الخميس، 14 أبريل 2016

"الإحساس بالنّهاية"؛ أن تقول كلّ شيءٍ دفعةً واحدة



        هل يمكن أن يوجد مبنًى بلا نوافذ ولا أبواب، ونراه جميلًا؟ أفكّر في سؤالي حالما أنهي رواية الكاتب الإنجليزي جوليان بارنز (70 عامًا) "الإحساس بالنّهاية". كلّ ما يمكن أن يقال، قيل داخل الرّواية. لذا لا أجد أنسب من القول "اذهبوا واقرأوا الرّواية، لا شيء لدي أخبركم إياه"*.

        تحكي الرّواية قصّة "توني وبستر"، عجوز ستّيني، يعمل مسؤولًا عن مكتبة مستشفًى قريبٍ منه، مطلّق، يميل إلى المسالمة وتجنّب المشاكلِ في حياته. تصله، بعد أربعين عامًا من انتهاء العلاقة، تركة من والدة حبيبته أيّام الدراسة، قوامها 500 جنيه استرليني، ووثيقتان تفتحان بابًا واسعًا على الماضي، إحداهما يوميّات تخصّ صديق "وبستر" أدريان الذي أقدم على الانتحار منذ زمنٍ بعيد.

        يحاول بارنز في هذه الرّواية الصغيرة (181 صفحة)، أن يقدّم إجابته عن سؤال: ما التاريخ؟. لكنّه، ومنذ الصفحة الأولى لا يواري الخطيئة الأولى في فهمنا له "ما تتذكّره في النهاية ليس هو نفسه ما شهدته"*، ولا يكتفي بهذا، بل يظلّ، بشكلٍ مطّردٍ، يوحي بوهنِ ذاكرة البطل، مشككًا في كل ما قيل على لسانه، ففي النّاهية ليس ثمّة إلّا "عدم استقرارٍ عظيم"*.

        أثناء قراءتي للرّواية، كنتُ أفكّر بدايةً، بما أسماه أورهان باموق محور الرّواية. الأمر الذي نظلّ نفكّر فيه، ونحاول القبض عليه لنعلن فرحين، كمن يكتشفُ جزيرةً، أنّنا فهمنا ما أراد الكاتب قوله. يعتقد باموق أنّ الرّوايات الجيّدة، ما ينفكّ محورها يتغيّر حدّ صعوبة إمساكه أخيرًا. في "الإحساس بالنّهاية"، المقسّمة على جزئين، يقول جوليان بارنز في الصفحة الأولى "لست مهتمًا بالأيّام التي قضيتها في المدرسة ولا أشعر بالحنين إليها. لكن المدرسة هي المكان الذي بدأ فيه كل شيء، ولهذا عليّ أن أعود بعجالة إلى بعض الأحداث التي صارت حكاياتٍ"*. شيئًا فشيء، تتساءل إن كنتَ قد خُدعت، وما كان ينبغي أن ينتهي بسرعة لتبدأ بعده الحكاية الحقيقيّة، طال إلى ما يقتربُ من نصفِ الرّواية. إذن، أين الرّواية سيّد بارنز؟.

        يشرح جوليان بارنز في هذا النّصف الأوّل، كيف تعرّف على "فيرونيكا"، من صارت حبيبته الأولى أيّام الدّراسة. ويذكرُ زيارته لبيتها في أحد نهايات الأسابيع، وتعريفه إيّاها على أصدقائه الثلاث: ألكس، كولن، وأدريان. لعلّ الرّواية قصيرة كما هي، إلا أنّ قارئًا لو أراد، قد يلخّص أحداث الرّواية في صفحة، لماذا إذن امتدّت كلّ هذا؟ يبدو جوليان بارنز مفتونًا بالتنظير؛ التنظير بمفهومه الفلسفي القائم على التجريد "الأدب الحقيقيّ يدور حول الحقيقة النفسيّة والعاطفيّة والاجتماعيّة كما تجسّدها أفعال وتأملات أبطالها، فالرواية تدور حول شخصيّة تتطور مع الزمن"*، ما يعني أنّ تطوّر الشّخصيّة، الدّاخلي قبل الخارجيّ، هو جزءٌ لا يمكن فصله عن الأحداث الواقعة خارج الشخصيّات.

        لا يعني التاريخ شيئًا بلا سؤال. جميعنا نأكل، نشرب، ننام. لكن هل هذا ما نسمّيه تاريخًا؟ هناك شيءٌ ما ينبغي أن يتحطّم كي تصبح الرّحلة أقلّ وضوحًا كما يقول الكاتب. فالانتقال الراديكالي بالزّمن من نهاية المدرسة وحتّى بلوغ الستينات من العمر، بما فيه من خطورة تنطوي على القفز عن مساحة كبيرة من الزمن والأحداث، كان لا بدّ له أن يتوقّف. لذا، في الجزء الثّاني، يسعى "توني وبستر" ليعرف سرّ التّركة؛ لماذا هو؟ لماذا الآن؟ ولماذا، على طريقة سيبويه، ما زال في نفسه شيء من فيرونيكا.


من الفيلم المزمع إصداره هذا العام عن الرّواية (تشارلوت رامبلينغ بدور فيرونيكا،
جيم برودبنت بدور توني ويبستر)

        ما زال سؤال، ما التّاريخ غير مجابًا إلى الآن. أليس كذلك؟ حين سأل أولد جو هانت، معلّم التاريخ، توني وبستر هذا السؤال في صغره، أجاب: "إن التاريخ ليس إلّا أكاذيب المنتصرين"*. لكنّها إجابة سهلة، غير مخلصة للحقيقة، فحسابات النصر والخسارة ضبابيّة، غير واضحة المعالم في هذه الحياة. تماشيًا مع هذا الفهم، نبش وبستر ماضيه، كما يذكره، حدثًا حدثًا، شخصًا شخصًا. لذا كان محتّمًا عليه محاولة لقاء "فيرونيكا"، التي لم تنفكّ عن تذكيره أنّه لم ولن يفهم شيئًا، ولم ترضَ أن تتحدّث معه عن الماضي بالكثير، ما زاد من عبء السؤال عليه.

        أصرّ جوليان بارنز، إلى حدٍ بعيد، أن لا يشارك أحدٌ السرد مع توني وبستر. تقنيًا، هذا أحد أوجه تيّار الوعي، فنحن لا نسمع سوى البطل وأفكاره، وأيّ تدخلٍ آخر يتمّ عبرهما. لكن، نظريًا، يأتي هذا الإصرار كمحاولة للقول، بأنّ الرّواية هي جزء وبستر من الحكاية، لا الآخرين. جزؤه الذي أملته عليه ذاكرته بما فيها من ثقوبٍ يتسرّب الماضي منها.

        يتحدّث عبدالوهّاب المسيري في سيرته "رحلتي الفكريّة" عن ما أسماه الذئب الهيجلي المعلوماتي "وهو ذئب خاص جدًا، جواني لأقصى درجة، يعبِر عن نفسه في الرغبة العارمة في أن أكتب كتابًا نظريًا، إطاره النظري واسع وشامل للغاية ولكنه في الوقت نفسه يتعامل مع أكبر قدر ممكن من المعلومات والتفاصيل، إن لم يكن كلها..."(1). جوليان بارنز هنا حاول كتابة شيء مشابه، يجملُ كثيرًا من التصنيفات في عملٍ واحد (وصغير!). مثلًا، يمكن القول أنّ الرّواية تتماشى مع الأدب الكلاسيكي (كما وصفتها ستيلا ريمينغتون رئيسة لجنة تحكيم جائزة المان بوكر 2011)، كما أنّها رواية حداثيّة في الوقت عينه بانتهاجها  تيّار الوعي كأسلوبٍ في الكتابة. كما أنّ جوليان بارنز لم يترك النّهاية مفتوحةً، التي قد تبدو أكثر انسجامًا مع مفهوم التاريخ الّذي دأب على تأكيده في الرّواية: تركُ مساحات فارغة أكثر من تلك الملأى.

        لا شيء محتّم في الكتابة (كما أيّ شيء آخر في الحياة؟). لذا هل نعدّ رهان الكاتب على قول الكثير في عملٍ واحد ناجحًا، حين نعلم أنّه جلب له جائزة المان بوكر عام 2011؟.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*): كلّ الاقتباسات المنتهية بإشارة النجمة مأخوذة من الرّواية.

(1): رحلتي الفكريّة؛ في البذور والجذور والثّمر – عبدالوهّاب المسيري – ص: 166 – 176.