الأحد، 18 يناير 2015

داخل الثّلج، جانب اليمّ


"وحدها الأسئلة الساذجة هي الأسئلة الهامة فعلًا. تلك الأسئلة التي تبقى دون جواب" - ميلان كونديرا. 

***

(1)

         في الشتاء، يبدو الرّيف وكأنه خارج المكان، منطقة كبيرة ومعزولة، وجدت الآن وهنا؛ جزيرة كبيرة بذاتها. الثلج بدأ باكرًا هذا العام، ما زلنا في بداية كانون الثاني. حبّاته كانت تنهمر بتدافع كما لو كانت في سباقٍ نحو قدرٍ تجهله. سألتُها عن وجهتها، وعرضت إيصالها فلم تمانع. في الطريق إلى مرآب السيارات، اصطدمت أعيننا بمنظر اسطبلٍ تخبّ مجموعة كبيرة من الخيول فيه.

         على المقعد المحاذي لمقعد السائق، كانت تتربّع رواية "بيرة في نادي البلياردو" لوجيه غالي. قبل أن أبعدها، وجدتها تمسكها بيديها. من ثمّ، بعد تقليبٍ قليل، سألتني فيما لو قرأتها، فأجبت بالإيجاب. هزّت رأسها كإيذانٍ لي بالاستمرار.

-          حلوة، حبيتها كثير.

-          بس هيك؟

-          آه، بس هيك.

-          ما شفته بيستعرض فيها؟

-              لأ ما شفته. بس فهميني كيف.

-              يعني كأنها كذبة كبيرة. كل الشخصيات بالرواية عم تدّعي أشياء مش عم بتصير. مثلًا بيحكوا عن البؤس؛ بحياتهم، بعلاقاتهم، بالبلد. بس بالمقابل كلهم ولاد بهوات، مش ترف هاد؟

-              آه يعني الموضوع صفَّى مادّي؟

-              يعني هيك شي.

         صمتّ، لم أعرف كيف أردّ. كنت سأكتفي بالقول أنّني أحبّها بلا سبب، ولا أرغب حتّى في تبرير ذلك. هي رواية جميلة ولمستني ليس أكثر. لكن ذلك كان استسلامًا لم أرده لي. عادت وأردَفَت قائلة قبل أن أفتح فمي:


-          عمومًا أنا كمان حبيت الرّواية. ثم ابتسمت.


***

(2)

         لقد أصبح كلُّ واحدٍ منّا جزيرة بحاله. يتربع فوقها، يدلّي قدميه ويناظر الجزر الأخرى. لكنّها جزرٌ لا ماء حولها، جافّةٌ كحلق الصائم. نجترّ الأيّام التي ولّت، نلهث وراء الأيام القادمة، لكنّنا نظلّ وحيدين في جزرنا، لا نتشارك إلا سماء تطوينا تحتها. أيام الجُمَع – تلك الأيام التي تقع خارج الزمان -، تجتمع العائلة الكبيرة في محاولة لملء الفراغ بين كل جزيرتين صغيرتين بالماء، لكنّ ذلك لم يحدث أبدًا، وأعرف أنّه لن يحدث. أفكّرُ، لو أنّ الإنسان الأوّل لم يندهش حين رأى النّار أوّل مرة، لربما لم تتمحور حيواتنا حول الأكل والشّرب. لربّما وجدنا أشياء أخرى نملأ فيها أوقات فراغنا.

-          شاي؟ صوتٌ ناعمٌ أعادني للجلسة. كنت مشوّشًا فلم أتبيّنه. يكرّر "بدك شاي؟".
-          لأ شكرًا، ما بدّي. أُجيب.

         لم أكن سريع البديهة يومًا، لذا لطالما دقّقتُ فيمَ يخرجُ عنّي من كلمات. هذه المرّة أحسست أنّني فظٌّ، لكن دون أن يصل الأمر إلى الاعتذار، كان ذلك ليبدو سذاجةً منّي. لا يهم، إذ لا يبدو أنّها تلقي بالًا من الأساس. أحاول جاهدًا، أن أركز سمعي اتجاه الحديث الدائر، لفترة أتمكّن من ذلك. "بعد فترة من هالعيشة بالبلد، الإشي الوحيد اللي لازم نتفق عليه، إنّه البلد بخير". هذا عمّي يعلّق على برنامجٍ عن معتقلي الرأي في مصر، يعرض على قناة الجزيرة. عمّي ذاته، زعلَ حين لم تعيطه الحكومة منصبًا رفيعًا كان موعودًا به ولوّح باستقالته. لا داعي للقول أنّه لم يفعل. جدتي تهزّ رأسها موافقة إياه؛ جدّتي تهزّ رأسها دائمًا.

         ألتفت إلى الفتاة التي لا أعلم عنها شيئًا، أحاول أن أتذكّر صوتها، فلا أستطيع. وهي لم تسعف محاولاتي كذلك؛ فلم تشترك بالحوار. أفكّر فيما لو كانت جزيرتها صغيرة مثل جزيرتي، أو أنّها تعلم أن مصير هذا الهراء إلى سلّة المهملات. تعليقٌ واحدٌ كان كافيًا ليخرجني من تركيزي. والآن، دون أن أشعر، انزلقت إلى تتبّع مريبٍ لكلّ حركة تقوم بها. أفكّر هل كان شيئًا في مظهرها ما جذبني أم هو شعرها القصير، بخصلاته التي تنزلق على عينيها كلما حاولت تعليقه فوق أذنيها؟. كان إعجابًا غريبًا، حاولت طوال حياتي أن أظلّ بعيدًا عنه. كان شيئًا كالغيب، قاومت كي لا أؤمن به، لكنّه لم ينفك يحوّطني، يسيّرني، يجعلني أفعل أشياءً دون أن أعرف السبب وراء ذلك.

-          عمّو أنا آسفة، لازم أروّح، بشوفكم انت وخالتو قريبًا. 

إذن فقد جاءت مع عمّي ذي الفم المليء بالهراء، وها هي تغادر وحدها الآن. 
-          وأنا اسمحولي يا جماعة برضه.

***

(3)


         بعد لحظات من انطلاقنا بالسيارة، أصبح انهمار الثلج أكثر غزارة. كان حمّامًا من الثلج ينزل كالسّوط على جسد السيارة. مزيحات الثلج لم تستطع منع تراكمه على الزّجاج. لكنّنا تمكنّا من التقدّم ببطء. شيءٌ ما في الأفق، كان ينبئ بالسّوء، شيءٌ كالغيب أيضًا.

-          ليش الأسود؟
-          عفوًا؟
-          قصدي ليش لابسة أسود؟ حدا ميّت؟
-          لأ. كان ممكن ألبس أي لون تاني. عادي يعني.

         كنّا نتقدّم ببطء، حين بدأت آذاننا تدقّ كالأجراس. السّماء تلبّدت بغيومٍ سوداء، ولم يعد للنّور مطرح. بعد لحظات بدأت أرجل السّيارة تفقد البوصلة. كنّا قريبَيْن من البيت بما يكفي كي نترك السّيارة ونعود أدراجنا راجلين. لم نحتج كي نتفق إلى أكثر من النظر. فتحت هي الباب أولًا، وحينها دقّت الأجراس بالفعل. هجومٌ شرس من أحصنة هائجة على جانبيّ السيارة. تمكّنَت من إغلاق الباب قبل أن ينخلع. عيونٌ واسعة تنظر للحظات من النوافذ صوبنا، وتكمل ركضها الغاضب تجاه شيء لا نعرفه. أصوات اصطدامها بالسيارة تخرم قلوبنا قبل آذاننا. ازدردت ريقي أكثر من مرّة ولم أتحدّث لفترة. كنت فقط أفكّر في أعداد تلك الأحصنة.

-          إيش اسمك؟
-          مش فاهمة!.
-          اسمك، ما بعرفه. فبسألك عنه.
-          يمّ، اسمي يمّ.

         طفت ذكريات - حاولت محوها قدر استطاعتي في السابق - إلى ذاكرتي؛ . ما الذي يمكن فعله إزاء حياة لم تنحو المنحى الذي أرتجيه، ومع ذلك عشتها بإرادة كاملة في مثل هذه اللحظة الفارقة؟ مع ذلك، حاولت أن أركّز على ما سأفعل الآن. الآن فقط هو ما يهمّ. التفتّ إليها، وقلت أنّني معجبٌ بها. وكما لو أنّها أرادت إيذائي، ابتسمت، دون أن تضيف شيئًا آخر. قلت لها كيف فكّرت فيها منذ اللحظة الأولى التي رأيتها فيها، إلى أن دخلنا السّيارة. كانت تنصت باهتمامٍ بادٍ، لمحت ذلك في عينيها. لكنّها، مع ذلك لم تفه بشيء. لم ألحظ إلا متأخرًا أنّ جبهتها كانت تتفصّد عرقًا، وأنّها تحاول كتمان خوفها لا أكثر. كلانا كنا نرتعش خوفًا، وكلانا تصرّف على طبيعته، ربّما لأول مرّة في حياتنا، حياتي أنا على الأقل.

***

(4)

         ضربات قوية على النافذة، صوت أعرفه يصرخ: "فيكم اشي، صارلكم اشي؟". أنظر إلى الساعة، وألحظ النقلة الزمنية الكبيرة، يبدو أننا قضينا وقتًا طويلًا عالقَيْن هنا. نظرت إلى "يمّ"، كانت نائمة، وما زال هلعٌ بلونٍ رماديٍ يعلو وجهها. صوت تنفسها وشى بذلك أيضًا. أخرجونا بعد لأيٍ من باطن الأرض، وأرجعونا إلى بيت جدّي. جلسنا نحن الاثنان جوار المدفأة، ولم ننبس ببنت شفة. مرّ الوقت ثقيلًا كما يمرّ أثناء فيلمٍ رديء من أيام الأبيض والأسود. حلقي كان جافًا، وحين وصلت المطبخ لأشرب الماء، سمعتُ صوتها وهي تسأل:

-          كان في أحصنة كتير بتركض، إيش صار فيهم؟
-          ظلوا يركضوا لخبطوا بحيط مزرعة جارنا، وكلهم ماتوا جنب بعض.



Snow Effect by Claude Monet