الثلاثاء، 19 أغسطس 2014

كفافيس يرحل من جديد


الإسكندرية
1:00 مساءً

             في الترام الموصل لمحطة الرّمل، يوم الإثنين 18-8، كان يجلس قسطنطين كفافيس إلى جوار نافذة الترام. لم يعر هاتفه الذي يرنّ منذ الصباح أي انتباه، هو يعلم أنّه سينجوبوليس يريد أن يطمئنّ عليه. لم يكن سبب تجاهله إيّاه هو صوته الذي بدأ يتلاشى كقصيدة عبرت في البال دون أن تتوقّف، لكنّه كان مشغولًا بطفلٍ يجلس قبالته، ويبكي على حضنِ أمّه راجيًا إياها أن يذهبا للبحر. أدهشه صغر سنّ الأم، كانت ضئيلة إلى حدٍ لم يفهم معه كيف يمكن أن ينبثق من جوفها وجودٌ آخر. نظر إلى ساعته، ثمّ عدّل من جلسته: ما يزال ثمّة وقت.

***

الإسكدريّة
10:00 صباحًا

             "قسطنطين، الإثنين القادم ستتغدّى عندي في الدكان، تمامًا كما كنت تفعل عندما كانت ماما كريستينا على قيد الحياة" خرج كفافيس من البيت باكرًا ذلك اليوم، ليزور أحد المعارف في سبورتنغ أولًا، من ثمّ ليلبي دعوة ألخيس ماسيوس "برويدروس / الرّيّس" كما يحبّ أن يدعى، صاحب مطعم "إيليت" القائم في شارع صفية زغلول / محطة الرمل. ألخيس هو مدّعٍ يوناني أصيل. كلّما زرته، يجلس معي يحدّثني عن منزلهم في كريت، يقول أنه يتذكر جيدًا نيكوس كازانتزاكيس الذي كان أشبه بأسطورة تمشي على قدمين في كريت. كنت أعرف أنه يكذب، فزيارته الأولى لكريت كانت وهو في العاشرة من عمره، وحينها كان كازانتزاكيس قد مات. لكنّني لم أخبره بذلك قط؛ عليك أن تستمع له وهو يتكلّم كي تفهم لماذا لم أفعل. كان شخصيّة أثرية، ببطنه الّتي تشعر بأنها ستسقط حالما يخلع قميصه، وفمه المجوّف كمغارة، ويديه اللتين يلوّح بهما كما لو كان يكتب على الهواء. في هذه اللحظة خطر لي بأنه شخصيّة هاربة من أحد روايات كازانتاكيس، فابتسمت من تلقاء نفسي.

             في الحقيقة، لم أكن لألبي الدعوة لولا أنني قرّرت ترك هذه المدينة، العيش لم يعد سهلًا هنا بعد كلّ التبدّلات التي طرأت والّتي ستطرأ على الحياة والنّاس. في حياتي كثيرًا ما انتظرت إشارة ما لأقدم على عملٍ يشقّ عليّ القيام به، لكن الإشارات هنا باتت أكثر وضوحًا من ألّا ترصدها العين المجرّدة. افتح نافذتك، وانظر إلى شاطئ البحر المتّسخ؛ ناقش بائع بقالةٍ في أمرٍ سياسيّ؛ انشر قصيدة عن خراب المدينة الجميلة. كان شيئًا بدهيًا أن أنعت بالـ "يوناني" كدعوة للتنحي جانبًا وعدم التدخّل فيما لا يعنيني، أو أن أتعرّض لابتزازات عديدة، قد تحصل تلك الأمور في أي مكانٍ آخر في العالم، وكنت سأحتملها كما كنت أفعل دائمًا. لكن، ما تحت الشّمس لم يعد إطلاقًا كما كان. هناك شيء قد تغيّر لا يمكن لأحدنا أن يصفه على حقيقته، لكن يمكنك الشعور به، شيء أشبه بوحشيّة باتت تسيطر على الناس، الرّغبة في نهش لحمك وتركك عظامًا، فقط انظر إلى أعين الناس وستفهم وحدك. حين نقلت لسينجوبوليس ما أشعر به، قال لي: لا بدّ أنّ البرابرة قد وصلوا، ثمّ سكت. فكّرت كثيرًا في جوابه ذاك، وما كان منّي إلا أن ألملم ما تبقّى من هذه المدينة فيّ وأغادر.

***

الإسكندرية
1:00 مساءً

             كلّما ركبت في التّرام، أشعر أنّني أعود في الزّمن إلى الوراء، وأنني حين ألتفت لأنظر من النافذة سأشاهد كلّ شيء بالأبيض والأسود. لكن ذلك يتلاشى بمجرّد أن ينطلق الترام، وتنطلق معه صفارته التي تحزّ الهواء بصوتها. كلّ شيء يتضخّم هنا، وحين تنظر إلى كمّ البشر المرتحلين على متن هذا الترام الصغير، تخاله يكاد ينفجر. أعداد كثيرة تتنقّل، كأنما الإسكندريّة كلّها حشرت في هذه العربة.

             من سبورتنغ حتّى محطّة الرّمل، هناك عشر محطّات، ولا أملك لقتل الوقت إلّا التّمعّن في وجوه النّاس. بجانب مقعدي، كان يقف شابّ نحيل، عرفت أنّه طالب من الكتب التي يحملها في يده. بجواره شابٌ آخر، يسأله أين كان، فيجيب أنّه كان عند صديقٍ آخر في سيدي جابر للدراسة، فالكهرباء في بيته لا تأتي إلا شطرًا من الليل. في مكانٍ آخر، عجوزٌ كفيف يطلب مقعدًا من الجالسين، داعيًا لمن سيجلسه بالأمن والسلامة. لكن لا أحد يجلسه، ويظلّ العجوز متشبثًا بفراغٍ ضئيل على المقبض العلوي. رغبت في إجلاسه مكاني، لكنّني كنت بعيدًا، ولا مجال للقيام بذلك دون المخاطرة بالوقوف باقي الطريق.

             توقّف التّرام أكثر من مرّة، وفي كلّ محطّة، تتدفّق أعداد جديدة داخل هذه الكبسولة البشريّة. يزداد الصخب مع مرور الوقت: صرير العجلات، كلام النّاس غير المفهوم كثيرًا بالنسبة لي، مضافًا إليها رائحة عرقٍ كثيفة. شكّل كلّ ذلك ما يشبه الغلالة على عينيّ، فكأنّما استدرجتُ إلى نومٍ عميق.

***

             في عرض البحر، يلوح شبح شخصٍ يغرق. أقترب من الشاطئ، لأجد مجموعة من عشرة أشخاصٍ يتحلقون حول الشاطئ ويضحكون، كما لو أنهم يشاهدون فيلمًا كوميديًا. لم أعرف ماذا أفعل، فأنا لا أجيد السباحة، كنت بحاجة للتأكد ممّا أرى، فلبستُ نظارتيّ. ما رأيته كان فظيعًا، الغريق كفيفٌ، لم يكن صعبًا الحدسُ بذلك، فحركات يديه تؤكدان ذلك. استمرّت الضحكات في الارتفاع واستمرّ معها عجزي. من ثمّ، وفجأةً، انقطع أمل الرجل، هناك على حافّة الشاطئ وسط البحر.

***

الإسكندريّة
1:45 مساءً

             أيقظني من نومي صوت صراخ، كان أحد الركّاب يصيح بسائق التّرام: "وقّفت ليه؟". فيقسم الرّجل أن لا دخل له: "بصّ حوليك، الكهربا قطعت عن الشّارع كلّه". لكنّ الشّمس كانت كثيفة تلك الظهيرة، ولم يظهر في القريب أيّ علامة لانقطاع الكهرباء. هدأت سورة الغضب تلك، لكن وجه الراكب لم يشي بأنه اقتنع. سمعته يقول بعد لحظات: "وبعدين مع العيشة دي، لإمتى يا رب حنفضل تحت رحمة الكهربا!". نظرت إلى ساعتي، وكانت تقترب شيئًا فشيئًا من الساعة الثانية: موعدي مع ألخيس.

             كان كلّ شيء كما تركته قبل نومي، الرّجل الكفيف، يأن في مكانه بصمت، ويده اليمنى معلّقة على المقبض كما لو كانت مكسورة. الشّاب النّحيل يتنهّد، ويخاطب من بجواره: "كان فاضل محطّة عن الجامعة، شكله الامتحان ضاع يا معلّم". من النّاحية الأخرى، يطلّ البحر علينا بوجهٍ محايد، وبين الفينة والأخرى أسمع صوت الضحكات التي سمعتها في نومي تتعالى، حتّى لم يعد شيئًا مسموعًا سواها. 



(بورتريه لكفافيس - الرّسّام غير معروف)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




  • قسطنطين كفافيس بإيجاز، هو شاعر يوناني، عاش ومات في الإسكندريّة (1863 - 1933). 
  • قصيدة المدينة لكفافيس 
  • القصة في الأساس مستوحاة من واقعة حقيقية: انقطاع التيار الكهربائي عن ترام الإسكندريّة
  • هناك تعليقان (2):

    1. من زمان وانا نفسي اكتب قصة تدور احداثها في مصر واتلهف لقراءة القصص المصرية وهذه القصة مكتوبة جدا ببراعة، جدا لطيفة، يعني قراتها 3 مرات ورا بعض بالراحة.. ولم تزعجني الشخصيات اليونانية بالعكس حسيتها لفتة مختلفة في القصة المصرية لأنه عند حد معين بتصفي كل القصص زي بعضها.. موفق جدا واكتب كتير زي هاي القصص :D

      ردحذف
    2. شكرًا للغاية كوثر على الكلام الجميل.. بالنسبة للشخصيات اليونانية فيمكن المبرر الوحيد لاستخدامهم إنه القصة بتدور بالإسكندريّة، لو بمكان ثاني كان رح يكون في اشي غلط..

      وبانتظار أي اشي بتكتبيه عن الموضوع :)

      ردحذف