الخميس، 17 أكتوبر 2013

قراءة في رواية "جنوب الحدود، غرب الشمس" لـ "هاروكي موراكامي"

                أكره تشبيه الأدب بالموضة، إلا أنّه أحيانًا يصبح كذلك. كما البيتلز في ستّينات القرن الماضي، ومايكل جاكسون، ومادونا، وغيرهم الكثير كان هاروكي موراكامي يصعد في الفترة الماضية. وساعده على ذلك ترشيحه المتكرّر لجائزة نوبل كلّ عام، حتّى أضحى النّسخة الشّرق آسيويّة من أدونيس.
                لا أستطيع تشبيهه بأيّ شيء آخر، سوى المغنّين. فهو أقرب لكاتب إيقاعيّ، حتّى أنه اعترف بذلك في أحد المقابلات الصحفية "إنّه الإيقاع.. عندما أكتب أفكّر بالإيقاع دائماً، الإيقاع المتحوَّل. أنا لا أعني شيئاً عندما لا أحصل على هذا التحوّل". الموسيقى حاضرة في كل صفحة، ليس فقط موسيقى ليست وفيفالدي وأغاني نات كينغ كول وغيرها، بل حتّى المطر كان إيقاعًا، الثّلج، ضربات القلب، كلّ شيء حتّى الموت كان له إيقاعه الخاص هنا. 

                هناك روايات، يكون السّؤال عن مدى جمالها لئيمًا، ويستفزّني من الدّاخل. اللّعنة، هل كانت جميلة أم لا، إنّه مجرّد سؤال بسيط، لما كلّ هذا العناء للإجابة عنه؟ لكن، يبدو أن الموضوع أصعب من ذلك. من السّهل أن أقول أنّها لم تكن جميلة، بل وباهتة، وفاترة، ومملّة، وتقليديّة، وغيرها من الأوصاف المشابهة. لكنّي لا أستطيع أن أغامر بنقدها، فما منحتني إيّاه من دفء كان يصعب على رواية أخرى أن تمنحني إياه بسهولة. أشعر أنّي أعرف هاجيمي، كما لو كان زميلي في مقعد الدراسة. وأشعر أيضًا أنّي على صلة بشكل أو بآخر بشيماموتو، هي أقرب لصديقة حميمة، تستطيع أن تبوح لها بما يختلج في صدرك من هموم، وأحلام عابرة دون أن تفكّر مرّتين

***

"تظاهر بأنّك سعيد عندما تكون حزينًا

عمل ذلك ليس صعبًا"

                الرّواية بأكملها تدور حول هذين المقطعين. دائرة ضخمة لا متناهية، رأسها يتصل بذيلها، سلسلة عبثية كان يدور فيها موراكامي، يحاول أن يقنع نفسه أنّ الحياة جميلة بما يكفي لأن تعاش، هو مقتنع بذلك فيضع لنا هذه الأغنية كخلفيّة دائمة، كأنه يشير إلينا بسبّابته: "أرأيتم، إنّ الحياة سعيدة، أنا متأكّد من ذلك، أنا متأكّد.. ولأثبت لكم ذلك، هاكم، استمعوا لهذا اللحن العظيم" لكن في الواقع، هو يدرك أنّ الجمال، ليس إلّا صوت نات كينغ كول، لا ما يقول. وإلّا لما خلق بطلًا وأسماه هاجيمي - البداية. وإلّا لما أنهى روايته ببداية لحياة جديدة يعتقد فيها هاجيمي أنه سيكون إنسانًا أفضل، وكأنّه أعاده بيديه إلى الدّائرة من جديد، بعد أن بدّد الشّك قواه الذّهنية

                لو أنّ الرّواية كانت أكبر حجمًا، لأقسمت أنّ هاجيمي كان سيرتكب الأخطاء ذاتها، ويبدأ بدايات جديدة كلّ مرّة. إلّا أنّ موراكامي خفّف عنّا ذلك العناء بجملته الختامية: "إلى أن أتى شخص ووضع يدًا بخفّة على كتفي، كانت أفكاري تدور حول البحر"، ووضع نقطة أنهى بها دورة لا تنتهي من العبث.


***

                أعتقد أن هذه رواية "بحث عن الهويّة" بامتياز. طفل وحيد ملقى في عالم لا يعترف بالوحيدين. لا بدّ أن يعاني طويلًا حتى يتعرّف على نفسه بين كل تلك الحشود. كانت شيماموتو هي المرآة التي استطاع من خلالها أن ينظر إلى نفسه، فتعلّق بها. وليخلق عقدة/رواية، باعد موراكامي بينهما. أنهك هاجيمي ذلك السؤال: من سيملأ الفراغ الذي خلفته شيماموتو، ذلك الفراغ الذي كاد يبتلعه؟ في الحقيقة، لا أتوقع من فتى في السّادسة عشر أن يجيب عن سؤال كذلك بسهولة، ولأنّ الإنسان لا يتعلّم إلا من تجاربه، واعد الفتاة الخطأ - أزومي، فكانت أوّل إنسان يسبّب له جرحًا غيّر به مجرى حياتها.. إلى الأبد. "قد يتغيّر الناس في عشرين سنة لكنّي عرفتها. الأطفال يخافون منها. قال صديق قديم. عندما سمعت ذلك لم أفهم ما القصد من كلامه. لم أدرك ما ألمحت إليه تلك الكلمات. لكن الآن، وأزومي أمام عينيّ، فهمت".




                ثمّ كانت يوكيكو، خطأه الثاني، لكن هذه المرّة لم يمتلك الخيار في إدخالها حياته، فقد كان ذلك أمرًا لا مفرّ منه. فيوكيكو كانت الجسر الذي عبره حتى يلتقي بشيماموتو مجددًا، وكأنّنا لا نستطيع أن نقوم بنزواتنا بعيدًا عمّن نحب، لا بد لظهر أحدهم أن يُوطأ حتّى ينعم آخرون بلحظات سعادة مسروقة

*** 

                أعشق الرّوائيين الأذكياء، أولئك الذين يدسّون كلّ شياطين الأدب في تفاصيلهم، لا أستطيع أن أمر على كلّ ذلك الزّراق الذي يكلّل ملابس شيماموتو دون أن أربطه بموسيقى البلوز أو بأغنية "Pretend" لنات كينغ كول حين يقول "Pretend you're happy when you're blue" (وهي أكثر أغنيّة تكرّرت في الرّواية). أيضًا لا أستطيع أن أمرّ على اسم البطل وأن لا أربطه بالنّهاية، هاجيمي يعني البداية، وكذلك كانت النّهاية، بداية أخرى. عنوان الرّواية بحدّ ذاته، كان تفصيلة عبقرية، توليفة ابتدعها خيال هاروكي موراكامي لا نقاش في جمالها. لن أنسى أيضًا أنه أقحم نفسه في الرّواية، دون أن يحمّل نفسه مشقّة إخبارنا بذلك، موراكامي لديه بار جاز في الواقع، وفتحه بمعونة من حميه

                هذا ما أذكره الآن، وأكاد أجزم أن هناك الكثير ليقال في هذا الشّأن
***

* ملاحظة: لاحظت تقاربًا كبيرًا بين الرّواية و"شيطنات الطّفلة الخبيثة" لماريو فارغاس يوسّا (تحديدًا، الظّهور والاختفاء المفاجئ لكلّ من شيماموتو والطّفلة الخبيثة)، لا تفسير لديّ. لكن ربّما هذا يدلّل على عالميّة الأدب، والهمّ الإنساني المشترك

**  ملاحظة أخرى: ذُكِر في ترجمة صلاح صلاح المتداولة للرواية أنّ أغنية "جنوب الحدود" هي لنات كينغ كول، وعند البحث تبين أنّها ليست له، وأنه ربما لم يغنّها في حياته. الأغنية موجودة على "youtube" بصوت "Frank Sinatra"، الموضوع محيّر، ولا تفسير عندي له. لماذا أقول هذا؟ لا أعلم. ظننت أنّه ينبغي ذكر ذلك، ففعلت.


*** ملاحظة أخيرة: التّرجمة كانت رائعة، ومبشّرة، وهو أمر بات قليلًا في الفترة الأخيرة. شكرًا صلاح صلاح.





(أغنية "Pretend" لنات كينغ كول)



(غلاف النّسخة العربيّة (المترجمة))

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق