الأحد، 19 مايو 2013

رسائل من الزّمن الجميل (3)

رسالة (1): منذ زمن لم نتواصل عن طريق الرسائل، في لحظة بؤسٍ عابرة، كنت قد قررت ألا أعود لهذه الرسائل الجميلة، لكنّني  بلحظة سرورٍ أخرى، قررت ألا أقوم بما عزمت عليه. الفكرة تكمن في الاختلاف، فها هنا أستطيع أن أخاطبكِ كما لو كنّا نرى ونسمع بعضنا الآخر، لا كالقصص القصيرة أو النصوص، فهناك، أخاطب شبحًا لا يقربك، شكله غير شكلك، اسمه غير اسمك، لا شيء فيه يشبهك. دعينا ننسى كل هذا، ولنغمض أعيننا قليلًا، لنسمع صدى الصمت يهز كيان البؤس الذي يتعاظم من حولنا.


"وقلت بكتبلك ..
هيك كانوا يعملو العشاق .. "



 رسالة (2): "رسالتي إليكِ ليست عادية، وأعرف أنها لن تصلكِ في أيّ يومٍ من الأيام، ولكنّي كتبتها. سميتها 366، كناية عن سنة لاهثة، مؤلمة، مريضة، قضيتها في حبّك. ذلك الحبّ الّذي كان بلا أملٍ من بدايته، واستمرّ بلا أمل، ولم ينتهِ."

هذا ما كتبه "المرحوم" في رسائله إلى أسماء. و"المرحوم" هو بطل رواية "أمير تاج السر" الأخيرة (366). لا أعلم لماذا أشعر بأنني -بما أقوم به حاليًّا- أشبه "المرحوم" بشكلٍ أو بآخر، وكأنّ شخصيّات الأفلام والروايات، الهائمة، و"الداخلة بالحيط" ملتصقةٌ بي أو أنا الذي ألتصق بها.لا، أنا أختلف عنه، فالأمل، هو الحدّ الفاصل الذي يجعلني على طرف، وهو على طرف النقيض. فأنا ما زلت مؤمنًا بما صوّرته لنا الرّسوم المتحرّكة أيام الطفولة، بأنّ الأمل، شعاعٌ ينبثق من لبّ المغارة، بعد أن يكون أحدهم قد يأس من احتماليّة وجوده. لا بدّ أنّ الأمل موجودٌ في مكانٍ ما، وأنّني لا أكتب هذه الرسائل عبثًا.

أتخيّل نفسي بعد زمن طويل، جالسًا على "كرسيٍ" هزّاز، وليس ثمّة شعرة سوداء في جسدي، يكاد يقتلني الضّجر، فأتذكّر فجأةً أنّني كتبت رسائلًا يومًا ما، عنونتها بـ "رسائل من الزّمن الجميل". أظنّ أنّني سأنسى وجع المفاصل حينها، وآلام الكبر المُختَلَقة، وأجري لزوجتي، أجرّها من يدها ببلاهة طفلٍ صغير، أجلسها على حافّة السّرير، وأبدأ بالقراءة لها من هذه الرّسائل، مؤكّدًا بكثيرٍ من الخبث أنّني لم أكتبها لأحدٍ سواها، ولن تصدّقني هي.

حتمًا ستكون لحظةً حميميّة، تتجسّد فيها حقيقة أنْ "إيه.. في أمل"، وأنّه وإن توارى قليلًا، فلن يُسْلِمَنا أبدًا للبؤس والوحشة، اللذين بدءا ببسط نفوذهما على الواقع، بهمجيّة مستفزّة.


رسالة (3): قرأت يومًا عن كاتبين، تبادلا الرسائل بينهما لثلاثة أعوام، بعد أن أبديا لبعضهما إعجابَ كلٍ منهما بالآخر، وبما أنجز من أعمال طوال حياته. وكانا يبعثان لبعضهما الرسائل بالبريد، ويتجنبان الهواتف والبريد الإلكتروني في تلك العمليّة قدر الإمكان. حقيقة، أرى الموضوع في غاية الجمال، وكم أتمنى أن أستيقظ يومًا على صوت ساعي بريدٍ فضولي، كماريو في مسرحية "ساعي بريد نيرودا". أو أن أتذكر فجأة، بأنّني لم أفتح صندوق البريد لشهر أو ربما شهرين، فأفتحه، لأجد رسالة من عاشقةٍ مجهولة، تبثّ مشاعرَ زائفة ومكثّفة في رسالة لا تتعدّى النصف صفحة، تمارس فيها دور بطلةٍ في إحدى الرّوايات السّخيفة، وتنتظر أن يأتيها ردّا لن يأتِ، حتى وإن جاء كاتبٌ قديرٌ وعدّل من شخصيّة تلك العاشقة البلهاء!. أو من عجوزٍ أرسل لابنه الذي لم يره منذ أربعين عامًا، ووصلتني عن طريق الخطأ، لتكمل الحياة إحدى دوراتها القاسية في تعذيب بني البشر.

هل تتخيلي كم هو جميل ذلك الشعور؟ سأبوح لكِ بسرّ هو أقرب إلى الأمنية. أتمنى لو تكون أوّل رسالة أتلقاها بالبريد منكِ. وقتها، سأكون أسعد إنسانٍ في هذا الوجود.


رسالة (4): لقد قلتُ بأنّني سأكتب رواية يومًا ما، لا أعرف متى، لكنّني سأكتبها. لا أريد أن أتعرّض لاختبار النّجاح أو الفشل، ولا أريد أن أضع رقبتي تحت مقصلة النقّاد، فلا حاجة لي من التّأكد من حدّتها، يكفي ما حصدته من أقلامٍ قبلي، لأتيقّن بأنها لا تلتفت إلى الحالمين أمثالي. إلّا أنّني سأكتبها.

 شاهدت أفلامًا كثيرة عن الكتابة، وهناك شيء ما يدفعني للكتابة عن "Calvin" بطل فيلم "Ruby Sparks" تحديدًا. لو شاهدتِهِ، لن تصدّقي كم يشبهني، لا تنظري إلى المظهر الخارجي، فهو يفوقني جمالًا بشكلٍ لا يدع مجالًا للمقارنة، لكنّه يشبهني بأسلوب حياته، بطريقة تفكيره، بجنونه الهادئ، ربّما بكلّ شيء!. أنتِ لا تشبهين "Ruby" في الفيلم، فأنتِ أجمل منها بكلّ شيء، وهنا أتساءل، لو أنّني كتبتك في رواية كما فعل "Calvin" مع "Ruby"، هل ستكون روايتي أجمل منها أيضًا، وأجمل من الفيلم؟ لننتظر ونرى.
           

رسالة (5): في الآونة الأخيرة، اكتشفت أنّني أكره جميع فصول السّنة، وكان لا بدّ من حزم أمري بهذا الشّأن، إذ لا يصحّ أن أكون بهذا القدر من الجحود. في السّابق كنت أعتقد أنّ الرّبيع، شهريَ المفضّل، واكتشفت مؤخّرًا، بأنّه ليس بذلك الجمال، حتّى خضرته الّتي تغنّى بها الكثيرون، لم تعد ظاهرة مع هذا القدر الهائل من العمران. وعلى الرّغم من إعادتي للنّظر بشأن علاقتي بالفصول، فإنّي لن أعيده بشأن الصّيف والشّتاء، فهما فصلان أخرقان، يجلبان الكآبة من شدّة الحرّ والبرد، لذلك لن ألتفت صوبهما.

تستطيعين القول بأنّ فيروز كانت عاملًا مهمّا في تحويل نظري صوب الخريف، ولا أعلم كيف كنت أعمًى إلى هذا الحدّ الّذي جعلني لا أرى كلّ الجمال المكنون في ثنايا هذا الفصل الجميل. المعظم ينظر له نظرة الفصل الكئيب، المملّ، ذو الّلون الأصفر الباهت، وأوراقه المتساقطة. لكنّي أرى في كلّ هذه الأشياء أمورًا موحية، وجذّابة، وتدفعني دفعًا، لأقول بأنّ الخريف هو فصلي المفضّل.

"بتزكّرك كل ما تيجي لتغيّم
 وجّك بزكّر بالخريف
بترجعلي كل ما الدّني بدها تعتّم
متل الهوا اللي مبلّش عالخفيف"





رسالة (6): "ثمّة وجوهٌ تألفها من المرّة الأولى، ويمكن أن تقسم واثقًا بأنّها لن تكون عابرة." وأنا أيضًا، أكاد أقسم أنّ إبراهيم نصرالله قد شاهدكِ قبل أن يكتب عبارته هذه.

  • ملاحظة: ربّما كان يجدر بي أن أكتب هذه الرّسالة (الرسالة 6) في الجزء الأوّل من الرّسائل، لا في الثّالث. لطالما اعتقدت بأنّ الكتابة فعلٌ خارجيّ، لا داخليّ. تحتاج إلى ما يستفزّها كي تخرج منّا، وأنا هكذا، بكلّ بساطة، ألحّت عليّ هذه العبارة كثيرًا في الآونة الأخيرة، وكان لزامًا عليّ أن أدرجها في إحدى هذه الرّسائل، كي أرتاح من ثقلها المتوقّف على حافّة البوح، على الرّغم من أنّها قد تبدو غير متناسقة مع مضمون هذا الجزء من الرّسائل. 







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق