Ryan Chang - Melancholia |
لم أختبر مرّة رغبةً شديدة بالكتابة عن شيء أكثر من مرّة. لياقة دماغي لا تسمح
لي بطرحِ الكثير من الأسئلة. عدا عن ذلك، فعيناي لا تريان ما خلف الجدران. قرأتُ
مرّة كلامًا لإحدى محكّمات جائزة المان بوكر الإنجليزيّة، تقول فيه: "وقد
تناقشنا خلال لقاءاتنا في حقيقة أن مسألة التحكيم هذه تطلب من الكتب شيئًا هي غير
مصممة لتلبيته: وهو أن تُقرأ ثلاث مرات متتالية"(1). صدمتُ حين قرأت الكلام؛ كيف يمكن لعملٍ ما أن
يعاد قراءته ثلاث مرّات في فترة قياسيّة ولا يفقد توهّجه؟. يبدو الأمر، إن أمعنّا
النظر أبعد من مجرّد ثلاث قراءات. فالقراءة في تأويلٍ مغايرٍ قد تعني مدى تركيب
العمل، وقدرته على توليد المعنى من الهامش، والهامش من المعنى. فالعمل الذي يقول
كلّ ما عنده دفعةً واحدة سيزول تأثيره بسرعة بوحه بما لديه.
***
كنتُ أشاهدُ فيلم Melancholia، ومع كلّ لحظة يتقدّم
فيها الشريطُ خطوة، تخترق ذاكرتي صورٌ مشتّتة من فيلم الجمال العظيم (La
Grande Bellezza)؛ سبق وكتبتُ عن
الفيلم مرّة ونشرتُ ما كتبت، من ثمّ عدتُ وشاهدت الفيلم مجددًا لتصيبني حكّة غريبة تدفعني
لاستنزاف روحي في الكتابة عنه. كنت سأفرد مقالًا حول ترجمة العنوان وحده، من ثمّ مقالٌ
آخر حول معنى الجمال في نظر سورنتينو (ونظري أيضًا؟)... إلى آخره. لكنّ الشعور
بعبثيّة الفعل أودى بمخططّي إلى النّسيان (ما زال ظهري يحكّني كلّما فكّرت في تلك
الوقعة).الآن، وأنا أطالع Melancholia، الفيلم الذي يحفر
عميقًا في محاولة القبض على معنى الكآبة، أشعر بالعزاء بدلًا من سورنتينو، وبأنّ
يدًا تربّت على كتفي وتقول: لا بأس، ما زال هناك من يحاول أن يفهم كيف أخرج الساحر
الأرنب من فم القبّعة. لذا قرّرت أخيرًا قطف رغبتي، والكتابة مجددًا.
الموسيقى؛ الأوبرا؛ الملابس الأنيقة؛ الجنس؛ زهو الألوان؛ نهر التيبر؛ روما..
كلّ هذا جميل، لكن كيف، وفي أيّ نقطة يمكننا أن ندرك ذلك؟ في المقابل: محاولات
القولبة؛ الطقوس الاجتماعيّة؛ مؤسّسة الأسرة؛ عدم فهم العالم لما يجري في رؤوسنا؛
وقع انتهاء العالم.. كلّ هذا كئيب وسوداوي. لكن ما هي الكآبة تحديدًا؟ هل هي وجهٌ
جامدٌ في وجه العاصفة؟ "صراخٌ في ليلٍ طويل"؟(2) أم
ماذا؟. لا مراء بأنّ السّؤالين كبيران، وأنّ مجرّد التفكير في القبض على شيء أشبه بالهواء، أقلّ ردّ
فعلٍ عليه أن يوضع بين قوسين، لكن "قد بدا لي أنّه مع أنّنا لا نجد إجاباتٍ
لتلك الأسئلة الأساسيّة إلّا أنّ من الأفضل لنا أن نسألها على أيّة حال...".
(3)
تختلف المعالجة، فلكلٍ طريقٌ يمّم وجهه شطره. في "الجمال العظيم"،
في بحثه الدؤوب (المتنكَّر له) عن الجمال، يأخذ جيب غامبرديلّا الطريق الأطول، حياة
اللّهو لا الجدّ. في ظنّي أنّ العنوان يقول الكثير، بين ترجمته إلى "الجمال
العظيم" و"الجمال الباهر" أميل إلى الثانية أكثر. ففعل الانبهار
يحيل إلى فركٍ للأعين إزاء ضوءٍ مباغتٍ وقويٍّ. وكذا الأمر أثناء مواجهتنا للجمال
(أكبر مخاوفنا؟)، فإمّا أن نواجهه معرّضين أنفسنا للعمى، للاندثار (مات السّائح
الياباني وهو ينظر إلى روما تتزيّا بأبهى حللها)، أو ربّما الخلود. في المقابل
يمكن أن نلتفّ حوله، ظانّين أنّنا نقبض على شيء ما "أردتُ أن أكون القوّة
التي تجعل منها إخفاقًا ]يقصد حياة الليل والتّرف["(4). الصّباح بما يحيلُ إليه من وضوحٍ في الرؤية، والطريق معلوم المسالك "كائن غير
معروفٍ بالنسبة لي"(4) يقول جيب. ينتهي الفيلم ويظلّ
الكادر ملتقطًا صورة نهر التّيبر يجري بلا توقّف، قد يكون متجهمًا لكنّه شقّ لنفسه
طريقًا تلحظه أعين الآخرين. إنّها رحلة طويلة، سواء كانت رحلة جيب أم رحلة باولو
سورنتينو ذاته التي أوصلته ليقدّم لنا هذا العمل. رحلة من البحث عن لا شيء و/أو
كلّ شيء.
***
لارس فون تيرير بدوره، ينطلق من تجربة ذاتيّة في محاربة الكآبة، معولمًا
إيّاها إن جاز التعبير، لتصير حدثًا جللًا يهدّد الكرة الأرضيّة. في غمرة احتفال
"جوستين" بزفافها، تلحظ اختفاء النجم الأحمر أنتاريس من مجموعة العقرب،
يبان في الشّقّ الثاني من الفيلم أنّ سبب اختفائه هو ظهور كوكبٍ كبير يدعى
"ميلانخوليا" كان مختبئًا وراء الشّمس ويهدّد الآن بالاصطدام بالأرض.
بداية وقبل أن نغوص في الوحل، لماذا ميلانخوليا (Melancholia) لا كآبة
(Depression)؟ يقول القاموس
بأنّ الميلانخوليا هي الأسى، أو الانغماس (ومرادفاتها) في الكآبة. فون تيرير يحاول
أن يصل إلى تلك النقطة السوداء في أرواحنا التي تفرش ظلالها كملاكٍ مطرود على كلّ ما حولها.
من المعاني التي يمكن أن نضطلع عليها للميلانخوليا أيضًا (saturnine) أي زحليّ (نسبة إلى كوكب زحل) الّتي تحمل معنى
"كئيب المزاج" أيضًا. لا يبدو إذن اعتباطيًا قرار "تشييء"
الميلانخوليا (إن جاز التعبير) على شكل كوكبٍ عملاق.(5)
في الأسطورة اليونانيّة، يهمّ أوريون رفقة صاحبتيه أرتيمس وليتو بغزو كريت،
مهدّدًا بقتل كلّ وحشٍ هناك على الأرض، لكنّ الأرض ترسل له عقربًا ضخمًا يرديه
صريعًا. وعلى أعقاب ذلك، يقرّر زيوس أن يجعل قلّة رجولته تلك عبرة لمن بعده، فيضعه
والعقرب معه بين النجوم. كوكب "ميلانخوليا" يبدو هنا كما لو أنّه أوريون
قد جاء لينتقم من "وحوش الأرض" الّتي سبّبت هلاكه.(6)
ليس لارس فون تيرير أوّل من يطرح شكلًا لنهاية العالم، لكنّه يبدو أوّل من
تخيّل أنّ فناءنا سيكون على شكلِ كآبة هائلة بحجم كوكبٍ ستلتهمنا. ليس هذا وحسب، إنّ بعض شخصيّاته تفزع أمام الكارثة، لكنّ هذا الفزع لن يغيّر من إمكانيّة تحقّقها، وإن كان بوسعنا فعلُ شيءٍ ما هو أن
نتقبّل اللامعنى هذا كواقعٍ سيرتطمُ بنا لا محالة!، بل ربّما كخلاصٍ من هذه "الأرض
الشّريرة" كما أسمتها جوستين.
" - كل ما أعرفه أنّ العيش على الأرض هو شرّ.
- قد يكون ثمّة حياة في مكانٍ آخر.
- في الحقيقة لا يوجد شيء كهذا.
- وكيف تعرفين ذلك؟
- لأنني أعرف بعض الأشياء.
- آه، لطالما اعتقدتِ بأنك تعرفين.
- أعرف بأننا وحيدون.
- لا أعتقد أنّك تعرفين شيئًا عن هذا على
الإطلاق."(7)
***
يقول كونديرا في كتابه فنّ الرّواية: "إنّ الرّواية الّتي لا تكتشف
جزءًا من الوجود ما يزال مجهولًا هي رواية لا أخلاقيّة. إنّ المعرفة هي أخلاقيّة
الرواية الوحيدة."(8) لا أملك جسارة كونديرا لأقول إنّ "المعرفة
هي أخلاقيّة السينما الوحيدة". لكنّني أملك أن أقول أنّ مخرجين كهؤلاء، في
محاولاتهم للقبض على معنًى أكثر سيولةً من أن يمسك، يعيدون صوغ مفاهيمنا حول العالم، وإن كان طريقهم يمضي دومًا من الشّاقّ إلى الأشقّ.
|
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2): عنوان رواية لجبرا إبراهيم جبرا.
(3): اسطنبول – أورهان باموق – الانتشار العربي - ص475.
(4): من الفيلم (La Grande Bellezza - 2013).
(7): من الفيلم (Melancholia –
2011).
(8): فنّ الرّواية – ميلان كونديرا – دار الأهالي – ص13.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق