عادة، أجد صعوبة في الإمساك بخيط
الكلام، خاصة إذا كنت بصدد التحدث عن شيء جميل. لا هو شيء علا الجمال بمرحلة أو
مراحل، لذا يصعب علي وصفه. هو فقط شيء عذب يتمكن من القلب من أول بادرة، ويظل
متمكنًا منه حتى يذهب، هكذا بلا أي مقدمات، تماما كما أتى بلا مقدمات. لا يهم،
طالما أثره موجود في قلوبنا. فكما أننا نعلم أن هذه الحياة زائلة، يزداد تعلقنا
بها، لا لشيء إلا لأنها تركت لنا فتاتا من الذكريات لنقتات عليها.
هكذا كان فيلم "عطر امرأة" للرائع "ألباتشينو"، كان فتاتا
عظيما، هو من نوع الأفلام التي يرد على ذهنك أثناء مشاهدتها أنه "مجرد
فيلم" لكنك بسرعة تعود وتكمل الجملة المبتورة تلك "بل هو مجرد فيلم "عظيم".
يخرج ألباتشينو بهذا الفيلم من قمقم فيلم "العراب (The Godfather)" و فيلم
"الندبة (Scarface)"، ليتحول من شخصية رجل المافيا التي أطلقته للعالمية وأظهرت
براعته بتلك الأدوار، إلى ذلك الرجل الأعمى، الكولونيل السابق في الجيش. فرانك
سلايد.
للوهلة الأولى تظن أنه مهما نفذ أدوارًا جميلة، فإن رجل المافيا الصغير القابع
بداخله سيطغى على مخيلاتنا ليحرمنا من إبداع آخر. لكن ما عليك سوى أن تنتظر دقيقة
أو ربما دقيقتين كي تسمعه يطلق تلك الضحكة الغريبة، ويصرخ بصوته الأقرب للنعيق.
عندها فقط ستجحظ عيناك، وتتطاول رقبتك شوقًا لمعرفة المزيد عن هذه الشخصية
الجديدة.
الكولونيل (فرانك سلايد) (ألباتشينو) يقيم عند أقاربه للاعتناء به بسبب فقدانه
للبصر. لكنهم قرروا أن يغادروا في عيد الشكر (ThanksGiving) لقضاء
الإجازة بعيدًا، ويلزمهم من يرافقه ويعتني به في تلك المدة. تشارلس سيمز الطالب في
مدرسة بايرد سيكون هو ذلك المرافق. بداية كان تشارلس مقيتًا ومملًا لأبعد حد، لكن
ذلك لم يكن ليقلل من استمتاعي بِجُمَل الكولونيل اللاذعة التي ما انفك يطلقها على
تشارلس مهينًا له، دافعًا إياه لترك العمل قبل أن يبدأه.
أخذ الكولونيل تشارلس في رحلة إلى نيويورك. وهما في الطائرة قال له "إنها
مجرد البداية يا بني"، المترجم العربي أوردها بهذا الشكل "إنها مجرد
بداية تعليمك يا بني". يمكن القول أن المترجم أخطأ هنا، لكني أجد نفسي ميالًا
لترجمته تلك، فالكولونيل سلايد كان أكثر من معلم، كان ذواقة، يعرف الجمال أين يقبع
فيمشي له دون الحاجة لعينيه، فهو يعرف كيف يذهب دونهما.
فاجأني في كل مرة وهو يذكر أسماء عطور النساء - بشكل لا يقبل التدقيق وراءه - وهو
يشمها من على بعد أربع أو خمس مقاعد، أدهشني كيف يلبس، يشرب، يأكل، يمشي، يفكك
مسدسًا إلى أشلاء ويعيد تركيبه بـ خمس وعشرين ثانية. كل ذلك وهو
"أعمى"!، لا وبل يرقص التانغو أفضل بمئات المرات من راقصين يفتحون
أعينهم على وسعها.
كانت المشاهد الرائعة تنساب كنهر لا يعرف التوقف، كل مشهد وكل كلمة كانت أجمل من
الأخرى، لكن حتى الجمال يمكن المفاضلة فيه. في أحد المشاهد، قرر تشارلس أن يعيد
البهجة إلى قلب الكولونيل الذي شابه نوع من الحزن. فذهبا بنزهة بسيارة
"فيراري" ظل الكولونيل مكفهر الوجه كالصحراء، إلى أن قاد السيارة بنفسه!
عند تلك النقطة أوقفت مشغل الأفلام، صدمني كيف سيقود السيارة "أعمًى"؟!
المشهد مذهل، وتاريخي، لا يمكنني أن أستذكره إلا وترتسم على شفتاي مجموعة ابتسامات
تتجمع لتشكل ابتسامة كبيرة، سأتركه لكم في النهاية لتحكمو بأنفسكم.
النهاية كانت بخطبة عصماء، نفتقدها اليوم في أيامنا هذه، فلم يعد هناك أشخاص
ملهمين إلا في الأفلام. نحتاج إلى ذلك النوع من الأساطير كالكولونيل في حياتنا،
فحياة بلا أساطير حياة جافة يسودها التملق والرياء والظلم، يسودها نوع من شريعة
الغاب التي كانت ستطبق على تشارلس لولا تدخل الكولونيل.
الخطبة تاريخية، وأفكر بأن ألقيها أمام نفسي لاحقًا على أمل أن يعديني ذلك الرجل
بسحره. باختصار الفيلم يفوق الوصف، جميل حد الهذيان، أنصح بمشاهدته وبشدة.
هذا مشهد قيادته للفيراري وهو لا يبصر إلا الظلمة
أمامه:
وهذا مشهد رقصه للتانغو:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق