الاثنين، 10 مارس 2014

مقطع عرضي من حياتي.. أو رسالة إلى صديق

          أسير في وسط البلد وحيدًا، أحدّق في وجوه المارّة، في السيارات، في أضواء الإنارة الشاحبة. أتذكر ما قاله واسيني الأعرج مرّة في مقابلة تلفزيونية: "شيء ما في المدن العربية يجعلها حزينة دومًا حتى وهي في أقصى لحظات الفرح". ينسرب الحزن من المكان نحوي كأنما أصبحنا كائنًا واحدًا، كتلة واحدة تتعرض للمؤثرات ذاتها، ولها ردات الفعل ذاتها. كلما مشيت في شوارع عمّان، أشعر بفيض من الحب، الانتماء لأصغر ذرة رمل تفترش شوارع المدينة. تسألني أمي كلما خرجت من المنزل: مع من أنت ذاهب؟. أكذب عليها، ولا أقول أنني خارج وحدي حتّى لا تشغل بالها قبل أن تغمض عينيها على الوسادة بابنها قليل الأصدقاء.

          أسير في وسط البلد وحيدًا، وظلّك يسير بجانبي. ندخل إلى المكتبة الأهليّة المخيفة بكتبها المتراصّة على الجدران؛ كلما زرت هذه المكتبة، يراودني شعور باحتمالية سقوط الكتب من الأرفف، محيلة أحدهم إلى جاحظ جديد. تقف أمام روايات أمين معلوف؛ فأصدر حكمي الذي أندم عليه لاحقًا "ممل.. تقرألهوش". ثم تنصحني بنظرة العارف "شايف هذا الكاتب (محمد أركون)، لو شفتله كتاب بالزبالة، طوله واقرأه". أتفحص جيبي كثيرًا قبل أن أشتري كتابًا أعلم أني لن أقرأه في القريب، وتشتري أنت واحدًا لأنك قرأته 4 مرّات ولا تملكه ورقيًا. ثم نخرج من المكتبة، وتنظر في ساعتك وتقول: "الساعة ستّة، يالله نروح عشومان" وأنا أتململ، كي أكسب الليلة في غير مشاهدة الأفلام. تمضي نصف ساعة، أقنعك بعدها بعدم جدوى المحاولة: "منت شايف الأزمة كيف" تبتسم مذعنًا، فنمضي بجيوبنا شبه الفارغة- إلا من ثمن طريق العودة إلى البيت – إلى أيّ مكان. نظل نمشي حتى نصل مفترق الطرق بين العبدلي وجبل عمّان، تتذكّر أنك جائع، وتقرّر العشاء بـ "هاشم". كلما سألتك عن سبب حبك له تقول: "مش حب، بس تعوّدت.. كل ما أنزل عالبلد لازم آكل من هاشم ومن حبيبة". تحدّثني عن كونك أصبحت خالًا، ولا أعرف كيف أرد. وأحدثك عن ذات الموضوع الأزليّ؛ عن افتقادي للمعنى في حياتي. لا يطول الوقت، قبل أن نضبط أنفسنا متأخرين عن العودة إلى البيت؛ فأودّعك بلا أية حرارة، وتفعل أنت كذلك أيضًا. 

          أسير في وسط البلد وحيدًا، وأتذكّر سؤال أمّي: مع من أنت ذاهب؟ أنظر يمينًا ويسارًا، ولا يقابلني إلا رائحة البشر، والكثير من الوجوه المفرطة في الحياد. كنت أحسب المكان صديقًا مؤنسًا، فإذا به يتحوّل إلى غابة كثيفة من الأشجار، تختبئ فيها رؤوسٌ تتأهب لافتراسي، أو هكذا يخيّل إليّ. أنظر إلى السّاعة، إنها السادسة مساءً. أخرج هاتفي النقّال، وأرسل رسالة: "تنزل عالبلد، ملّان لحالي؟".. ولا يطول الوقت قبل أن أتلقّى الرّد "عندي دراسة كثير، بلكي مرّة ثانية".





هناك 3 تعليقات:

  1. عجيبة هي قدرتك على وصف البؤس بهذا الجمال ! رغم معرفتي بالمكتبة الاهلية ولكن كلامك عنها اكسبها صورة اسطورية حاولت ان ابعدها عن ذهني بقدر الامكان ولكن دون جدوى.
    كأنك خرجت من شباك اللغة بكل هدوء لتنفذ الى المعاني و الخبرات مباشرة ـ
    كلامك دافئ كحكايا "ستي" عن فلسطين ، بائس كوجه سيزيف ، مغري كحبة بندورة من الحاكورة ـ
    لا استطيع ان اتخيل هذا النص مرافق لشخصك ، اتخيله نص هبط من تعالي حكيم كئيب يرافقك ـ

    ان الألى بلغوا الكمال وأصبحوا* ** ما بين صحبهم سراج النادي
    لم يكشفوا حلك الدياجي بل حكوا *** أسطورة ثم انثنوا لرقاد

    اتمنى لك بحث ممتع عن المعنى .
    _______________

    ترددت كثير قبل ان اعلق على هذه التدوينة خشية ان يقرأ تعليقي احدهم بالخطأ فيخرج من ذلك الجو الجميل ، ولكن بما انك موجود فالامل بنصوص مماثلة ما زال قائم :)

    ردحذف
  2. صديقي عمر، شكرًا للغاية على هالكلام الجميل. المضحك إنه تعليقك يمكن أجمل من اللي أنا كاتبه، بس أنا جدًا مسرور فيه لدرجة مش عارف كيف أرد عليك.

    بالمناسبة الرباعية عظيمة :)

    ردحذف