الأربعاء، 30 أكتوبر 2013

للواقع وجهٌ آخر


10 تشرين الأول 2011 – التاسعة صباحًا

               في الصالة الفسيحة، حيث كانت الكنبة تقابل التلفاز، وحيث كان هو يمشي بينهما رائحًا مرة، وعائدًا مرة أخرى. المشهد يتكرر مرارًا كشريط لا يحوي سوى أغنية واحدة، الأصابع تتشابك أحيانًا، تمسح عرقًا لا وجود له على جبهته أحيانًا أخرى. خارج المكان، كان المطر يمتد حبلًا طويلًا رقيقًا، ضاربًا على زجاج النافذة بنعومة أنثى. يناظر ساعته. "قليلًا من الانتظار لن يضرّ" يقول لنفسه. ثم يستطرد في التفكير – كي لا يعييه الانتظار – مستعيدًا في ذهنه ما قاله يومًا: ".. قال السّفينة مرَّت.. تأخَّرت.. خذ موعداً آخر وخذ مقعداً وانتظر.. انتظر ربما بعد وقت قصيرٍ تمرّ السفينة.. هذه السفينة أو ربما تمر سواها..".

               "أي سفينة تلك التي كنت أنتظرها، أي سفر ممضٍّ هذا الذي أزعم أني فاعله. لتذهب الجوائز إلى الجحيم، أنا شاعر عصري، ولا حاجة لي باعترافهم المزيّف".ادّعى أدونيس يومًا، في أحد المقابلات التلفزيونية أنه لم ولن يفكر في جائزة نوبل، لكن الشعراء كاذبون، وملعونون كما قال فيرلين. جائزة نوبل، كانت وستظل أمل كل الكتّاب المحترفين، وإن لم يعترفوا بذلك.

               لم يَطُل مشيه الذي كان يبدوا لا منتهيًا، جلس على الكنبة، كان متعبًا وكأنه يحمل سنوات عمره الثمانين على كتفيه. أشعل التلفاز بلا اهتمام، وتركه مفتوحًا على قناة لم يتبيّن اسمها. "علي، الفطور جاهز" كان ذلك صوت خالدة سعيد، زوجة علي أحمد سعيد (أدونيس). استيقظت يومها باكرًا على غير عادتها، ضربات قلبها أسرع من ضربات قلبه، كانت تعلم مدى صعوبة الانتظار، خصوصًا في يومٍ كهذا، فاستيقظت باكرًا كي تشعره بأنه ليس وحيدًا، فالانتظار مع الآخرين يبعد تلك اللحظات التي تشعر معها أنك أقرب إلى الجنون. جلس على الطاولة وإياها، تناولا طعامهما صامتين، كصخرتين على شاطئ المحيط. كل المواضيع كانت ستفضي إلى الحديث عن الجائزة، لذا لم تفتح فمها قط، ولم يفعل هو كذلك أيضًا.

***

               هل فكر الرؤساء وهم أطفال، بأنهم سيصبحون هكذا يومًا؟ هل فكر العلماء، الموسيقيون، الكتاب، لاعبو كرة القدم، اللصوص، والمتسولون؟ كل أولئك هل فكروا بأنهم سيصبحون هكذا في خريف عمرهم؟ هل فكّر أدونيس بذلك؟ كان في الثالثة عشر يومها، يرشح ماءً، وهو يتوسّل أن يلقي قصيدته أمام شكري القوتلي – رئيس الجمهوريّة السّورية آنذاك - / تلك القصيدة المفتاح. فيما بعد، عندما سئل عن هدفه من وراء ما فعل، ظلّ يردد "فعلت ذلك كي أتعلّم" فتعلّم.

***

الحادية عشر صباحًا - ذات اليوم 

               الذّاكرة، خطيئتنا الكبرى، بدأت تنهشه، حياته تمرّ أمامه كما لو أنّه سيموت بعد لحظة. أخرج دفتره الذي لا يفارقه من جيب البنطال، وقلمه من جيب القميص، وبدأ يكتب:

"أتهجَّى نجمةً أرسمُها 
هاربًا من وطني في وطني
 
أتهجَّى نجمة يرسمها
 
في خطى أيامه المنهزمه

يا رماد الكلمه
 
هل لتاريخيَ في ليلك طفلٌ؟"


               هراء، كل الكلام الآن هراء، أطاح بالدفتر بقفا يده اليمنى، ضرب الطاولة باليد الأخرى، ثم ارتدى معطفه وخرج. المطر وحده قادر على أن يغسل خطايانا، يد المطر أمّ حانية. تمنى لو أن أحمد سعيد (والده) ما زال حيًا، ذلك الرجل الذي لم تربطه مع ابنه علاقة أبوة، بل علاقة صداقة، ليمشي معه في شوارع باريس، قدمًا بقدم، كتفًا بكتف كأنهما رجل واحد، لكن.. لا أحد.

               ولأنه لا أحد هنالك، قرر أن يركب "الميترو". حشود الناس، وجوههم الكثيرة ستنسيه جحيم أفكاره، وإن قليلًا. استقل القطار في محطة "La Defense"، لم يقرر وجهته بعد. أن يركب، ويجد مقعدًا مريحًا،  كان كل ما يطمح إليه في تلك اللحظة. حيوات كثيرة ترجّلت عند كل محطة، وأخرى صعدت؛ عجوز يقرأ رواية سمرقند لأمين معلوف، في عينيه تساؤلات كثيرة عن ذلك الشرق المليء بالسحر. فتاة تضع الأقراط في كل وجهها تسمع موسيقى صاخبة. شابّ حسن المظهر، يبدو أنه ذاهب لموعد عمل. وأنا.. "هاربٌ من وطني في وطني". إلهي، أنت الذي لا أؤمن بك، أجبني، هل أستطيع ذلك؟

               وصل القطار إلى محطّة " Porte De Vincennes "، ترجّل، ثمّ مشى خطوات ثابتة نحو حديقة "Bois De Vincennes" القريبة، ببحيرتها التي تشبه وجه الملائكة. عظامه لم تساعده على المشي طويلًا، فجلس على مقعدٍ محاذٍ للبحيرة، يراقب البجع يسبح؛ الأم في المقدمة، وأبناؤها وراءها كالعسكر.

***

الثانية عشر – منتصف النّهار - ذات اليوم

               مرّ الوقت بسرعة كبيرة، كان عقله مشوّشًا، ولم يستطع التركيز على شيء في البداية، ثمّ تذكّر أنّه أحضر معه ديوانًا أهداه إياه أحد الأصدقاء في أمسية شعريّة: "أنا أعلم أن ذائقتك صعبة، ولا شيء يعجبك، لذا كنت دقيقًا في اختياري، اقرأ هذه القصائد.. أنتظر اتصالك كي تشكرني". على الغلاف، تتربع هذه الكلمات "Selected Poems  1954 – 1986" وأعلى هذه الكلمات، كان اسم الشاعر بحروف أكبر "توماس ترانسترومر". قرأ كثيرًا، قرأ حد الثمالة، ولو أنه حمل هاتفه معه، لاتصل فورًا بذلك الصديق الجميل الذي أهداه هذا الديوان ليشكره كما أراد.

***

الثانية عشر – منتصف النّهار – ذات اللحظة

               في الشق الشمالي من الكرة الأرضية، في بلاد الشمس التي لا تغيب / السويد. كان رجل أربعيني أصلع يعتلي منصّة وبيده مغلّف صغير. العيون الجاحظة، وأجهزة الهاتف وعدسات الكاميرات المتأهبة والكثير من الترقب والشغف لسماع كلمات ذلك الرجل. فتح المغلف، ثم قرأ ببطء ووضوح: "الفائز بجائزة نوبل للعام 2011، الشاعر السويدي توماس ترانسترومر" ثم أكمل "لأنه من خلال صور مركّزة وواضحة، يعطينا منفذًا جديدًا على الواقع".



                                                       (بحيرة Bois De Vincennes)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق