السبت، 2 مايو 2015

الرّكون إلى أفق مفتوح

         في البدء، كان نجم وليّ الدين يصنّف الناس إلى قسمين. أوّلٌ اختار طريقًا يسلكه بقيّة حياته - لا يهمّ إن كان طريقًا يسير نحو الهاوية أو نحو النعيم -. وثانٍ ما زال معلّقًا في السماء. هو؟ كان يسير قليلًا من ثمّ يطالع موضع قدميه، فيشعر أنّه خفيف. خفيفٌ كريشة تبحث عن طائرها. لن يجيب أحدٌ أين مؤدى هذا الطريق، لا أحد يسأل ذلك أساسًا. أحيانًا كان يشعر أنّه في حقلٍ كبير، يحدث فجأة أن يجد أعدادًا هائلة من أحصنة تغذّ الخطى من حوله. كان يودّ أن يوقف حصانًا ليسأله سؤالًا، لكنّه لم يفعل لأنه ظلّ ينسى السؤال كلما حاول نطقه. ظنّ أن لا وجود له، كيف يعرف أنّه موجودٌ أساسًا؟.

         لأنّ لا شيء يشير إلى شيء، ولأنّ لا إجابة تلوح في الأفق، قرّر أن يكتب.

***

         أحبُّ البارات، أحبّها لأنّ فيها أستطيع أن أكون وحيدًا تمامًا. آتي إلى هنا كلّ يوم. أجلبُ كتابًا وأجلس على المشرب. في البدء، كان البارمان يرمقني باحتقار. من ثمّ، حين اعتاد وجودي لم يعد يبالي. آتي إلى هنا الساعة العاشرة تمامًا. وأغادر في الثانية صباحًا. لا أحبّ الإخلال بمواعيدي. أقرأ كلّ يومٍ ما يقربُ الأربعين صفحة. أنا بطيء بالقراءة، وهذا يروقني. أحبّ القصص الواقعية، ولا بأس بقليلٍ من الفانتازيا. تعجبني فتاة تأتي إلى البار كلّ يومٍ مع رجلٍ مختلف. أحبّ مشيتها، وأكره كونها لعوبًا. لديّ إحساسٌ لا أعرف مصدره أنّها تتصنّع كل ذلك. كي لا أُفهم خطأ، لا يسوؤني ما تفعله، هذا شأنها، لكنّني فقط أكره تظاهرها بالانغماس. أعرف هذا لأنني راقبتها كثيرًا؛ حين تكون على سجيّتها، فإنها تشوبر بيديها كثيرًا، لكنّها لم تفعل ذلك إلًا نادرًا.

         في مساءات السبت، يقيم البار حفلًا كبيرًا. يستقدم (DJ)، يشعل الساحة الوسطى ضجيجًا وحماسة. فجأة ينار كلّ شيء، ويستحيل الزبائن بقعًا من الضوء. أبتهج حين أنقلب فقاعة من الأخضر. وأكره حين يسلّط علي ضوء أحمر. أحبّ الضوء الأزرق حين يسلّط على الفتيات، يجعلهن أكثر إثارة، وربما - حين يدركنَ ذلك - يغدون أكثر شبقًا. في هذه المساءات، أتعمّد المجيء هنا كي أتمتّع بعدم المشاركة في هذه المعمعة. أحضر كتابًا كبيرًا على غير العادة. وأجدّ في قراءته، وغالبًا ما كنتُ أنهيه في تلك السهرة. في هذه الأيام، أشعر بالود يتدفق من البارمان صوبي. أعتقدُ أنها شفقة أكثر منها ودّ، لكن هذا يرضيني.

         كما لا تتوقّع أن تسبق الساعة الثانية الواحدة، كان هذا السبت؛ لا شيء مختلفٌ على الإطلاق. في التاسعة والنصف مساءً مشيتُ صوب البار حاملًا مجموعة قصص "الألف" لبورخيس. عدد صفحاتها أقل مما اعتدتُ قراءته أيام السبت، لكنّ صفحتها أكبر من المعتاد، وهذا جيّد. جلستُ إلى المشرب وطلبتُ الكوكتيل الذي أشربه دائمًا. ابتسم البارمان لي واضعًا الكأس أمامي. شعرتُ بعد إنهائه بالدّوار، لم تكن تلك ثمالة، بل كانت دوارًا. واندهشتُ حينها من قدرتي على تحديد ما أشعر به بهذه الدقة. متى بدأ ذلك؟ لا أعرف، فقط ألفيت نفسي مصابًا بالدوار. في اللحظة التالية ناديتُ البارمان، وطلبتُ منه أن يوصي ال (DJ) أن يضع شيئًا سريعًا ويرفع الصّوت. ثمّ تقدّمتُ إلى المرقص بخطى طالبٍ لا يعرف الإجابة وهو في طريقه إلى السبورة، وبدأت الرّقص.

         لا أعرف معنى للنشوة. ربما لأنها دائمًا ما ارتبطت في ذهني بالسعادة. السعادة بذاتها كلمة مبهمة، لذا كلُّ ما يبنى عليها من أشياء مبهمٌ تباعًا. كنتُ أربطها دومًا بالوجود ضمن جماعة. لكن في هذه اللحظة، يمكنني أن أربطها بأمرين آخرين. الأول هو الصراخ، ولا يهم إن كان الصراخ نابعًا من فرحٍ أم غضب. الثاني هو – وربّما يكون نتيجة للسبب الأول – الحيوانيّة. كانت ألسنة جميع من في المرقص ممدودة على طولها، وليست هذه بالمبالغة السمجة، أو بالمجاز. كان ذلك حقيقة أبصرتها بعينيّ؛ وأظنّها كانت تعبيرًا عن شبق يلي الشعور بالنشوة. أنا، كنتُ فقط أشعرُ بالدوار. وهذا ما جعلني أكثر انتباهًا لما يجري حولي. لكنّ شيئًا لم يمنعني من أقفز، كان الرقص يعني لي أن أقفز؛ فقفزت.

         عدتُ بعد جولةِ الرقص إلى المشرب، وبدأت أقرأ. كانت قصصًا عجيبة ومليئة بالمتاهات. مكتباتٌ كبيرة، مرايا وأقنعة، أناسٌ لا يموتون. فانتازيا تليق بشخصٍ مصاب بالدوار. في المقعد الذي أجلس عليه، كنت النقيض الحرفي لنقطة "الألف"، كنتُ خارج العالم، ولم أعد أعرف أين أنا، ولم أنا هنا. كان عقلي أرضًا زلقة، ولم أستطع الإمساك بشيء. في هذه اللحظة، سمعتُ صوتًا يناديني. وكما الطالبُ الخائف من وقع جهله، فركتُ يداي. بدا الصوتُ جميلًا وفيه غنج، كان صوتَ الفتاة التي لطالما راقبتها. طلبت الجلوس فهززت رأسي موافقًا، وفجأة وجدتني أقول لها: اطلبي لي شيئًا أشربه. فهزّت رأسها موافقةً هي الأخرى. بعد صمتٍ طال مدة، طلبت منّي شيئًا غريبًا؛ أن أقصّ عليها حكاية أعرفها. ولأنني قليلًا ما حفظتُ ما أقرأ، أطلتُ في الصمت. لاحظتُ أنّ جفنيها أخذا بالارتخاء، وفهمتُ هذا على أنّه دليل ضجرٍ.

***

         يلي سؤال الكتابة، سؤال النشر. يغصّ العالم اليوم بمن يملكون حكاياتٍ يصرّون على مشاركتها والعالم. ومع ظهور مصطلحاتٍ ك "التخييل الذاتي – Autofiction" بات سهلًا على دور النشر أن تحيل كلمة "سيرة" إلى "رواية" دون كبير إحساسٍ بالذنب. كان نجم وليّ الدّين يتساءل ببراءة طفلٍ "هل ينقص العالم جمالًا فيمَ لو احتفظ الكتاب بما يكتبون لأنفسهم؟"، وكان دائمًا ما يحمد الله أنّ كتّابًا كثرًا لم يفعلوا ذلك. بالنّسبة له، كان واقفًا في المنتصف – كما جرت العادة -. لكنّ ورطته كانت أكبر؛ تركَ قصته في المنتصف. أو للدقة، تركها مع بداية حدثٍ جادّ. كان البطل على وشك أن يعيش قصّة حب، الأمر الذي لم يقدّر لنجم وليّ الدّين، هو الذي يبدو من لونِ شعر رأسه أنّه شارف على الأربعين، أن يعشه. قال في نفسه: لعلّ هنا تكمن عظمة الأدب؛ أن نكتبَ قصصًا لم نعشها. لكنّ الخوف بلبله، وهو لا يحبّ ذلك.

***

         تذكّرتُ صورة ريكاردو فجأة، تمامًا كما الوحي؛ فسألتها: هل تعرفين كيف يحبّ الرّجل مثل عجل؟ ضحكت من السؤال، وهزّت رأسها نفيًا. قصصتُ عليها حكاية ريكاردو و"الطفلة الخبيثة". ريكاردو الذي اهترأت مؤخرته وهو ينتظر مكالمة من فتاةٍ لا تحبّ سوى نفسها. كنتُ أعرف أنّني اخترتُ القصّة الخطأ، وربّما لهذا السبب تحديدًا قصصتها عليها. لحظتُ يديها تتحرّكان باندفاع في الهواء، ترسمان إشارات لا روابط تجمعها. لحظتئذٍ، عرفتُ أنّ كلّ ما هو قادم سيحدث بسرعة أكبر من أن أستطيع التفكير فيه. وكما لو كنتُ نائمًا، لم أستيقظ إلّا ونحن في السّرير.

***

         يجادل آلان باديو في أنّ الحبّ الذي يقوم باللقاء الأوّل هو ليس حبًا، أو أنّه حبٌ لا يعوّل عليه. فالحبّ هو مشروعٌ وجوديٌ بين اثنين يقوم على استمراريته بينهما. فكّر نجم وليّ الدين في إمكانات قصّته الداخلية: هل لديها القدرة أن تطول أكثر؟ أن تطول حتّى يتحرّى ما إذا كان لقاؤهما بادئة حبٍ حقيقيّ، أم أنّه لم يكن سوى ترابًا تذروه الرّيح؟


         ولأنّ لا شيء يشير إلى شيء، ولأنّ لا إجابة تلوح في الأفق، قرّر أن يتوقّف، وأن ينبذ قصّته إلى مكانٍ قصيٍّ لا يقرأها فيه أحد. 

Rembrandt - The Artist in His Studio