يقول أورهان باموق
في متحف البراءة "في الحقيقة أنّ أحدًا لا يعرف أثناء عيش اللحظة أن تلك هي
أسعد لحظات حياته. بعض الناس يفكّرون بصدق (وبين فترة وأخرى) في بعض لحظات
الانفعال أن ما يعيشونه "الآن" لحظة ذهبية، ويمكن أن يقولوا هذا، ولكن
جانبًا من روحهم يؤمن بأنهم سيعيشون في المستقبل لحظات أجمل وأسعد. لأن أحدًا –
وخصوصًا في مرحلة الشباب – لا يمكن أن يستمر بحياته وهو يفكّر بأنها ستكون أسوأ...
وإذا كان الإنسان سعيدًا إلى درجة اعتقاده بأن تلك اللحظة هي أسعد لحظات حياته،
فسيكون متفائلًا بحيث يؤمن بأنّ المستقبل سيكون أيضًا جميلًا". لكن ماذا لو،
سيّد باموق، عرف الشخص (وهو شابّ)، أنّ أسعد لحظات حياته قد ولّت بلا رجعة. ماذا
لو لم يعد له أملٌ بالمستقبل، أو لا يعتقد بوجوده حتّى. لا أعرف لمَ أملك رغبة في تصنيف
كلّ شيء، فهم كلّ شيء، لكنّي أعرف أنّي أتوق للفهم؛ كيف، يا الله، تنتحر فتاة في
الخامسة والعشرين، وهي لمّا تزل تملك الكثير من "أسعد اللحظات" في
الحياة؟ ثمّة أنانيّة، وربّما عنفٌ، في هذه الرغبة بالفهم. الكثير من الأشياء تحدث
بلا منطق، ونأتي نحن كأنّنا أنثروبولوجيّون، ونضع أسبابًا "للظواهر
الغريبة" التي نصادفها. نضع القوائم ونلقيها كقشرة موزٍ في بلدٍ أجبنيّ.
تلازمني رغبة، لا
بالفهم فحسب، بل في معرفة شعوري تجاه هذا الموت المباغت أيضًا. في البداية كنتُ
أعرفُ أنّه شعورٌ بالذنب، شعورٌ ثقيلٌ وصوتها يتردّد في رأسي في آخر مكالمة لي
معها، يومين فبل وفاتها: دير بالك عحالك. كان صوتًا حزينًا، كأنّها تمنّت ألّا
أتّصل بها. كان صوتها كمن عاد من عالمٍ آخر ليأخذ شيئًا نسيه. لكن لا، لم يكن
باستطاعتي مساعدتها، كانت أكثر انغلاقًا من قفل حديديّ، أكثر تكتّمًا من البُكم
ذاته. لا أعرف مسمًّى لما جرى سوى الحزن، حزنٌ دامسٌ كأنّه الليل. حاجزٌ خفي، تودّ
لو تضربه ولا تستطيع، تحاول أن تتقبّله فتصطدم به. لا شيء حقيقي في محاولاتنا
للفهم، فكلّ فهم إنقاذٌ للذات، أنانيّة لا يجب أن نرتضيها. والأشد صعوبة، أنّ
الشيء الحقيقي الوحيد هو فِعلها، بليغٌ دون محسّنات، لا استعارة ولا مجاز فيه.
أحاول، رغبة في
إيقاف الزمن، أن أُمتحف اللحظات الجميلة التي قضيناها سويّة: قُرصُ أغانٍ فارسيّة ولوحة
من الشاهنامة أهديتِني إيّاها، حديثنا عن رواية "ثلج" لأورهان باموق،
حماسكِ عند الحديث عن أستاذكِ في الأدب الحديث د. خليل الشيخ، المعكرونة بالجزر
التي أعددتِها في رمضان قبل الماضي والتي خجلتُ من مصارحتكِ بمدى سوء طعمها، بضعة
تسجيلات صوتيّة تبادلناها آذار الفائت، تشاركنا بتغيير التخصّص للغة العربيّة،
تذمّرنا من سوء تعامل عائلاتنا مع هذا التغيير، معرفتكِ بالأبراج ومقابلة السخرية
منها بتوقّع أبراج الساخرين، أوراق امتحاناتكِ التي صوّرتها، احتفاؤك بلهجتكِ
القرويّة، والمحبّة الباقية أبدًا بيننا. لكننّي أملك رغبة أخرى معاكسة: ألّا أكمل هذه القائمة الآن، لتظلّ مزارًا أعوده لحظة اشتياقٍ إليكِ، كما أرغب أن تبقي أنتِ خارج هذا المتحف؛ لتبقى الذكريات فيه، وابقي أنتِ خارجه.
لا أعرف إن كان
بعدي عن الأردن في هذه اللحظة امتيازًا أم خسارةً، لكنّني أعرف، رغمَ اختياركِ
الفراق سريعة سريعة، أنّنا سنتذكّرك طويلًا طويلًا.
جامعة اليرموك 20-07-2017 |
ما في أي كلام ممكن ينكتب
ردحذف:((
كيف لنا نحن الذين كنا خارج البلد حينها ولم نحظى بقربها في تلك اللحظه ، ألا نحظى حتى بمعرفة حقيقة موتها ؟!
ردحذفلله ما اعطى ولله ما أخذ الموت واحد ولكن تفاصيله كثيرة .اشكر لطفك لانك تستذكر ابنتي جوجو او خديجة ولكن لا تستمع للشائعات .
ردحذفارجو التواصل معي 0795633157