(1)
مؤسسة الأبوّة – قصّة قصيرة
بشير عبدالخالق
أشعرُ
بأنّ عالمًا من المرايا يلاحقني أينما يمّمتُ وجهي: شاشة "اللابتوب"،
شاشة الهاتف، وجه الملعقة، زجاج النوافذ، أبواب السّيّارات، دون ذكر المرايا نفسها
بالطّبع؛ هذا العالم يعيد إنتاج نسخٍ منّي بصلافةٍ كلّما لاحت له سانحة. اليوم،
تنفيذًا لرغبةٍ باتت تمضّني إذ لم تعد تفارقني ليلًا ونهارًا أبعدتُ كلّ المرايا
عن أماكن تواجدي، وتأكّدت من انفرادي وحيدًا بصورة أبي؛ لأشهد معه ولادتي من جديد
في هذه الغرفة الجرداء.
لم يكن نزع جلدي كتقشير البرتقال كما ظننت، إلّا أنني كلّما تقدّمت في
مهمّتي تساءلت فيما لو يحسّ البرتقال بالألم. كان الألم ثقيلًا كما لو أنّني أحمل
فيلًا على كتفيّ. لكنّ الألم لم يكن شيئًا مقابل منظر كتل اللّحم المتكوّمة أمامي
راشحة بالدّم والنّتن. أمسكتُ شريحة من جلدي وأنا أصرّ على أسناني من الوجع،
تمكّنت أخيرًا من شمّها: لا بدّ أنّنا مجبولون من الخراء لنحمل رائحة كهذه.
بعد جهدٍ مثمرٍ في نزع لحم جسدي وأظافر يديّ ورجليّ، وصلتُ أخيرًا
للجزء الأهم: وجهي. لطالما تعرّف عليّ النّاس كابنٍ لأبي، وكما لو أنّهم اتفقوا
على جملة واحدة، ظلّوا يردّدون "ماشالله طالع لأبوك". كنتُ أحبّ ذلك
بدايةً، وأجد فيه عزاءً عن مناداة أولاد الحيّ لي ب "أبو بريص". لكن،
كيف لي أن أفطن في ذلك العمر إلى أنّني سأظلّ أرتع في ظلّ أبي للأبد. أنّني سوف
أعيش حياتي أحاول أن أكون نفسي، لأكتشف آخر الليل أنّني أعيد رسم وجهه ليس إلّا.
تاليًا، من بين الدّموع الهاربة من الوجع، تبيّنت صوتًا وسط
العتمة. كان بعيدًا كأنما يأتي من خلف جدار "كلّ ما هنالك، أنّك ستغرق في
الألم أكثر. سوف تتجرّعه قطرة قطرة، ولن تجد ما يسرّي عنك بعدها".
تناولت بعضًا من الجلد المكوّم، وناولته إيّاه "خذ، هذا كلّه لك، لم يعد يلزمني
بعد الآن". نما عن صدره ضحكٌ مكتوم، ضحكٌ مليء بلعابٍ يحزّ صدره كلّما حاول
إلحاقه بأيّ كلمة "دعه لديك، ستحتاجه، فالبرد سيغمر الليالي القادمة".
هل يتطهّر الإنسان من خطاياه حين يخلع عنه جلده؟ أصبحت كشاةٍ مسلوخة،
لا فرقَ الآن بين اللحم والعظم بعد أن تكشّف الّذي يسترهما. غابت عيناي في البعيد
وأصبحتُ خفيفًا ككيسٍ فارغٍ لا تعرف الرّيح أين تحطّ به. قبل أن أغيب كلّيًّا عن
الوعي، سمعتُ صوته مجددًا، جاء واهنًا هذه المرّة إلّا أنّني لم أجد في نفسي رغبة
في معرفة ما قاله. لقد مات الآن، ليس كما حصل حين واريناه التّراب قبل سنتين. مات
في داخلي، انطفأت جذوة النّار الّتي أشعلها منذ آلاف السّنوات، ولم يعد لي إلّا أن
أتنهّد ملْءَ رئتيّ.
***
من
قلبِ العتمة يولد جناحان، يحملان شاةً ينزّ الدّم عن جنبيها، يطيران بها حتّى
يصلان نقطة يلتحمان فيها مع الأفق، فلا نعود نميزهما عنه.
***
(2)
ترك "عبدالخالق إقبال" الجريدة من يده. لم يك يخطّط لقراءة
شيءٍ كهذا. لا يعنيه من الصفحة الثقافيّة الكثير، يقصدها فقط لقراءة عمود كاتبٍ
تعوّد أن يقرأ له منذ زمنٍ لم يعد يذكره. لكنّ الملل أخذ يحاصره كسرب نملٍ، فلم
يجد بدًا من تقليب الجريدة. دعته القصّة لأن يتحسّس يديه ويسعل بكثافة، هذا كلّ ما
في الأمر. ترك الجريدة، وخرج إلى شرفة مكتبه المطلّة على شارع الغاردنز. السّماء
تغزل مطرًا خفيفًا يهمي على وجه الشّارع برقّة، لا شيء يجمع عمّان والمطر، لكنّها
تتزيّا به حين يهطل، ويشرق خدّاها. سحبٌ سوداء في الأفق، والنّاس فرادى وجماعات
يملأون جنبات الشّارع والمحالّ. أغلق الشّرفة وعاد ليمسك الجريدة. نظر للقصّة
مجددًا، في الزّاوية اليمنى من الأعلى تربّع اسم الكاتب
"بشير عبدالخالق". حكّ ذقنه وهو ما زال يحدّق في الاسم، ولم يبدُ
عليه أيّ اندهاشٍ حين تبيّن أنّ الكاتب هو ابنه.
بلى، قد توجّس قليلًا من هذه الحقيقة، خاصّة حين نعلم أنّهما لم
يتواصلا منذ ثلاثة أسابيع. أراد للحظة أن يتّصل به ويقول له أنّها قصّة طنّانة،
تتأبّط كلامًا أعلى قامةً من أن تصله بعنقها، ولا حتّى بيديها. لكنّه أحسّ بأنّ
اشتياقه له أكبر من سذاجات ابنه الّتي لا تحتمل. رفع سمّاعة الهاتف وقصد ابنه
بشير. لم يطل الحديث بينهما قبل أن يرتّبا رحلة صيدٍ في "خرجا"، القرية
التي عاشا فيها طفولتهما.
***
لا غرو إن قلنا أنّ "بشير عبدالخالق" كان يفكّر بأبيه
حين كتب قصّته. كان في رأسه سؤال واحد وهو يكتب: هل يمكن أن نختار محيطًا من
النّاس لا يملكون توقّعات مسبقة تجاهنا؟. هناك تلك النّقطة التي لا يمكن لنا بعدها
أن نقدّم للآخرين شيئًا أكثر من هزّ الرأس، أو الاكتفاء بالتواجد حولهم (وربّما
الابتسام؟)، مع تمام الإدراك للحقيقة الثقيلة في كونهم سبب وجودنا. هذا الواقعُ لا دخل لأحد طرفي المعادلة
فيه، هي فقط دورة مشاعرٍ آلت إلى نهايتها، وآنَ تجاوزها. كان يضنيه صوتُ أبيه؛
صورته في زاوية المرآة؛ سعاله أثناء صعوده سلّم البناية؛ تجشؤه القوي؛ اسمه الّذي
لم يغب يومًا عن الذّكر كلّما ناداه أحدهم (الكلّ يناديه باسمه الثنائيّ). لم يكن
أبوه يومًا بغيضًا، لكنّه كلّما أغمض عينيه، تمنّى أن يفتحهما على عالمٍ آخر، لا
يكون فيه للآباء ارتباطٌ بأبنائهم.
وسط أفكاره تلك، رنّ جرس الهاتف:
- مرحبا بابا بشير، كيفك؟.
- كويّس، انت كيفك؟.
- أنا ممتاز، قلت ما بتسأل علي أسأل أنا. شو رأيك نطلع نصيد بخرجا
زي أيّام زمان؟.
- تمام، متى بتحب؟.
- بكرا الفجر كويّس؟.
- كويّس.
***
قبل أن يتداخل أرجوانيّ الأفق ببرتقاليّ الشّمس، كنّا في بطن وادي
خرجا. على خلاف أبي، أشعر بالخفّة هنا، لا شيء يربطني بأرض هذه البلدة، حتّى
الطّبيعة التي تبدو مقتبسة من صورة على الإنترنت لا تحرّك فيّ شيئًا. هو يرى أنّ
هذا هو فردوسه الّذي أفقده العالم إيّاه، رغم أنّني وهو نعرف أنّه لا يستطيع
المقام هنا أكثر من إجازات نهاية الأسبوع. أخذ يحدّثني عن بندقيّتي الوينشستر 94
اللّتين ابتاعهما من تاجرٍ أمريكيّ، وكيف بإمكانهما صيد أسرع العصافير والحيوانات
وأكثرها فطنة، والآن ها هما بين يدينا (رفع بندقيّته مدلّلًا على انتصاره
الرّفيع). تعمّقنا في قلبِ الوادي، ولحظة ولجنا ما يشبه فمًا واسعًا من الأشجار بدأ نثيثٌ من المطر يداعب وجهينا. لحظتئذٍ
خلتُ أنّنا لن نجد سبيلَ العودة، ووجدتني أقول لأبي:
- بتعرف، هذا أحسن مكان لارتكاب جريمة بالعالم.
ابتسم ملءَ فيه، ثمّ حكّ باطن عنقه قبل أن يقول:
- يبدو أخذت إيدك عالقتل.
- بس هناك كان القتل افتراضي، لسّا مجرّبتش شعور القتل الحقيقي.
سكتَ أبي قليلًا، ثمّ بعد انتظارٍ نظر في عينيّ وقال:
- بتعرف اشي، لما كنّا صغار كان عنّا مزرعة جاج، أيّامها كنت
أذبحهم بإديّ.
لاحظتُ أنّه بات يشدّد على مخارج الحروف، وحين نطق جملته الأخيرة،
شدّ على قبضته اليمنى حتّى بانت عروق ساعده. لم أعرف أين سينتهي كلّ هذا، بل أكثر
من ذلك لم أرد أن أعرف. رغبتُ أن أركب الخوف، وأنزلق مع الدّرب إلى آخره.
- وكيف كان شعورك وقتها؟ براهن إنّك كنت تنبسط وقت يموت الجاج بين إديك.
- ما كان عنّا خيار. بتعرف جدّك ما كان يعطينا خيار.
- غريب.
- شو الغريب؟.
- غريب كيف بحسّ إنّي ما رح أطلع من هون... أنا بعرف طريق الرّجعة، بس في اشي بيخلّيني متأكد، مع كل خطوة بخطوها إنّي بغرق، بغرق لدرجة بتختفي معها كلّ الألوان.
هذه المرّة، كان في عينيه نظرة مختلفة. نظرة تشي
عن تصالح عميق مع النفس، كأنّما كان مربوطًا بحبالٍ ثقيلة، والآن، حين همّ بالكلام
فقط أدرك كيف يخلّص نفسه منها.
- اللي بوقّف بوجهك يا ابني ابعده من قدّامك. ثمّ عاد وأردف: أو انت ابعد من قدّامه، ثمّ ابتسم كاشفًا عن أسنانه المصفرّة بفعل التّدخين.
قال جملته الأخيرة ثمّ أولاني ظهره ليأخذ بالابتعاد عنّي، بينما
ظللتُ واجمًا مكاني. في تلك اللحظة استحضرتُ وجه أمّي، استبدلتُ وجهه بوجهها
وآنستُ به. همست لي بشيءٍ لم أعد أذكره، لكنّه كان شيئًا مريحًا، وإلّا لماذا
أخذتُ أضحك كالمجنون؟.
***
من قلبِ العتمة يولد جناحان، يحملان شاةً ينزّ الدّم عن جنبيها،
يطيران بها حتّى يصلان نقطة يلتحمان فيها مع الأفق، فلا نعود نميزهما عنه.
Breaking Home Ties by Norman Rockwell |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق