الخميس، 30 أكتوبر 2014

فارس الظلال؛ سمكة تموت تحت الضوء

           ما زلت أتذكر الشعور، كان شيئًا كما لو خلقت لأعيشه، شيئًا يسبقني، يتعدى حقي في الاختيار. البرتغال ضد إسبانيا يورو 2004، النتيجة النهائية 1-0 للبرتغال. ذاكرتي لا تسعفني كثيرًا لتذكر المسجل، لكني أظنه نونو غوميش. كان كالحصان، انظروا كيف كان يربط شعره. كنت صغيرًا حينها، 10 أعوام لا أكثر، لكنني فرحت كما لو كنت مشجعًا عتيدًا لبورتو، أو جامع كراتٍ ترعرع في جنبات ملعب النور. اليوم، لا أجد تفسيرًا منطقيًا لذلك الانغماس في الفرح. الأمر أشبه بالقبض على الفراشات، وحفظها بوعاء يتخلله الهواء من أعلى، كرة القدم كانت ذلك الهواء.

           في كل العالم، ترتبط حياة كثير من المشجعين بالملاعب. كرة القدم على الشاشة أمر، وعلى أرض الواقع أمر آخر. من البؤس أن يولد محبّ لكرة القدم في الأردن. لا واقع الملعب ولا المدرجات تحفّز على الحضور أو حتى المتابعة الصامتة من على أرائكنا في المنازل. مع ذلك، حين تحين الفرصة لا يمكن أن ترفضها. أول مباراة شاهدتها كانت بين الفيصلي والزمالك، نصف نهائي كأس العرب. انتهت المباراة بالتعادل السلبي. لكن هذا لا يهم، ما يهم الآن أنني لم أنغمس في شتم أمهات وأخوات لاعبي الوحدات!. ربما لو لم يكن والدي معي لقمت بذلك. لا يوجد أسهل من الانجراف مع الهياج الجمعي، الكل كان يقفز، ويشتم الوحدات، والأمر على ما يبدو كان مسلٍ. على الطرف الآخر من الملعب، بجانب جمهور الزمالك الصغير، كانت فرقة من جماهير الوحدات، جاءت لتؤازر الفيصلي، ذلك الموقف كان كافيًا لأحترم جماهير الوحدات طوال حياتي.

           مرّت مسيرتي كمشجّع بتقلّبات كبيرة، أبرزها تحولي من مشجع للريال مدريد في الـ 2005، إلى مشجع لبرشلونة بعد الـ 2006. الآن، أقول دون تردد أن زيدان كان سبب حبي للريال. من المؤسف أنه اعتزل ولم أزل صغيرًا. لكن، التحول الأبرز كان في نظرتي للعبة، فهي لم تعد منذ زمن طويل أندية مكرسة، وأموالًا تركض. لا بدّ من نقاط ثبات، تحكم نظرتنا للعبة حتى لا نملها. لا عجب أن لكل مشجعٍ نقاطه التي يتوكأ عليها. نقاطي كانت جماليّة في الغالب، وتعتمد على الذاكرة كثيرًا، على الصدف أحيانًا في مشاهدة أشياء خارقة، وعلى الكثير من الوقت المهدور وراء الشاشة، لكنّ النقطة الأكثر ثباتًا، الأهم بلا أدنى شك :

           ليفربول X ميلان 3-3 (2005)

           كادت المباراة تفوتني، لولا أنني تذكرتها قبل البدء بخمس دقائق. وقتها كانت قناة عمان الرياضية الأرضية تبث دوري الأبطال، وكان محمد المعيدي وحده سيدًا للقناة. تمر نصف دقيقة، ومحمد المعيدي مختفٍ في أحد أروقة القناة. ضربة حرة لبيرلو، محمد المعيدي يتذكر مثلي المباراة متأخرًا، الرجل يقول: ضربة حرة لميلان، من ثمّ، ودون أن يبلع ريقه : ياه ياه (المعهودة)، مالديني سجل في الدقيقة الأولى. لا بدّ أنه خلط بين مالديني ونيستا ليلتها، لم أعد أتذكر، لكنها ليست غريبة عليه. السيناريو الباقي معروف، ولا داعي لذكره. ما يهمّني من كلّ هذا هو الجماهير، بعد وقتٍ طويل، ومتابعة أطول للفيربول، أستطيع القول، أنها كانت المرّة الحقيقية، وربما الوحيدة التي غنى اللاعبون فيها للجمهور: "لن تمشوا وحدكم أبدًا" وليس العكس. طبع اللاعبون يومها قبلة على وجه كل مشجع تورمت قدماه مشيًا وراء النادي، حقيقة أو مجازًا. الآن، الكثير يتذكرون المباراة، لكن لا أحد يتذكر بينيتيز العبقري (ليلتها فقط).

           فارس الظلال؛ سمكة تموت تحت الضوء. 


(الجماهير تغني ليلة اسطنبول)

الخميس، 16 أكتوبر 2014

النسبيّة الجديدة: إسرائيل في أعين الكتّاب العالميّين!

          بين خيار جدارٍ عالٍ وصلد، وبيضة تتكسر على هذا الجدار، سأقف دومًا في صفّ البيضة” هذا ما قاله الروائي الياباني هاروكي موراكامي ،لدن تسلمه جائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع سنة  2009(1). قال ذلك في معرض تبريره قبولين؛ قبول زيارته إسرائيل بعد حربها الأولى على غزة (2008-2009)، وقبوله الجائزة في ظل الصراع القائم.


هاروكي موراكامي مع شمعون بيريز
          لا يبدو أن نظرية آينشتاين النسبيّة مقتصرة على تفسير الظاهرة العلميّة (تغيّر: الزمن، الكتلة، الطول) فقط، بل يبدو أنّها تتعدّاها إلى النظرة الأخلاقيّة للصراع الفلسطيني / الإسرائيلي القائم منذ سنوات بعيدة. الإطار المرجعي الذي يتحدّث منه الشخص (موراكامي هنا) يجعلك تشعر بحجم المسافة الشاسع بينه وبين القضية. فالمسألة ليست “إطلاق أحكامٍ حول الصواب والخطأ” كما يقول، قد يكون الجدار على صواب والبيضة على خطأ. وكأنّه لا بدّ أن يكون هناك فرقٌ بين ما هو صواب، وما هو محتّم أخلاقيًا. يقول موراكامي في موطنٍ آخر من خطاب تسلمه الجائزة، أن أحد أسباب مجيئه كانت أنه لا ينصاع لما يمليه عليه الآخرون؛ الآخرون الذين نصحوه بعدم المجيء. هو إذن جاء ليستكشف الوضع عن قرب، أي أنه غير ملمّ بالشكل الكافي ليدلي بحكمٍ فصل. ومع ذلك لا يمكن أن يمرّ كلامه دون استشعار الحرج الذي وضع نفسه فيه؛ هو مع البيضة، لكنّه واقف في الطرف الذي ستُلقى فيه!.

بول أوستر يصافح شمعون بيريز. وفي الوسط الكاتب سلمان رشدي
          هذه النسبيّة، ليست مقتصرة على موراكامي وحده. الأمر ذاته ينطبق على العديد من الكتّاب ذوي الشهرة والمكانة العالمية، كبول أوستر (أمريكا / 1947) وجون كويتزي (جنوب أفريقيا / 1940) الحائز على جائزة نوبل 2003. الأمر مختلفٌ في حالة الإثنين؛ فبول أوستر تربطه وشائج عقائدية بإسرائيل نظرًا ليهوديّته. وكويتزي يدّعي أن المكوّن الثقافي ليهوديي لأوروبا ساهم في تشكيل وعيه (فرويد وكافكا خاصّة) على عكس العرب والمكون الإسلامي اللذين لم يكن لهما أي أثر عليه. في رسائلهما لبعض المعنونة بـ"Here And Now 2008-2011" (2012) يخرج أوستر بحلّ جذري للمسألة: أن يُنقل جميع الإسرائيليّون إلى ولاية وايومنغ (ولاية واقعة في الجزء الشمالي الغربي لأمريكا) فهي منطقة قليلة التعداد السكاني، لن يلبث الإسرائيليون أن يعمروها بلمح البصر. وهكذا ينتهي كلّ شيء!. يقول في نهاية الاقتراح أنّه حلّ يعلم أنه لن يتحقٌق، ثم يعود ليصفه بالحل (المزحة). على الطرف الآخر يكتب كويتزي رأيه بمباشرة أكثر، هو مدركٌ لحجم الغبن والافتقار للعدل اللذين عومل بهما الشعب الفلسطيني، لكن لا حلّ أمامه سوى الارتضاء بالهزيمة، كما ارتضت بها ألمانيا من قبل!. من ثم، وفي ارتدادٍ مفاجئ يعلن وقوفه، إن اضطرّ للاختيار بين أصدقائه اليهود – الذين يعني لهم الكيان الصهيوني الشيء الكثير – وإحقاق العدالة التاريخيّة، في صفّ أصدقائه!.

          مع إسقاط بعض الفروقات الصغيرة، الشخصية في الغالب، نلاحظ أن ذات الالتباس يتكرّر لدى جميع هؤلاء الكتاب. هناك فهم حقيقي وعميق لطبيعة الصراع، لكنّ اللحظة التي يتطلّب الأمر فيها اتخاذ موقف، تسيل الأمور حتّى لا يمكن الإمساك بها، من ثمّ تأتي تبريرات واهية من قبيل الصداقة والحب لبعض اليهود في حالة كويتزي، وأن إسرائيل قائمة على التسامح في أساسها في حالة أوستر، وأنها قامت على حرية التعبير في حالة موراكامي.

          كعرب، وشاهدون مقربون على أحداث قمع يوميّة، وثلاثة حروب خلال أقل من ست سنوات. علينا أن نسائل أنفسنا: هل يحقّ لنا مطالبة (الآخر)، سواء كان كاتبًا أم كان شخصًا أقل ثقافة بأن يتبنّى موقفًا جادًا من إسرائيل؟ إن كان كذلك، أليس الأولى التنبيش بذوي القربى أولًا، خاصّة لو كان كقامة رفيعة مثل نجيب محفوظ اذي لم يتوانَ عن تأييده لمعاهدة كامب ديفيد(2) التي أبرمها السادات مع مناحيم بيغن (المرتبط بمجزرة دير ياسين (1948)) سنة 1978؟ أم أن المبادئ لا فصل فيها بين عربيّ وآخر غير عربيّ؟.

خورخي لويس بورخيس
          يظلّ التاريخ الشاهد الأفضل على الكثير من المواقف المخزية أحيانًا؛ كموقف خورخي لويس بورخيس، القاص الأرجنتيني الشهير الذي ناصب إسرائيل وتحمّس لعصابات الهاغانا. بورخيس ذاته الذي كتب عن المتاهات يبدو أنّه دخل إحدى متاهاته دون أن يدري حين كتب قصيدة "إلى إسرائيل" نسة 1967 : 

"في هذا الكتاب (الكتاب المقدس) أنتِ، 

مرآة تُرى فيها :

الوجوهُ المنحنية على نفسها

ووجه الرب الكريستالي القاسي

حيث الفزع في الثنايا.

بوركت يا إسرائيل، لتحمي جدار الرب

في قلب المعركة."


          إلّا أنّ التاريخ ذاته، لا ينسى أولئك الذين نظروا للأشياء من إطارٍ واحد، سواءً شاءوا التأكد عن قرب أم فضّلوا المكوث داخل قوقعتهم؛ كجوزيه ساراماغو الذي قال بعد زيارته لمخيم جنين عام 2002 : “كل ما اعتقدت أنني أملكه من معلومات عن الأوضاع في فلسطين قد تحطّم، فالمعلومات والصور شيء، والواقع شيء آخر، يجب أن تضع قدمكعلى الأرض لتعرف ما الذي جرى هنا. يجب قرع أجراس العالم بأسره لكي يعلم أن ما يحدث هنا جريمة يجب أن تتوقّف. لا توجد أفران غازٍ هنا، ولكن القتل لا يتم فقط من خلال أفران الغاز. هناك أشياء تم فعلها من الجانب الإسرائيلي تحمل أعمال النازي في أوشفيتس. إنها أمور لا تغتفر يتعرّض لها الشعب الفلسطيني."

ساراماغو أثناء زيارته لفلسطين
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): جائزة القدس لحرية الفرد في المجتمع.
(2): تأييد نجيب محفوظ لمعاهدة السلام.