كان عليّ أن أكتب عن
هذا الحدث قبل ما يقارب الأسبوعين، لكن الكتابة بالنّهاية رغبة، وإن لم تتوفّر، فلا
أستطيع أن أكتب كلمةً واحدة. في 11 أيّار، أي قبيل اثني عشر يومًا، أقامت السّفارة
الهولنديّة في المدرّج الرّومانيّ، في وسط البلد، احتفالًا موسيقيًا، لأوركيسترا
صغيرة تعزف مقطوعات لموزارت. عندما وصلني الإعلان عن الحفل، لم أقاوم فتنة الفكرة "موزارت في عمّان". فقرّرت إلغاء كافّة ارتباطاتي ذلك اليوم (وأغلبها
كانت ارتباطات دراسيّة) كي أشهد ذلك الحدث الّذي لا يتكرّر في العمر إلا قليلًا.
ساعةٌ ونصف، كانت كافيةً
كي تزدان فيها عمّان بأبهى حللها، كزهرةٍ عنيدةٍ شقّت طريقها وسط الشّوك. ساعةٌ
ونصف، كانت كافيةً كي تنقلب فيها الوجوه المتجهّمة، المنهكة من وقع "الظّلام
العربيّ" المخيّم على الأجواء، إلى أخرى زاهية، مزدانة بابتسامة ما فارقت
شفاه أحدٍ من الحضور. وكانت كافيةً أيضًا، كي تزيح عنّي همّ الدّراسة، الّذي بات
كبيرًا فجأة، ولم أشعر به.
لطالما قلت أنّ الموسيقى
هبةٌ من الله للبشر، وأنّها من أهمّ عوامل السّلام على الأرض، وأداةُ جمعٍ نسيها
السّياسيّون، أو تناسوها لأسبابٍ ستبدو غير مقنعة على الإطلاق، فيما لو أعلنت. لا
أريد أن أنحرف لأكتب عن جمال الموسيقى، وما تفعل بي عندما أسمعها، لأنّي لو فعلت، لن
أتوقّف إلا بعد لأيٍ طويل.
الاحتفال ضمّ ثلاثةَ أجزاءٍ، أولاها ابتدأت بثلاثِ سيمفونياتٍ (أجهل أسماءها، ولا أظن أن الاسم مهمّ
هنا). في الجزء الثّاني كان هناك مغنيّة أوبرا صغيرة وساحرة، أضفت على الجوّ حضورًا
أخّاذًا. أظنّ أنّني مدينٌ لها باعتذارٍ صغير، لأنّني ما انفككت أقارنها بعملاق الأوبرا (بافاروتّي) ولا أعلم لماذا. رغم جمال صوتها، الأشبه بترنيمة عصفورٍ
طَرِبٍ، وحضورها القويّ، كشجرةٍ وارفة الظلال. إلا أنّني كنت أبحث عن صوتٍ مزلزل، يهز
أغشية أذني، غشاءً غشاءً، لكن ذلك لم يحدث، وليس لعيبٍ فيها، بل لرغبة جامحةٍ منّي،
تكاد لا تشمل إلا عددًا قليلًا ممن يملكون تلك الموهبة بالعالم أجمع. الجزء
الثالث، عاد بلا مغنّية، مع مقطوعاتٍ أخرى، أغلبها كان أيضًا لموزارت، إلّا واحدةً
كانت لمؤلّف إنجليزي لم يفصح المايسترو عن اسمه.
انتهى العرض يومها، وعدت
إلى البيت وحيدًا، كما كنت أيضًا في الاحتفال، ألملم بقايا ذكرياتٍ جميلة، لا بدّ
أنّني سأسردها يومًا على أحفادي، الّذين أتخيّلهم كثرًا. كان عرضًا مبهجًا حقيقةً،
يبعث على التفاؤل، ولو قليلًا. ويعيد لعمان، روحها، الّتي باتت مبعثرةً، هائمة في
طريقٍ لا تلوح له نهاية. انتهى العرض، وخلّف جملةً في الحلق، شقّت طريقها إلى السّطور الآن: "ما
زالت عمان حاضرةً".
- هذه
بعض الصور، التقطتها قبل وأثناء العرض:
الساحة خالية، قبل دخول أعضاء الأوركيسترا
أثناء العرض، وعزف أحد المقطوعات
مغنية الأوبرا الشابّة
جانب من الحضور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق