* المقال كتب لينشر في موقع انكتاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما بين الكلمة والصورة
يضيع الكثير من الخيال، ذلك الخيال الذي يعتاش عليه القارئ، ويرضى به كدافع وحيد لاستمرار
الشغف الذي هو المقابل الوحيد لهذه العملية. لكن في عالمٍ سريع كهذا الّذي نعيشه،
ووسط تصاعد الأصوات القائلة بقلّة أعداد القرّاء، بل وتناقصهم مع الزّمن. أتاح ذلك
المشهد للمستثمرين وصنّاع البلادة الوقوع على كومة كبيرة من
"السيناريوهات" الجاهزة، الّتي تنتظر أن تصل إلى أكبر عدد من المتلقّين.
منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ازدادت أعداد الأفلام المقتبسة عن أعمال
روائية باطّرادٍ كبير، حتّى بات بعض الكتّاب يكتبون وأعينهم مصوّبة نحو الشّاشة. قد يكون لذلك أسباب عديدة، ولست في
صدد نقاشها. ما أودّ قوله، أنّ أيّ متابعٍ بسيط لهذه النوعية من الروايات، بإمكانه
الإحساس بكم الغبن الذي يطولها حين تتحوّل إلى السينما، وكأنها قد أصابها خطأ طبّي
في عمليّة جراحية سهلة، فاستحالت كائنًا مسخًا لا علاقة له بالكائن الأصل.
كان لا بدّ أن يأتي
اليوم الّذي أُسائل فيه نفسي عن مدى الإنصاف في إطلاق الأحكام الناجزة على أي عمل
سينمائي مقتبس من عملٍ أدبيّ. فقط لإبداء شيء من الموضوعية أجبرت نفسي بعد قراءة
كل عمل على مشاهدة نسخته البصرية. في الواقع، لا أستطيع القول أنها تغيّرت كثيرًا،
لكن ربّما أخذ الموضوع طابعًا أقلّ حدّيّة، لإدراكي أن صناعة الأدب مختلفة في
جوهرها عن صناعة السينما، فالأولى قد يرفدها الكثير من المعطيات، كجمال اللغة
مثلًا أو التلاعب بالزمان والمكان، بينما السينما فيها مباشرة وفجاجة أكثر، ويصعب
عليها الإلمام بجميع التفاصيل إذ أن المشهد الحالي هو الحاضر فقط ولا شيء يحدث في
مكان آخر في ذات اللحظة، كلّ شيء يجب أن يصل في لحظة معينة دون البناء على شيء
مسبق، على عكس الرواية التي تعدّ فعلًا تراكميًا يُبنى بتؤدة على مدى الصفحات.
من هنا جاءت نواة هذا المقال،
الذي سأتحدّث فيه عن بعض الأفلام، الّتي أعتقد أنّها أثْرَت العمل الأدبي ولم
تبخسه حقّه:
1-
العطر، قصّة قاتل / Perfume, The Story Of a Murder:
ربما ميزة الأدب الكبرى إطلاق الخيال في فضاءات المجهول، ويتجلّى ذلك في
تخّيل الصورة وإسقاطها على نفسية البطل. حين تقرأ رواية العطر، أو غيرها لا بدّ أن
يراودك "غرينوي" بطريقة أو بآخر، وإن كان ذلك مشوبًا بكثير من الضبابية،
لكن شخصية متفرّدة مثل تلك تفتح باب تأويلها في كافّة الاتجاهات ؛ لذا فإن مغامرة
تجسيدها بشخص ما، وإعفاء القارئ من مشقة تخيلها كما يحلو له لا يمكن لها أن تأول
إلّا إلى نتيجتين: إما النجاح المبهر، أو الفشل الذريع. وقع اختيار المخرج
الألماني "توم تايكوير" على الممثل الإنجليزي "بين ويشو"
ليؤدي دور "غرينوي"، ليقدّم أداء أقلّ ما يوصف به هو الإبهار. شخصية
"غيرنوي" تجلّت في أبهى أشكالها منذ بداية الفيلم وهو مستلقٍ على ظهره
يتميّز رائحة الأشياء: حجارة، دود، ضفادع... إلخ. مرورًا بنشوته البادية وهو يشتمّ
رائحة شعور الفتيات، وصولًا إلى قمّة الحكاية حين واجه غرينوي الجموع المهتاجة في
نهاية الفيلم. يخيّل إليّ لو أنّ غرينوي كان شخصًا من لحم ودم، فلن يكون أكثر
سعادة من ترجمته بصريًا على هذا النحو.
2-
1984:
يحلو لي أن أصف هذه الرواية بالجحيم البشري. لا بد أن جورج أورويل قد أصابه
مسّ شيطانيّ حتّى يخرج بهذا النص شديد القتامة. من التفاصيل المعتنى بها جيدًا
في الفيلم، والذي يتضح ابتداء منها جدّية العمل هو إنتاجه في العام 1984، وهو
العام الذي تدور فيه أحداث الرواية (التي يفترض بها أن تكون في المستقبل). قد يعطي
ذلك، على الأقل لشخص مثلي، انطباعًا بالمصداقية تم إضفاءه على الجو العام منذ
البداية، أو حتّى قبل البدء بالمشاهدة. ومن المشاهد الأولى يتأكد ذلك الإحساس حين
نشاهد جون هارت (وينستون سميث) بعينيه المنتفختين، وجسده الهزيل؛ إذ يبدو أنه ثمة
خطب ما، هناك شيء ليس على ما يرام، ويظل ذلك الإحساس يتكرّس مع مرور كل لحظة في
الفيلم حتّى يصل الرّعب أقصى درجاته مع ولوج الغرفة 101. شكلُ شاشات الرصد،
الشوارع التي لا تشبه شوارع لندن وقت تصوير الفيلم، صورة الأخ الكبير، الأزياء
الزرقاء، الحساء الهلامي زهري اللون، والكثير من الأشياء الأخرى (جميعها أشياء غير
حقيقية وإنما ابتدعها فريق الإنتاج نتيجة قراءة عميقة للعمل)؛ كل هذه الأشياء
تدفعني للإشادة بهذا العمل وبمخرجه الأمريكي مايكل رادفورد، وعدّه من الأعمال التي
ساهمت في إثراء النص الأصلي.
3- ساعي بريد نيرودا / Il Postino:
أحيانًا يراودني شعور، بأن الأدب قليل الصفحات هو أدب مكتوب على عجل، ليس
من الجمال بشيء. لكن أجدني واقعًا في معضلة تشييء الجمال؛ بورخيس مثلًا أحد أكبر
مشكلاته مع الرواية، أنه يستطيع أن يختصرها في جملة واحدة. لو اعتبرنا هذه الرواية
الصغيرة – مجازًا - جملة
صغيرة في مقارنتها مع الأدب الطويل - مجازًا أيضًا - ؛
فإنها وبلا شك، جملة بورخيسية مكتملة الجمال والتكوين. وصل فيها سكارميتا بمزاوجة
بين البساطة والعمق، إلى قمّة الرهافة الإنسانية، فكيف إذن يستطيع مخرج، أيّ مخرج،
أن يسطّر بصمته هو الآخر على عمل قد يكون قال كلّ ما عنده، ولا مجال لاستنطاقه
أكثر؟ قد يزول العجب، حين نعلم أن مخرج هذا العمل، هو ذاته الذي أخرج فيلم (1984)،
إذ يبدو أن تحويل الروايات العظيمة إلى السينما بات شيئًا يسيرًا بين يديه، كما لو
كان يشعل الضوء دون أن ينظر لموضع الأزرار على الحائط.
حين يأتي ذكر هذا الفيلم، قد يكون من المشين تجاوز طاقم التمثيل، خاصّة
العظيم فيليبي نويرت (بابلو نيرودا)، وماسّيمو ترويزي (ماريو / ساعي البريد)،
والّذي للمصادفة، أو ربّما سوء الحظ توفّي بعد إنهاء التصوير بيوم واحد، وكأنما
كان هذا الفيلم الستارة التي أسدل بها حياته، ليجيء بعد ذلك التصفيق من صالة
السينما بعد انتهاء العرض الأول للفيلم، والذي لن ينتهي – باعتقادي – طالما هناك
قارئ، أو مشاهد جديد لكلا العملين، اللذين هما - بشكلٍ أو بآخر - عمل واحد.
4-
زوربا اليوناني / Zorba The Greek:
بعد مشاهدة الفيلم، واستذكار الرواية. جاءني شعور بأن هذه الرواية لم يكن
لها أن تحول إلى الشاشة إلا بالأبيض والأسود. أسلوب السرد الكلاسيكي، زوربا ذاته
الذي يبدو وكأنه خرج للتو من متحف قديم. تشعر كما لو كان هناك طبقة كثيفة من
التراب عليه، وجاء المعلّم / كازانتزاكيس لينفضه عنه. هناك حميمية في الأبيض
والأسود، ربما يعود سببها للماضي؛ فالماضي كما كان للشاعر يومًا: "ألا ليت
الشباب يعود يومًا" هو الزمن الجميل الذي راح ولن يجيء، قد لا يكون هذا
ماثلًا في ذهن المخرج (ميهاليس كاكجيونيس)، إذ أن الأبيض والأسود كان كلّ حيلتهم
آنذاك. لكنّني أقوله فقط كقارئ ومشاهد للرواية والفيلم في الألفية الجديدة. الفيلم
في صلبه لم يأتِ بذلك الشيء، مجرّد تكرار لما جرى في الرواية. لكن ما الذي يدفعني
للقول بتفرّده؟ إنه آنتوني كوين (زوربا)، الرجل الفارع الطول، بلحيته البيضاء
وشعره الأشعث يرقص على ساحل المتوسّط، والمعلّم (آلان باتس) يحاول أن يجاريه. إنه
آنتوني كوين القادر على الذوبان والتماهي في شخصيته إلى الحد الذي بإمكانه إقناعي
بأنه يحيا حياته الأصلية. إنه آنتوني كوين بصخبه وجنونه وحزنه الفجائي، فقط ولا
شيء أكثر.
5- الساعات / The Hours:
يقول ماركيز "في الصحافة يختلّ العمل بالكامل إذا كانت هناك معلومة خاطئة. على النقيض من ذلك، في الرواية تمنح معلومة واحدة حقيقية الشرعية للعمل بالكامل" ولأنّ ما أقوم به حاليًا أشبه بالعمل الصحفي، يتوجّب عليّ أن أقرّ بأنّ هذه الرواية الوحيدة بين الخمسة التي لم أقرأها بل شاهدت الفيلم المقتبس عنها. أعلم أن ذلك ليس بالشيء الذي بإمكاني الافتخار به، لكن ما العمل حين لا يوجد نشاط ترجميّ ممنهج للعربية يمكننا من الاطلاع على الأعمال التي لاقت نجاحًا أدبيًا ما على أقل تقدير؟ فالرواية لكاتبها الأمريكي "مايكل كانينغهام" حازت على جائزة البوليتزر، وترشّح الفيلم الذي أخرجه ستيفين دالدري عنها إلى جائزة الأوسكار لأفضل فيلم عام 2002.
الفيلم هو حالة مركّبة من علاقة 3 نساء لم يرين بعضهن، في فترات زمنية
مختلفة، لكنّهن يتمحورن جميعًا حول الكاتبة الإنجليزية فيرجينيا وولف وبطلتها
السيدة دالاواي في رواية تحمل اسم الشخصية ذاتها. العبقرية في الفيلم يكمن - عدا
عن القصّة التي يطول شرحها- في أداء نيكول كيدمان (فيرجينيا وولف) الفاتن خاصّة في
إخراج المشاعر السلبية المتوارية للكاتبة الإنجليزية وراء صرامة النظام الإنجليزي،
ويتمثّل ذلك في حوارها مع زوجها في محطّة القطار محاولة إقناعه بالعودة إلى لندن؛
فالريف يكاد يقتلها لا إحياؤها كما ادّعى الأطباء. ثم ميريل ستريب (كلاريسّا
دالاواي) وجوليان مور (لورا براون) على التوالي. هذا الإتقان في الأداء الذي حدا
بالأكاديمية لفنون الصورة المتحركة وعلومها بمنح جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة
رئيسية لنيكول كيدمان وترشيح جوليان مور لجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة ثانوية؛
كاعتراف ضمني بأهمّيّة العمل السينمائي، الذي أضاف إلى رصيد الرواية وصاحبها بلا
شك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق