل كتابتي. الذات، وكلّ الصعوبات والآلام المُرتبطة بها، اختفت. لطالما اختفيت حين كنتُ أقرأ؛ كانت هذا تقريبًا غاية القراءة لديّ، ألّا تكون أحدًا لبضع ساعات. الآن تحقّق ذلك أثناء كتابتي. أن تختفي بهذا المعنى، أن تدخل حالة نكران للذات، هو أمرٌ أؤمن أنّ كلّ موسيقيّ، رسّام، ممثّل، مُخرج وكاتب يعرفه. إنّه أمرٌ كامنٌ في جوهر الخلق ذاته. على خلاف أيّ وسيطٍ آخر، بإمكان الأدب أن يكسر الحدود التي أقامها المُجتمع. إنّه يتحدّث بصوتٍ متأثّرٍ بأصوات كل الأوقات والآداب الأخرى. المفارقة هي أنّ الشهرة، التي ]ما تفتأ[ تؤكّد على الفرد، وثيقة الارتباط بنكران الذات، بما هو عليه منطمس للذات؛ فالرغبة بأن تُرى وثيقة الارتباط بمتعة إخفاء الذات.

نشرتُ كتابًا، قبل عدّة سنوات، خلق صخبًا في النرويج. فجأة بات وجهي يتربّع صفحات الجرائد الأولى، وقد دُعيتُ إلى كلّ برامج التلفزيون الحواريّة في البلاد. تربيتي على ما كانت عليه في سنوات السبعين، غرست في نخاعي العظمي تحذيرًا بأن أتجنّب التفكير بكوني مميّزًا على الإطلاق – وقد ارتبط هذا لا محالة مع حاجة الطفل البالغ بأن يُرى -. لقد تفاعلتُ مع شهرتي الحديثة بخجل وقنوط من كجهة وبإدمانٍ عليها من جهة أخرى، مثل مدمن على المخدّرات تقريبًا. ما زلت أعاني من هذا الإحساس بالخجل لدرجة لا أستطيع معها أن أحمل نفسي على ذكر ما حدث – وجهي على صفحات الجرائد الأولى، وجهي في التلفزيون – لأنّني، إذا ذكرتُ ذلك، ]كأنّني[ أقول: "لقد صرتُ أحدًا، انظر لي!" لكن هذا ما أفكّر فيه فعلًا. لقد صرتُ أحدًا، انظر لي. وفي الوقت نفسه، يخبرني شيءٌ آخر بالعكس: أنت لا أحد. لماذا تعتقد أنّك ]صرتَ أحدًا[؟ وهي فكرة جيّدة. إنّها فكرة أحتفظ بها ليس لأنّني مازوشي، بل لأنني واقعيّ. إنّها الشيء الوحيد الذي يمكّنني من الاستمرار في الكتابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*): المقال مترجمٌ عن جريدة النيويورك تايمز. عنوانه بالإنجليزية "I Am Somoene, Look at Me"، وقد ترجمه إنغفيلد بوركيه INGVILD BURKEY بدوره عن النرويجيّة.