الثلاثاء، 23 أبريل 2013

انفجار "سعيد"


          اليوم هو موعد خروج "سعيد"  من السجن، ملأ الحدث الدنيا. لم يعد هناك جريدة أو قناة إذاعية إلا ونقلت الخبر. سيخرج أكبر مجرم خان الحالة الاجتماعية السائدة بالبلد، كانت تهمته أن البؤس لم يدخل قلبه قط.

          "الملعون، لقد خرج" قال رجل عجوز يجلس في قهوة ضجرة وهو يقلب الصحف بين يديه.

                                                                         ***

          استيقظ باكرًا يومها، كان يتوق لسماع صوت البلابل مجددًا، خرير الماء في النهر المحاذي لمنزله، رائحة شجرة التوت التي زرعها جده "سعيد الأول"، منظر الشروق والغروب من شرفة المنزل…  

          رتب حقائبه وجلس ينتظر "الدقة المقدسة". دقة الساعة الثانية عشر ظهرا، موعد انتهاء فصل من روايته الطويلة، وبدء فصل أكثر إثارة وتشويقًا. "سأكتب عن حياتي يومًا ما.. سأسمي الكتاب "سعيد والبؤساء" أعلم أنه لن يروق أحدًا لا النقاد ولا العامة، لكن أن تكون السعيد الوحيد بين ثلة العميان هؤلاء، فهذا إنجاز يستحق أن يخلّد بين دفتي كتاب" قال ذلك لنفسه وهو يراوح ببصره بين الساعة وموطئ قدميه.

                                                                         ***
          في غمرة تفكيره تلك، نسي أن يلحظ التقاء عقربي الساعة عند الثانية عشر ظهرًا، مما اضطر مأمور السجن أن يذهب ليحضره  بنفسه. نظر إليه بطريقة المسح العمودي (من أعلى إلى أسفل)، حرّك حاجبه الأيمن إلى أعلى، إشارة إلى الطريق التي عليه أن يسلكها.

          أكمل الإجراءات الروتينية، وقع ورقة خروجه. وانطلق...

                                                                         ***

          استقبله الناس كوغد أو كوحش فارّ من البرّيّة. بيافطات تطالب بإعادته للسجن، وأخرى تقذفه بأقذع الشتائم. "الأوغاد يكونون أبطالًا أحيانًا، حتى لو لم يقدّروا في زمانهم" هكذا فكر وهو يشاهد كل ذلك العداء المصوب تجاهه.

                                                                         ***

          أول ما فعله بعدما عاد لبيته، أن أخرج اسطوانة فيلم "عطر امرأة" لـ العبقري "Al Pachino"، تناسى أنه شاهده أكثر من عشر مرات قبل دخوله للسجن، بل أنه كان يحفظه عن ظهر قلب. شاهده كما لو أنها المرة الأولى. بعد أن أنهاه، ذهب ليستعيد ذكراه مع مكتبته القديمة. كانت تنقصه الموسيقى في تلك اللحظة، فمد يده إلى فسحة بين كتابين، وأخرج كتاب "الموسيقى" لجبران خليل جبران، ساعده صِغر حجم الكتاب على إنهائه في وقتها. عادت مؤشرات السعادة تتجه للأعلى في رسم حياته البياني، كسهم لاقى رواجه في البورصة أخيرًا.

                                                                         ***

          خشيت أن تعلن فرحتها بخروجه، فلو قامت بذلك، لكانت قد وقعت صك طردها من الحياة بنفسها، وإلى الأبد. التزمت "التكشير" كلما رأت أو سمعت اسمه في جريدة أو على قناة تلفزيونية. كان هذا في حضرة الآخرين، أما في خلوتها مع نفسها، كانت تقارع أشواقها لمقابلته، فتصرعها أشواقها بالضربة القاضية. رقدت في الفراش أسبوعًا بأكمله، لم تكد تنخفض فيه حرارتها إلا وتعاود الارتفاع. كانت في عالم آخر، عالم تسكنه عيناه المشرقتان، وشفتاه اللاهبتان، اللتان لم تتوقفا عن تقبيل الحياة، طيلة معرفتهما ببعض.

                                                                         ***

           بعد أن استعاد جزءًا من حياته السابقة، كان الوقت قد حان لموعد مع روح أخرى، مع تناغم كوني آخر بعيدا عن كتبه، وموسيقاه، وأفلامه، وعالمه الأثير ذاك. رتب لهما لقاء في قهوة عامة، دهشت لجرأته، فكيف سيقابلها أمام كل أولئك الكارهين له؟ ألا يخشى على نفسه؟ وأنا، ماذا سيحل بي إن وصل الخبر لأهلي؟ كان كمن قرأ أفكارها قبل أن تَرِدَ على ذهنها، قال لها، اجلسي على طاولة في زاوية مكشوفة، سأكتفي بالنظر إليك من بعيد. لم يكن أمامها خيار إلا أن تقبل، أو تكون صريعةً لهواجسها، فقبلت...

                                                                         ***

           وصلت مبكرة إلى موعدها مع المستحيل. كان قد وصل قبلها. لم ينشغل بألسنة اللهب التي أطلقتها كل العيون المحيطة به عليه. بل كان يقابل كل واحدة منها بسيف ابتسامته، فيفتر لهيبها قبل أن يصل ذروته.

           شاهدها يومها بكامل زينتها، كان يود لو يصرخ، ويصرخ. مشيرًا إلى جمالها، لم يقم بذلك خوفًا عليها. انتبهت لوجوده، وكانت تعقد ما بين حاجبيها كلما التفتت تجاهه، كانت تود لو تقول للجميع أن "كشرتها" المصطنعة تلك، ما هي إلا ابتسامة مواربة، أنتم من سرقها وأحالها إلى وضعها الحالي، لكنها صمتت، واكتفى هو بمنظر حاجبيها المعقودين.

           ظل جالسًا ينظر صوبها، حتى بدا له أن الجميع قد بدأ يلاحظ ذلك. حينها هب من مقعده، خرج من المطعم، كان يعتقد أنه لو أخرج كل تلك المشاعر المحصورة في إطار جسده، فلن يستطيع الكون بأكمله أن يحتويها، قرر أن يجرب، فوقف على تلة عالية، مد ذراعيه بكامل طولهما، واحدة إلى الشرق والأخرى إلى الغرب، صرخ الصرخة الأولى، فارتج المكان من تحته. صرخ الثانية، فتداخلت الأبنية ببعضها، ولم يعد يرى شيئا. صرخ الثالثة، فانفجر.. وكان ذلك اعترافًا كونيًا بالضعف أمام كتلة السعادة تلك. 

                                                                                                                                      ن.ع.م




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق