جلس خلف نظارته، أمامه ورقة بيضاء كبيرة، كان يعتقد
أنه الوقت الأمثل لكتابة قصة عالقة منذ شهر. "سأكتب الكلمة الأولى، وبعدها
تأتي الكلمات تباعًا". قال وهو يراقص القلم بإصبعيه الإبهام والسبابة.
مشى القلم خطواته الأولى، فسقط. عاود النهوض والمشي بسرعة أكبر هذه المرة، تتالت
السقطات والوقفات، تمامًا كالطفل في بداية تعلمه المشي. الخربشات تثيره، تدفعه
للكتابة بجنون أكبر، تعطيه شعورًا بأنّه قد أنجز عملًا ما، كان يعرف أن مصير تلك
الخربشات منتهيٌ إلى سلة المهملات، كما هو حال قصته التي شرع بكتابتها منذ لحظات،
لكنه كان حريصًا على الاستمرار.
في يومٍ ما، أصابه مرض أجلسه في الفراش، فزاره أصدقاؤه في العمل، ومنهم أستاذ في
الأدب، لديه أنف جرذ، يصطاد الكلمات على بعد ميل. التقط ورقة ملقاة على جانب
السرير، قرأها فانبهر بها. سأله عنها، فاخضر وجهه، تمامًا كأفلام الكرتون. ردّ
عليه بشيء من الجدّ أنها ليست بذات قيمة. أنكر الأستاذ عليه ذلك، وأكّد بأن ما
قرأه جدير بالاهتمام. فقال له – كمن أراد أن ينهِ المسألة قبل أن تبدأ - :
"لَستَ بكاتبٍ إن لم تأتِ بشيءٍ جديد، شيء من قبيل زوربا، زرادشت، دون
كيخوتة، أبله دوستويفسكي. هذا ما أعده أدبًا، أمّا ما سواه، فمجرد طاقات لم تجد
سبيلًا لها إلا على الأسطر الميتة، تستطيع القول أنهما ميتان والتقيا."
صُدِمَ الأستاذ مما سمع. لم يعد هناك في الجو متسع لردّ آخر، الصمت أجدى، أو تغيير
الموضوع.
استمر ذلك اليوم في المحاولة، كتب بداية عن "ختيار" قاد ثورة شعبية، ولم
تنجح ثورته. لم تعجبه النهاية، وبحركة نصف دائرية من يده، مع قليل من القوة، رمى
القصة إلى الطرف البعيد من الغرفة التي يجلس بها.
كرر المحاولة فكتب عن سلالةٍ من الكلاب قرّرت أن تنهِ الصراع الأزلي مع القطط،
بالزواج منها. رفضت أول قطة تقدم كلب لخِطبتها الزواج منه، وأعلنت القطط حالة من
العصيان المدني على الكلاب... رفع بصره قليلًا عن الورقة، ليشاهدها من زاوية
القارئ لا من زاوية الكاتب، لم تعجبه أيضًا لأنها بنظره تخون القضية الأسمى لهذا
الكون (الحب). ولأنها أيضًا تحرض على التفرقة العنصرية، فمزقها دون أن ينظر لها.
ظل هكذا يحاول ويفشل، حتى لمعت في ذهنه فكرة انتظرها طوال عمره، لقد وجد
"زورباه" المفقود، إنّه هو (أي شخص الكاتب). قرّر أن يكتب عن حروبه مع
الكلمات، والمعارك الطاحنة التي أسفرت عن آلاف "الأقلام" الشهداء، ومئات
سلال المهملات الممتلئة بالصفحات الخائنة. وأخيرًا عن خيانة اللون الأبيض له،
واستبداله بالأصفر ظنا منه بأنه أكثر الألوان حيادية.
استولت الفكرة على أحاسيسه، لدرجة أنه قرر النوم لحظتها، كي يستجمع كامل قواه
لمعركته الأخيرة!...
بدأ بالكتابة صباح اليوم التالي، ظل يكتب يوميًا حتى انتهت القصة، طوال فترة
كتابته كان يكتب بوتيرة ثابتة، قبل أن يصل إلى النهاية. فلما وصلها تباطأت سرعته
للنصف، أما النصف الآخر فقد استهلكه في الحزن على النهاية المزمع كتابتها. أحزنه
مصير البطل كثيرًا، وبكى عليه كما لم يبكِ من قبل. فالبطل فيها انتحر بعد آخر كلمة
كتبها، وكانت هذه آخر عباراته ""أرجو أن تنشروا هذه الكلمات بعد
وفاتي."
ن.ع.م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق