الثلاثاء، 23 أبريل 2013

قراءة في رواية اللوح الأزرق.. جيلبيرت سينويه


         
          جاءت الرواية للكاتب الفرنسي جيلبيرت سينويه عن دار الجمل، بترجمة آدم فتحي. قبل الغوص في الكلام عن الرواية سأوجز بالقول أنها تتحدث عن لوح فيه رسالة من الله (إله المسلمين)، أو الرب (إله المسيحيين)، أو إلوهيم (إله اليهود)؛ فيها الدليل الدامغ على وجوده. اللوح مخبأ في مكان ما. إذ يبدأ الثلاثي "الشيخ ابن سراج" و "الحبر صموئيل عزرا" و "الراهب رافائيل فارغاس" في رحلتهم للبحث عن ذلك الفردوس الأرضي من خلال محاولة فك ثماني شفرات خبأها حامي اللوح "ابن برول" . الرواية كبيرة، من كافة الجوانب سواء على المستوى المادّي من حيث عدد صفحاتها الـ 564 صفحة، أم على المستوى المجازي المتمثّل بما ترمي إليه الرواية من تقارب مرجوّ بين معتنقي الديانات السماوية الثلاث. أجد أنّ أفضل وسيلة لتفكيك هذا البناء الروائي الضخم هو تقسيمه إلى حيثياته الأولية، بحيث تسهل الرؤية علينا كقرّاء.


-          الزمان:

          
أواخر القرن الخامس عشر، زمن محاكم التفتيش، الأندلس - أو ما تبقّى من أشياء كانت تدعى الأندلس-(إسبانيا).

-          المكان:

          ربما يكون من الإجحاف محاكمة الرواية بناء على معايير مسبقة، فأن تقرأ عددًا من الروايات التي تستند على التاريخ في بنائها للنص، وتجد وصفًا بديعًا للمكان، لا يخوّلك لأن تعمّم ذلك على باقي الروايات التي تنتهج ذات المسلك. سأقول من باب الموضوعية، بأن النص افتقر للإبداع المكاني، الصورة كانت باهتة ومشوّشة، لا شيء يميّز إسبانيا (بقايا الأندلس)، ورغم أن النّص اعتمد كثيرًا على الشكل المعماري، خاصّة في الأبراج التي خبّأ فيها "ابن برول" شيفرة ما، إلّا أن خيال سينويه لم يسعفه ليوصل الصورة كاملة. لكن، لنتوقّف قليلًا، ولنعطِ كل ذي حق حقّه، هل هذا ما أراده سينويه؟ هل كان يشغله المكان حقيقة؟ أرى أنه أبعد ما يكون عن الانشغال المكاني، فقد سخّر كافّة أدواته لخدمة الحدث الأكبر، اللّوح الذي يضمّ الحكمة اللانهائية. وهذا ما قد يدفعنا لنتجاوز – غير منزعجين – عن ضعف الصورة، إلى عمق الغاية.

- الأشخاص:

          
يفاجئنا النّص منذ صفحاته الأولى، بأحد أبشع الأحداث التي ستظل وصمة عار في تاريخ البشرية؛ محرقة جماعية للمهرطقين الذين أدانتهم محاكم التفتيش. الكثير من "المارقين" الذين يتوسّلون شيئًا من الرّحمة، إلّا واحدٌ منهم يثير العجب، إذ يبتسم وهو على حافّة الموت. نكتشف مع مرور الصفحات أنه "ابن برول" صاحب الحظوة، وسليل العائلة التي خصّها الله بالعناية باللوح المقدّس (اللّوح الأزرق/كتاب السفير). أطلّ الله عليه برسالة من خلال اللوح، أخبره فيها بأنّ حياته قد شارفت على الانتهاء، وما عليه فعله ليضمن عدم ضياع اللوح؛ كأنّما لم يوجد "ابن برول" إلّا ليكون ناقلًا، لذا يزول العجب حين نراه يبتسم وهو يقابل الموت بكامل أريحيّة، إذ استطاع أن يكون خير ناقلٍ ورسول.

          يترك "ابن برول" خلفه ثماني شيفرات (يسمّيها قصورًا) بالغة التعقيد والحنكة، وهو ما يحيلنا بطبيعة الحال إلى المؤلف ذاته (جيلبيرت سينويه)، ففي النهاية هو من صاغ تلك الشيفرات. كلام مقطّع، جزء منه من التوراة وآخر من الإنجيل وآخر من القرآن. وهذا ما يفصح عن رغبة المؤلّف منذ البداية في خلق آصرة ما بين الديانات الثلاث.

          ثلاثة أجزاء، يعني وجود ثلاثة أشخاص يثق فيهم "ابن برول"؛ "الشيخ ابن سراج" و "الحبر صموئيل عزرا" و "الراهب رافائيل فارغاس".التقاء كل هذه الكراهية المتجذّرة (عِداء معتنقي الأديان المختلفة) في مكان واحد، لا بدّ أن ينشأ عنه نفور يصاحبه تقريع قد يصل حد التقليل وإهانة الدين المقابل. هذا يحاجج ذلك بكتابه، وآخر يرد عليه بكتابه أيضًا، كل ذلك من خلال حوارات لا أستطيع وصفها إلا بالمذهلة. حريّ بنا ألّا نغفل عن مسيحيّة الكاتب، فعرضه لكافّة الآراء على أرضية واحدة، دونما أي تلاعب يرجع لمعتقده؛ زاد مصداقية وحميمية تلك الحوارات. ينطلق الثلاثة في رحلتهم للبحث عن اللوح الأزرق أو كتاب السفير كما ذكر في الرواية. واضعين حيواتهم السّابقة في مهبّ الرّيخ، مستغنين عن كلّ شيء، غير آبهين سوى للحقيقة، والحقيقة وحدها.

          حدث أن سألت نفسي، أليست رحلة جافّة تلك التي يخوضها ثلاثة رجالٍ ينفرون من بعضهم على أهون سبب؟ إلّا أن سينويه ما لبث أن أبعد ذلك التساؤل، بزجّه بـ "مانويلّا فيفيرو" الدّسيسة من قبل الدّولة، بعد اكتشافها لرحلة الثلاثي التي تتهدّد بأمن البلاد (كما يظنون). مانويلّا شكّلت نقطة الاتّزان والقلق في ذات اللحظة في سير الأحداث، إذ نعرف من سياق الأحداث أنّها امرأة مثقّفة، تمتلك معايير أخلاقيّة، وليست لائقة لتشكل الجزء المظلم في الرّحلة، لكنّها وبدهاء كبير تحترف الكذب بداية كي تنال ثقة الثلاثي في رحلتهم. كما أن لسنّها الصغير ووجود راهب في مثل عمرها تقريبًا، يتهدّد سير الرّحلة الطويلة، بعلاقة نستطيع أن نحدس بها منذ انضمامها للجماعة.


 
-  الحبكة:

          
تقوم الرواية بشكل أساسي على تفكيك نصوص "ابن برول". النصوص التي بدت للوهلة الأولى مجرد طلاسم أقرب للعبة الـ "Puzzle" منها لكلمات ذات معنى، وهنا تتدخل أصابع روائي فذ، في حل المسألة تدريجيا، عن طريق سعة معلومات الحبر والشيخ والراهب، بالإضافة لمنويلَا التي كان عليها أن تدلي بدلوها كي لا يشكّوا بعمالتها. للحظات تشعر بأن هذا الرّباعي يحفظ تاريخ البشريّة بأكمله، كما لو أنّه كتاب مفتوح ويقرأون منه.

          تتسارع وتيرة الأحداث في مواضع لتتباطأ بأخرى، وأي قارئ يستطيع أن يستشف الرغبة لدى سينويه في كتابة رواية سريعة الوتيرة، لكن هل يستطيع ذلك؟ إن كم المعلومات اللاهوتية، والمعرفية في الرواية يحتّم عليها أن تكون مثقلة حد الإشباع، بحيث تبدأ الصفحات تجر بعضها بتثاقل ملحوظ، ومع ذلك فقد استطاع سينويه أن يشدّ القارئ إلى صفحاته، مما يشير إلى تمكّنه من أدواته الروائية وتحكمه بها جيدًا.

          ثم هناك اللّوح، اللّوح الذي يترتّب عليه تغيير مصير البشريّة كما يدور في حوارٍ بين "الشيخ ابن سراج" و "الحبر صموئيل عزرا":

   " -     هل تصدّق هذه الحكاية؟ حكاية اللوح الأزرق أو إن شئت الدّقة كتاب السفير؟

-          وماذا لو ألقيت عليك نفس السؤال؟

-          اسمع يا عزيزي، أنا وأنت أذكى من أن نهدر وقتنا في مثل هذه اللعبة. أجبني هل تصدّق أم لا؟

-          وماذا لو قلت لك إنّي أصدّق؟

أمال ابن سراج رأسه إلى الخلف وشرد بذهنه للحظة.

-          أعترف بأنّ الأمر لو صحّ لفاق كلّ تصوّر. "

          مع كلّ شيفرة يتمّ فكّها يلوح طرف من اللّوح في الأفق. الحقيقة الكلّية، تكمن هناك على بضع سنتيمترات من الخشب. يظلّ سؤال/هاجس يتردد في البال: هل سيصلون له؟ أم أننا أمام رواية عبثية أخرى، لن تفضي بالقارئ إلى شيء؟. ربّما هذا سؤال موجه للقارئ أكثر منه لكاتب مقالة عن رواية، لذا سأكتفي بطرح هذا السؤال، لعلّ قارئًا ما يعرف الإجابة بنفسه.

-          ملاحظة شخصية:

          يستطيع المطّلع على روايات دان براون أن يلحظ العديد من نقاط الالتقاء بينه وبين هذا العمل، فكلا الكاتبين يعتمد الشيفرة كوسيلة للدخول إلى العالم الروائي. وكلاهما يتكئان على الجريمة، كعنصر مفاجأة أوّلي. ما أريد قوله، هو كم البخس الذي طال هذا العمل، مقارنة مع ما حققه دان براون في "شيفرة دافنشي" على سبيل المثال. لا أودّ أن يُفهم كلامي على أنه تقليل من كاتب على حساب آخر، فمبتغاي الوحيد، هو إعطاء شيء من الاستحقاق لهذا العمل، وكاتبه الذكيّ.







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق