الأحد، 12 مايو 2013

مهرجٌ حزين

               جلس على حافّة المسرح، من الجهة الخلفيّة للسّتار، بزيّه التقليديّ ذي الألوان المبرقعة. نظر إلى ملابسه بطرف عينه، ارتسمت ابتسامةٌ صفراء على شفتيه وهو ينظر إلى بقعة الزّيت الّتي احتلّت مساحة كبيرةً من (أفرهوله)."لن يلحظها أحدٌ... وحتّى لو لاحظها لظنّ أنّها من لوازم العرض". هكّذا فكّر وهو يبتعد ببصره عنها.

               كان يودّ لو يرميَ ذلك القناع البذيء الّذي يشوّه وجهه كلّما ارتداه، ويودّ أيضًا لو ينزع تلك الملابس الّتي يرتديها، الّتي تشبه إلى حد بعيد إحدى لوحات الفنّ التشكيليّ العصيّة الفهم. في تلك الّلحظة، لم يكن يستطيع أن يلحظ أنفه المصبوغ بالأحمر، وإلا لسارع بتهشيمه بقبضة يده المتهيّأة كهراوة.

***

               "بسّام.. هيّا، لقد حان دورك" قالها مدير السّيرك، وهو واقف بجانب ستارة المسرح، حاثّا ""بسّام" المهرّج على التحرّك. في الحقيقة، لا يمكنك القول بأنّ ""بسّام" قد سمع ما قاله المدير في تلك الّلحظة، إلّا أنّه استجاب. وكأنّ أحدّا غيره قد تكفّل بمهمّة الاستماع والاستجابة عنه.

تحرّك بخطواتٍ ملؤها الثّقل، وتمايل كثيرًا وهو يصعد درجات المسرح. نظر عن شماله فوجد المدير يصرخ به أن "ضعِ القناع على وجهك"، لكن "بسّام" تجاهله، كما لو أنّه عمودُ كهرباء مطفأ في ليلةٍ شديدة السّواد، أو شرطيّ سيرٍ يعطّل حركة المرور!.

***

               دخل المسرح، بوجهه الملطّخ ببقعة حمارٍ ناشزة، وجبينٍ مطليٍّ بالأخضر. بدا جبينه حينها أقرب للاعب كرة قدمٍ تعثّر وهو يركض، وأوّل عضوٍ حفلت به الأرض لحظة ارتطامه بها هو جبينه.

               لم يبتسم كعادته، لم يلوّح بيديه ببلاهةٍ للجمهور الّذي لا يهتمّ ما إذا كان المهرّج يبدو أبلهًا وأحمقًا، بل كلّ ما يهمّه أن تتشدّق شفتاه ضحكًا. قطّب بين حاجبيه، ووقف صامتًا. تململ الجمهور بعد لأي، بعضهم تنهّد في مقعده، بينما لم يكتفِ البعض الآخر بالتنهّد، فبدأوا برمي كل ما تطاله يداهم صوب المهرّج الصامت المنتصب كسارية وسط المسرح. كان المدير يودّ لو يصعد إلى المسرح، ويهشّم رأس ذلك الغبي، لكنّ نظرته كانت أقسى من أن تحتملها شجاعة المدير في أي وقت.

***

               تحرّك "بسّام" قليلًا في مكانه، كإشارة منه إلى الجمهور بأن يصمتوا، فتوقّف الجمهور الغاضب عن رمي أشياء لو انتبهوا لها قبل رميها لما رموها!.

               حدج الجمهور بعينين ملؤهما الغضب والأسى، ثم قال:

               "اليوم تأكّدت كم هي عبثيّة هذه الحياة. كلّ شيءٍ فيها عبثيّ.اثنان وعشرون عامًا قد مرّت، لا لشيءٍ إلّا لتقودني قدماي إلى هذا المكان، كي أحاول أن أروّح عن أناسٍ نسوا معنى الرّاحة، فجاءوا هنا ليتأكّدوا أنّ نزرًا من البشريّة ما زال لم يبارح مطرحه فيهم.

               في كلّ يومٍ أتراقص أمامكم كالأطفال. أنطّط خمس كراتٍ دفعةً واحدةً فتصفّقون. أمشي على الكرة فتمرحون. أقف على رأسي وأمشي على يديّ فتقولون: يا لمهارته!. أمشي على الحبل فتفتحوا أفواهكم منشدهين لبراعتي. كلّ هذا ولم يسأل أحكم يومًا: ماذا لو وقع عن ذلك الحبل الّلئيم؟ ماذا لو عاندته إحدى تلك الكرات وسقطت، لتتركه مشرعًا للسّخريّة السّوداء والصّفراء حتّى؟ هل يتقاضى أجرًا يكفيه لينام تحت سقف من الإسمنت، أو حتّى من ((الزّينكو)؟.  بل أنّكم لم تسألوا حتى ذلك السّؤال البديهي حدّ السّذاجة: هل هو مسرور؟؟

               ربّما يظنّ بعضكم أنّني أستجدي تعاطفه. لا، أنا فقط لم يبق فيّ مجالٌ للعيش أكثر، لقد أصبحت ثقبًا كبيرًا، يستطيع الهواء أن يعبره دون أن يأخذ حذره من عائقٍ مفاجئ. أودّ فقط لو أتخفّف قليلًا من خِفّـتيَ الثّقيلة. الثقيلة حدّ الإنهاك. وأودّ أيضًا لو أمتلك يدًا حديديّةً كتلك الّتي تمتلكها بعض شخصيّات أفلام الكرتون لأسمع صوت الحياة متألّمةً بعد أن أضربها بها. وأودّ أخيرًا لو تصمت كلّ هذه المشاعر المنبعثة داخلي، المصرّة على إلصاق تهمة الإنسانيّة لي، لأعود مهرّجًا بهلولًا، لا شأن له سوى محاولة إسعادكم..".

***

               كما تجيء الرغبة في الكلام فجأة، تغادرنا فجأة. هكذا، كأنها لم تكن!. لذلك، غادر "بسّام" المسرح مسرعًا، دون أن يلتفت إلى أحد، أو يكلّم أحد. غادر المسرح، وفي منتصف طريقه الذي لا يعرف إلى أين سيفضي في النهاية، تذكّر أنّه لم يخلع ملابس المهرّج بعد، تلك الّتي تفصل بين حياتين. نظر إليها.. ابتسم.. ثمّ أكمل مسيره.

***

  • ملاحظة هامشيّة لن تفيد ولن تضرّ: "يقال أنّ الجمهور صفّق يومها كما لم يصفّق أبدًا. ويقال أيضًا أنّ المدير أصابته حالةُ انشداه متّصل لمّا شاهد أعداد الجماهير تزداد باطّرادٍ كبيرٍ بعد تلك الخطبة، الّتي وصفت بالخارقة".

  • هذه القصة كانت إلهامًا من أغنية تدعى "The Clown Is Dead"



                                                                                               
                                                                                                          ن.ع.م.
                                                                                                        03:00 صباحًا
                                                                                                        11-05-2013







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق