الاثنين، 8 فبراير 2016

جانبُ الغرابة: أثر جانبي للموت في عمّان



"لا تروي ما حدث لك مثلما فعلتُ أنا، لأي إنسان، لأنّك حين تفعل ذلك فلسوف تفتقد كلّ النّاس" - الحارس في حقل الشّوفان - ج. د. سالنجر


***
         العزيزة د. فيروز الدّباس، إليكِ أروي ما حدث في ذلك اليوم البعيد، من شهر يناير 2015.

***

         ظلام، الساعة بجانبي ما تنفكّ تذكرني بتقدّم اللّيل خطوة. لم أخلع ملابسي حين عدت إلى البيت، وها أنا أجرجرُ نفسي من غرفة إلى غرفة بحثًا عن شيءٍ أقضم به الوقتَ. أقرّر أخيرًا أن أفتح الفيسبوك. قديمًا، حين كان أوّل فعلٍ لي بعد فتحه هو تصفّح بروفايل "وِدّ"، كنت أشعر بالخزي، كأنّما أراقبها عاريةً في غرفة نومها، وحين أقابلها، أنظر في عينيها جيدًا متوسلًا معرفة ما إذا كشفت فعلتي أم لا. الآن، بعد أن بات الأمر شبيهًا بإغلاق النافذة في يومٍ ماطر، لم أعد أرى في الأمر حرجًا.

         لا يوجد سوى ثلاث صورٍ لها في بروفايلها الشخصي. تلبس في واحدة منها قبعةً رجاليّة مدوّرة، فمها مشقوقٌ قليلًا، كبابٍ تتسرّب الظلال من خلاله لا الأضواء، لا شيء يشي بالضحك أو حتّى العبوس في عينيها. تذكّرتُ حالًا "سابينا" وهي تنظر للمرآة، بملابسها الداخليّة، وحيرة "فرانز" تسبق عينيه من خلفها(1). أغلقتُ، دون تقليب باقي الصّور، شاشةَ اللابتوب على صورتها، وشعرتُ بلذّة من يطفئ أضواء البيت، مستعدًا للسفر.

         جاء صوتُ الهاتفِ خفيضًا، لم أنتبه له إلّا بعد أن لاحظت انكسار الظلام في الغرفة؛ شاشة الهاتف تشير إلى الثالثة والنّصف صباحًا. "مرحبا عنايت، في اشي؟". أتاني صوتُ "عنايت" راكضًا عبر السّماعة، قلت لها بأنّي لم أفهم شيئًا "اهدي، واحكي شوي شوي". أخبرتني أنّها وجدت "وِدّ" مغشيًّا عليها في الحمّام، ولمّا جسّت نبضها كانت جثّة هامدة، "زي السيجارة المطفيّة" هكذا قالت. شعرتُ، بعد أن أنهيت المكالمة، بأنّ جدران البناية باتت شفّافة، وأنّ عيناي كاميرا تراقبني من أعلى البناية: وتدٌ واقفٌ وسط شقّة يكسوها الظلام كعباءة سوداء. لم أدرك الوقت الذي مرّ، لكنّ طارئًا حفّز ذاكرتي "نهاية السيّد واي، أنا عايرها رواية نهاية السّيّد واي"(2)، حينها فقط أدركتُ حجم الخسارة؛ خسارة الأشياء المشتركة التي تجمعني بها.

         المسافة ليست كبيرة من الهاشمي الشّمالي حيث أسكن إلى جبل اللويبدة. طلبت من سائق التّاكسي إنزالي عند دوّار باريس. المسافة ليست بعيدةً بين الدّوار وشارع ضرار بن الأزور، "شارع السّفارة"(3) كما تحبّ "ودّ" أن تسميه. نهارٌ أو ليل لا فرق هنا، باتَ الصّخب والزّحام يلفّان المنطقة أكثر ممّا تحتمل شوارعها الضّيقة، الفجر وحده يجيء بالسكينة ويكشف لك معنى الفضاء. مشيتُ من شارع نقولا غنما، ملتفًّا، عند ثاني انعطافة، إلى اليمين نحو السّفارة الإيطالية حيث يتجسّد هنا معنى الأمان؛ متاريسٌ أمام السفارة، وشرطة السّياحة تمشطُ المكان بعينيها الشبيهة بأعين الصّقور.

         فتحت "عنايت" الباب والنّشيج يغالبها، لم أجد شيئًا حيث تشير سبّابتها، شككتُ في عينيّ بداية "عنايت وين أطّلّع؟"، وبعد تأتأة وفأفأة أكّدت بمدّ سبّابتها "مش شايف، هيها هناك". لعلّ عليّ هنا أن أصف تركيبة البيت قليلًا. يأخذ البيت شكل الممرّ الطّويل (المساحة كما تحبّ عنايت أن تدعوها)، ينتشر على جانبيه حمّامٌ ومطبخٌ وغرفتا نوم تقابلان بعضهما، في نهاية الممرّ نافذة تستقبل الشّرق. لذا حين دخلت، كان أوّل ما نظرتُ إليه هو الحمّام الكائن عن يميني، ولم أرفع عيناي صوب النّافذة؛ حيث شاهدت أخيرًا إطارًا أسودَ مفرغًا بالكامل، لفتاةٍ تجلس ضامّة رجليها قريبًا من صدرها، وتقرأ "نهاية السّيّد واي".

         تحسّستُ الأرض تحتي، كما لو فقدتُ الشعور بقدميّ. لم أدرِ بدايةً ما العمل، كنت تمامًا مثل طالبٍ في يومه المدرسيّ الأوّل. أجبتُ "عنايت" التي لا زالت تنتظرُ ردّة فعلٍ منّي "آه شايفها، شايفها كويس". تحرّكتُ في المساحة باضطراب، محاولًا قدر الإمكان عدم النّظر مجدّدًا صوب النافذة. لولا خوفي من القادم، ورغبتي الممضّة في رؤية وجه "وِدّ" ولو لمرّة أخيرة، لما التفتّ أخيرًا، مقتربًا من النّافذة، صوبها. كانت "وِدّ" تتبسّم بشدّة، كأنها تغالب نفسها كي لا تضحك بصوتٍ عالٍ. صالبت بسبّابتها فمها "اشششش" وأغلقَتْ يدي على ورقة مطويّة بإحكام. ثمّ عادت لتكمل القراءة، كأنّ شيئًا لم يكن. أخبرتُ "عنايت" بأنّ عليها إخبار أهلها، كي يتكفّلوا بإجراءات الدّفن، وأنّني أريد أخذ شيءٍ يذكّرني بها، ولمّا لم تجب، فتحتُ خزانتها، اخترتُ وشاحًا صوفيًا كاكيّ اللون، وغادرت دون قول شيء.

         في البيت، وحتّى قبل أن أقرأ ما في الورقة، فتحتُ اللابتوب لأبحث عن أعراض الفصام. أحد المواقع يقول:"الأشخاص المصابين بأعراض الفصام، عادةً لا يعون أنّهم مصابين بها حتّى يخبرهم طبيبهم أو معالجهم النّفسيّ بذلك. لن يكونوا قادرين حتّى على إدراك خروج المجريات عن مسارها. إن حدث وانتبهوا لعوارض المرض، كأن لا يكونوا قادرين على التفكير بشكلٍ سليم، قد يعزون ذلك إلى الضغوطات المختلفة أو لتعرّضهم للإرهاق"(4). راكمتُ بسرعة في رأسي كلّ الأفلام الّتي ينتهي أبطالها لاكتشاف إصابتهم بالمرض، وتأكّدتُ أنّ كلّ هذا قد يكون حقيقيًا، وقد يكون كذلك محض خيال. جاوَزَت الآن الساعة السادسة صباحًا وما زلتُ مستيقظًا، وكمن يعي عمق القاع الذي قد يصله، قرّرت اللَعبَ حتّى النّهاية.

***

         قابلتها في Volks فرع اللويبدة كما طلبت، الساعة الخامسة مساءً. وصلتْ متأخرةً بسبع دقائق، وأشارت بسرعة من تردّ شعرها وراء أذنها إلى ضيق المكان. كان المكان أليفًا بالنسبة لي لذا لم أعلّق. كنتُ أحدّق فيها ولا أحدّق، أشعر بأنّ نظراتي تخترقها ثمّ ترتدّ إليّ كما لو أنّها مرآة محدّبة. لعلّ الزّمن داخلي انفلت من عقاله ولم يعد خطّيًا كما عهدتُه من قبل. توقّف كلّ شيء، ولم يعدني إلى الواقع سوى قول العامِل هناك "تِحِبّوا تاكلوا إيه؟". طلبتُ وجبةَ "الكلاسيك" وطلبت هي وجبةَ "الفور واي"، ولم أفوّت الفرصة لأعلّق بأنّ كلّ الوجبات واحد ولا أفهم حتميّة وجود المينيو. في ذهني، كنت أفكّر في مدخلٍ للسؤال عن كلّ هذا لحظة رمى العاملُ سؤالًا آخر"عاوزين خَصّ يا أساتزة؟" كرّر السؤال مرّتين قبل أن تنفجر "وِدّ" ضاحكة وتعضّ على شفتها السفلى. تداركًا للموقف هززتُ رأسي إيجابًا.

         لطالما حملتُ مفهومًا عن الحبّ يتخفّف من كلّ أعباء المنفعة، حتّى الجنس؛ كنتُ أظنّه رافدًا للعلاقة لا الأساس لها. غرابة الموقفُ برمّته شجّعني لأسألها عن رأيها.

       -          رأيي بشو؟
       -          عن مفهوم الحب، العلاقة، الجنس...

فركت أعلى حاجبها الأيمن، وقالت بصوتٍ خفيض:

       -          يعني بشوف الحبّ مفهوم أناني، الإعلان عنه هو قبل كل اشي، إعلان عن إدراكك بإنه ممكن شخص ما يبادلك مشاعر كبيرة.

قلت لها بأنّي أرى أنّ على الحبّ ألّا يكون مشروطًا بشيء. أن نقوم به لذاته فقط، كشرب الماء مثلًا. لكنّها أصرّت أنّني أبالغ في التقليل من أهمّية الجنس. صمتنا لبرهة، وكسرًا للصّمت قلت لها:

      -          ودّ...
      -          نعم
      -          يمكن السؤال غريب شوي، بس عمرك تخيّتلي شكل الموت؟
      -          مبلى، بتخيّل دايمًا إنه الواحد بصير خفيف، مش بالوزن قصدي، بس زي لما تطلع بالأسانسير.

***

         لم يلحظهما أحد، كانا وحدهما كأنّ لا أحد في الكون سواهما، يجلسان فوق أحد برجي السّادس، يدلّيان أقدامهما، وينظران لحياة يعرفانها جيّدًا، لكنّها صامتةٌ وبعيدة جدًا. بعيدةٌ إلى الحدّ الذي عبر في بالهما، في اللّحظة نفسها، أنّهما يريانها من منظور الله.

***

         هذا يومٌ يصلح لتعريف الإنهاك. ما يزيد الأمرَ صعوبةً؛ إحساسي بأنّ جسدي الخَرِب هذا لا يستجيب ليقظة دماغي. أشعر بتوقّدٍ ما يلبث أن ينطفئ حال نزوله من رأسي إلى جسدي. سألتني "وِدّ" أن نصعد من وسط البلد إلى الدّوّار الأوّل مستخدمين الأدراج، وكمن يملك رغبة دفينة في إيذاء نفسه وافقت على طلبها. كان كلّ شيء يدور في خلفيّة رأسي: صوت أقدام المارّة، أبواق السّيّارات، آثار أقدام القطط المتّسخة، أكشاك الكتب، ثرثرة "وِدّ"، ثيابي التي أودّ لو أغيّرها، نبرة صوتي النّاشزة، المجاري الطّافحة في الشّوارع. جاءني صوتها أخيرًا "ما بعرف ليش بلونوا الدّرج، وكأنّه الألوان رح تغيّر من كونه درج"، وأنا كما يليق بثور يخور من شدّة التعب هززت رأسي وأكملتُ دفعَ صخرة سيزيف إلى أعلى. صعدنا أوّلًا من الدّرج الملاصق لمقهى جفرا واصلين إلى مسرح البلد، ثمّ أكملنا طريقنا بصعودِ درجَيْن آخرَيْن حتّى وصلنا آخر شارع الرّينبو. ولأنّه، كما يبدو، لا تتنازل الجبال عن ميزاتها بسهولة، أحسستُ بكتلة باردة من الهواء تخترقني. كانت السّماء حينها غائمة، وتنذر بنهاياتٍ غامضة.

         ماذا لو كان الموت ليس إلا جسرًا للعودة، عمودًا أملسًا نتسلقه فقط لنعود وننزلق إلى الأسفل، وهكذا إلى أن يلحظ أحدٌ وجودنا؟. ماذا لو أنّ هذا هو ما حصل مع "وِدّ" فجر هذا اليوم؟ لعلّه لا وجود لإجابة تكشف نفسها بلا مقابل. بدأ عقلي بالعمل سريعًا بينما "وِدّ" غارقة في تأملاتها وتصوّراتها عن المدينة. طلبتُ منها أن تشتري لنا كأسي آيس كريم من "جيرارد" وتلحق بي لنقف على المطلّ؛ نشاهد المكعّبات، ونتخيّل كيف يقضي النّاس حياتهم داخلها.

         تحدث الأشياء لأنّها تحدث فقط، أو هكذا أظنّ. حين لففتُ وجهي كي أقطع الشّارع، ارتطمتُ بجسمٍ ثقيل، لعلّه سيّارة، ماذا يهمّ الآن؟ شعرتُ بالبرودة تكسو لساني؛ كالشّفقِ أقول الآن وأضحك. ظللتُ راقدًا في مكاني، أشعر أنّني ممدّدٌ على فخذ أحدهم (لعلّها "ودّ"؟)، إحساسي أنّه الفخذ الأيمن. بدأ الرّعد يقصف، وينتفض معه قلبي، ثمّ لم يلبث المطر أن أنزل السّتارة على المشهد، ليأكل الظّلام بعدها عينيّ.

***

         العزيزة د. فيروز الدّباس، إليكِ أروي ما حدث في ذلك اليوم البعيد من شهر يناير 2015. جزءٌ كبيرٌ من ذاكرتي فقد مع الحادثة، وجزءٌ آخر فقد من واقعي. اختفت "وِدّ" بعد قيامي من الحادثة، كأنّ ثقبًا أسودَ ابتلعها. قيل لي أنّني فقدتُ الوعيَ ثلاثة أشهر. لكنّ الزّمن لديّ توقّف عند ذلك اليوم تحديدًا. سألتِني أن أكتب، لعلّكِ تظنّين أنّ الكتابة تسدّ ثقوب الرّوح، وتعزّي المرء. أخبركِ أنّني لم أعد أعرف شيئًا، وفي الجهل المطلق تتساوى الأضداد. أكتب لكِ الآن، لعلّ لديكِ تفسيرًا لما حدث، أو بعض تفسيرٍ.

زين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): شخصيّات من رواية "كائن لا تحتمل خفّته" لميلان كونديرا

(2): نهاية السّيد واي؛ رواية لسكارليت توماس.

(3): السّفارة الإيطاليّة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق