عن الحب، عن الحرب على
الشعب والحرب المضادة، عن الصداقة، عن القراءة والكتابة، عن المهمشين، عن كل
الثنائيات والثلاثيات والرباعيات والمجاميع الجميلة في هذه الحياة. أيعقل أن يحتوي
فيلم واحد كل تلك المضامين؟ أي كاتب ذاك الذي تتقد مخيلته بكل تلك العبقرية؟ وأي
مخرج ذاك الذي تكفل بأن يحول كلماته إلى جنة بصرية؟ كثيرًا ما أسأل نفسي ما جدوى
مشاركة أفكارنا مع الآخرين؟ ألا يعقل أن يفكر أحدهم بفكرة عبقرية، ويكتفي
بمشاركتها مع نفسه كأن يكتب أحدهم رواية ما، ثم يركنها على الرف وهو في قمة السرور
لعدم نشرها.. دون أينقص ذلك من كم الجمال الذي من شأنها إضافته للعالم؟ رغم أنني
أؤمن باحتمالية حصول ذلك، إلا أني لم أكن لأفضل أن يتعنت "باسكال
مرسييه" و"يصمد" روايته على الرف.
***
منذ البداية، كل شيء
يوحي بأن "رايموند جريجوريوس" ما هو إلا شخص عادي، كأحد أحجار لعبة
الشطرنج التي يلعبها وحده!. أستاذ مدرسي خمسيني، ذو شعر فاتن، يدرّس الفلسفة،
يقابل وهو في طريقه إلى عمله شابة تهم بالانتحار من أعلى جسر معلّق. تظل مسمّرة
مكانها ليأتي وينقذها (تقاطع قدري منتظر لبناء حكاية ما). كما تظهر، تعود وتختفي
مجددًا مخلفة وراءها معطفًا، وكتابًا، والكثير من الحيوات التي بحاجة إلى نفض
الغبار عن سطحها المثقل.
كتاب مذكرات عادي، كان
يمكن أن يكتبه أي معاصر لفترة حكم الديكتاتور سالازار في البرتغال. لكن شيئًا ما
فيه لامس قلب "رايموند" فيقرر أن يخوض التجربة؛ بحثًا عن ذاته التي
نسيها مع طلابه أولًا - في مكان ما يقول: "أعداد كبيرة من الطلبة تتغير كل عام؛ لذا أحاول ألّا
أتعلق بهم" -، ثم بحثًا عن الكائنات التي حواها الكتاب. كاتب المذكرات
"أماديو برادو" طبيب ومعارض. مات ولم يترك وراءه الكثير ليقال إلا هذا
الكتاب؛ الذي يشكل البوصلة الوحيدة التي بإمكانها التدليل عليه. ومنه يبدأ
"رايموند" بفضول غريب تقفي أثره وأثر كل المذكورين بالكتاب، ليجمع قطع
الأحجية شيئًا فشيئًا ويفهم لماذا أرادت فتاة الجسر بالانتحار.
***
عادة عندما أكتب عن شيء
أعجبني، أشعر بالمسؤولية تجاه القراء المفترضين (لا أتوقع وجودهم بأية حال)؛ فأسهب
بالكلام حتى عن أدق التفاصيل. حتى أشعر بأنني لو كنت ذلك القارئ المجهول سوف أفهم ما
كتبت بسهولة. لكنني – ولأول مرة – أتحرر من ذلك الشعور بالمسؤولية، إذ أرغب بأن
أكون أنانيًا وأتفرد بكل ذلك الجمال الذي يكتنز به هذا الفيلم: طُرُقات لشبونة،
البحر الذي كلما تشابه مظهره زاد جمالًا مع اختلاف المكان، الموسيقى، ثنائية الحرب
والحب، التي كلما طرحت في الأعمال الفنية سواء المكتوبة أم المرئية أكثر فأكثر
كلما زادت بهاءً. تلك الجملة التي يقولها "رايمومند" متحدثًا عن
طليقته: "أعتقد أنها تركتني لأنها - (صمت هنا) – لأنها وجدتني مملًا". عن
قول الطبيبة "ماريانا" له: رايموند، أنت لست مملًا. عن الصمت الذي أعقب
طلبها منه البقاء في لشبونة قبل أن يهم بالعودة إلى سويسرا (مكان عمله).
***
سمعت مرة جملة لا أعلم
قائلها اليوم: "أخشى أن تصبح الحرب شيئًا مرغوبًا". لكنني أجد نفسي
منساقًا للقول بأن الحرب شيء فاتن، إذ لها القدرة على استنباع الجمال من القذارة.
كيف للموت أن يكون جميلًا إلا حينما تصوغه يدا روائي بارع؟ أو سينمائي عبقري؟ أنا
أقولها – ربما من دون كامل وعي – أنني مع الحرب لو كانت ستأتينا بهكذا جمال، أنا
معها لو أنها ستعيد صياغة مفاهيمنا للحب، للحياة، لشغفنا تجاه أبسط الأشياء، لشهقتنا
حين نشاهد مناظر الدم العبثية في كل مكان. أنا معها لو كانت الحل الوحيد لنستعيد
إنسانيتنا / لأنسنة الحيوان الذي صرناه (مع الاعتذار والاحتفاظ بأصالة التسمية
لممدوح عدوان).
لطالما آمنت بالتفاصيل،
فكم من فكرة عبقرية هُمشت بقلة التفاصيل الفارقة، وعلى النقيض؛ كم من فكرة مكرورة
باتت برّاقة بتفاصيلها. من بين كل شياطين العالم لا أعشق إلا شيطان التفاصيل؛
فإغواؤه أشد أثرًا من إغواء القفز بمظلّة (التي – للمناسبة – لم أجربها).
يسعدني القول أن كلًا من
الكاتب (باسكال مرسييه) والمخرج (بيلي أوغست) كانا عظيمين بالقدر الكافي لإنتاج
فيلم هائل. ويجب أن أذكر أنني في غاية الامتنان لعدم انسياق الحكاية وراء
البوليسية التجارية، ولا وراء البهرجة الصورية غير المجدية، وممتن أخيرًا لأنني
شاهدت فيلمًا بنهاية مفتوحة غير سعيدة.
5:45 صباحًا
12-12-2013
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط موسيقى الفيلم الهائلة على اليوتيوب من هنا
رابط موسيقى الفيلم الهائلة على اليوتيوب من هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق