في ذلك اليوم البعيد
الآن ابتدأ كل شيء، قبل ثلاثين سنة ربما. تتخذ الفظاعة أشكالًا كثيرة لدى البشر؛
إلا أن القطط كانت وستظل هي الشكل الأكثر ظلامًا لهذا العالم في مخيلتي. تلك الكائنات
الممسوخة؛ التي لا يحضرني حينما أحاول استحضار شكلها سوى أذنيها الغبيتين وذيلها
الذي نبت لها لخطيئة لا بد أنها اقترفتها يومًا ما. في ذلك اليوم كنت عائدًا إلى
البيت، وفي يدي كيس من البيض، كنت طفلا حينها. لم أكن أعلم أن الهواجس دائمًا ما
تختبئ عند المنعطفات، لذا سرت بكل تؤدة، قبل أن أدخل ذلك الشارع. لنفترض أنني كنت
أسير على الطرف الأيسر من الشارع، وعلى الطرف الآخر منه كان هناك جدار، أسفل
الجدار كان هناك قطة (أو ربما قط لا أدري).
حدجني ذلك الشيء بنظرة
توقف عندها الزمن بضع ثوانٍ. حاولت أن أهشه بقدمي علّه يتذكر أنه مجرد قط سمين،
إلا أنه ظل واقفا هناك كسارية. حاولت التحدث بلغته التي ظننت لحمقي أنني أتقنها:
ميااااااااو (إن كان ما قلته له معنى في عالم القطط، فأجزم الآن بأنني قد سببته).
ظل واقفا يناظرني بغضب. وفي لحظة ما التمع في ذهني الصغير الحل؛ رميت كيس البيض
ورائي، وانطلقت كالسهم لا أقصد إلا البيت الذي لم يكن يبعد أكثر من عشر خطوات!.
***
منذ ذلك اليوم دخل عالم
القطط في حياتي، وإلى الأبد. بدأت أحلم أحيانًا، بقط سمين، له عينا صقر علمت فيما
بعد أنه يدعى الهيمالاي ينظر تجاهي. وأحيانًا بقطٍ يتلمظ، وما أن ينقض علي حتى
أستيقظ. كان ذاك هو الرعب الحقيقي، كنت أستيقظ مبتلًا من شدة العرق كأني قد ركضت ملعب
كرة قدم. أخذني والداي إلى الطبيب النفسي أكثر من مرة، كان يصف لي أدوية مهدئة
تجعلني أنام أكثر، فأحلم بمزيد من القطط. أحببت فتاة في سن المراهقة، اكتشفت في
اليوم الثاني لإعلاني حبي لها بأنها مهووسة بالقطط، أغلقت هاتفي وتحولت إلى فراغ
كبير حتى لا تجدني من خلاله؛ وهذا ما حصل. فيما بعد اكتشفت بأنها قد تزوجت من طبيب
بيطريّ.
أفكر الآن بأنه لو كان
لي قلب حقيقيّ، لأطلقت النار على كل قطط العالم وأعلنت خلاص البشرية منها. فكرت
كثيرًا في حل مجدي لهذه المعضلة، ولم أجد سوى الهدنة حلا مع هذه الكائنات اللزجة.
في الشارع الذي أسكن فيه، هناك قطعة أرض واسعة لا مبانٍ فيها، استفسرت عن صاحبها
واشتريت الأرض منه. رتبت المكان بما يلائم معيشة قطط الحيّ، والأحياء المجاورة
جميعها. كان ينتابني القرف لمجرد لرؤيتي إحداها تتقافز أمامي؛ فبنيت عالمًا خاصًا بها وحدها، حتى
أضمن سلامة المشهد البصري.
***
طوال عمري لم أختبر
المشاعر المتطرفة، حياتي بأكملها تتراوح بين الهدوء والعصبية الآنيّة. سمعت كثيرًا
عن أناسٍ يقتلون شخصًا ما، قد يكون أنفسهم فقط لشعورهم بالرغبة بالقتل، عن أناسٍ
ينهارون عصبيًا لحدث ما، عن أشخاصٍ فقدوا مشاعرهم تجاه كل شيء، عشاق ينحلون، آخرون
يسمنون. بالنسبة لي، كان كل ذلك غريبًا عني، كنت أكثر شخصٍ طبيعيٍ قابلته في
حياتي.
بعد عدة أشهر كانت كافية
لأنسى شكل القطط فيها، وبعد انتهاء يوم عملٍ شاق، هممت بالعودة. عند الانعطافة
الأخيرة صوب المنزل، كان هناك كائنًا لم أعرفه جالسًا على عتبة بابي. أول ما لاحظته فيه هو أذنيه الغبيتين، وذيله الذي لا بدّ أنه نبت له لخطيئة اقترفها يومًا ما. سرت موجة اشمئزاز في
بدني. ركضت إلى المنزل بلا شعور، كأنما كنت أحدًا آخر. تناولت المسدس من درج
المكتب دونما كثير تفكير، وأفرغت 3 رصاصاتٍ في رأسه. شعرت بالرضا لقيامي بذلك،
فرؤيته كانت كصوت ناشز في السيمفونية التاسعة - الحركة الرابعة لبيتهوفِن.
كان ذلك آخر يومٍ أرى
فيه ذلك الكائن الغريب في حياتي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق