تعرّفتُ على حسن بلاسم قبل عام، حين أُعلن عن فوز مجموعته القصصية
"المسيح العراقي" بجائزة الإندبندنت للأدب المترجم للإنجليزيّة.
استغربتُ حينها، لعدم إلفي لاسم الكاتب أولًا، ولكبر حجم الجائزة ثانيًا، لا
ماديًا فهي لا تقدّم سوى 5000 جنيه استرليني لكلّ من الكاتب ومترجم العمل، وهو
مبلغ ليس بالكبير في عالم الجوائز، بل للأسماء التي رشحت لنيلها (وأخذها بعضهم) من
أورهان باموق، إلى ساراماغو وميلان كونديرا، وغيرهم.
يبدو أنّ غوغل نفسه لم يعرف حسن بلاسم جيدًا قبل هذا الإعلان، وإن كان لا
يزال متنكرًا له بعض الشيء، إلّا أنّ هذا قد يبدو امتدادًا لشخصيّة الكاتب، أكثر
من إجحاف العالم الرقمي بحقّه. حسن بلاسم، الواصل أقصى الشمال بسكناه فينلندا، ما
زال وجهه متجذرًا في لهيب العراق. يبدو وجهه خليطًا من هنا وهناك، بسماره المغلّف
بقبّعة أوروبيّة. شكله يحيل إلى قصصه؛ مهاجرٌ معلقٌ بين هُويّتين.
رغبتي الأولى في ترجمة المقابلة معه، تعود إلى الشكل الثوري الذي يحمله
أولًا، وإلى قلّة معرفة القارئ العربي بهِ ثانيًا. تجربة بلاسم في كتابة القصّة فريدة، لأنّها
جاءتنا من الخارج أولًا، بعد أن رفضت ستة دور نشرٍ عربيّة نشر مجموعته القصصيّة
الأولى "مجنون ساحة الحريّة" (بعضها كبير مثل الجمل، الساقي، الشروق)،
وما تلا نشرها من حظر في بعض البلدان منها الأردن، ليلجأ أخيرًا إلى النشر
الإلكتروني، كرد فعل دائم على ما جرى له (نشر مجموعته الثانية "المسيح
العراقي" إلكترونيًا أيضًا). وثانيًا، لأسلوبه الأدبي، فهو يعي أنّ حَمل
ويلات بلدٍ ما، أيّ بلد، على كتفي الكاتب قد يعني الانزلاق إلى حيّز ضيق، في
ثنائية بسيطة من الضحيّة والمُتعاطِف. لكنّ قصصه، في التقاطاتٍ ذكيّة على مستوى
الحكاية نفسها أو على مستوى اللغة، تتجاوز كلّ هذا إلى فرادة في الشّكل، لا تخرج
إلّا من صاحبها.
هذا نصّ
الحوار منقولًا عن صحيفة الإندبندنت الإنجليزيّة (23 مايو 2014)، أجري معه إثر
فوز مجموعته "المسيح العراقي" بالجائزة المذكورة سلفًا.
***
تاسيا دوركوفيكيس: كلا مجموعتيك "مجنون ساحة الحرّيّة"
و"المسيح العراقي" هي مجموعات قصصيّة. ما الذي يعجبك بهذا الشّكل؟ وكيف يتلاءم
الشكل مع ما تودّ قوله حين تكتب؟
·
حسن بلاسم: بقدر اهتمامي بالمسألة فلا شيء
مميّز بذاته في شكل القصّة القصيرة، لا يتعدّى اهتمامي بالقصّة القصيرة اهتمامي
بأشكال الكتابة الأخرى، فأنا أكتب الشعر والمقال، أكتب الأفلام القصيرة حتّى أنني
حاولت كتابة بعض المسرحيّات. كلّ هذه الأشكال لائقة وتثير اهتمامي، وكلّ واحدة منها
له تحدّياته الخاصّة. بإمكانها كلّها أن تكون عرباتٍ لنقل المشاعر بطرق حسنة أو سيئة.
بعد تينك المجموعتين بدأت التفكير بجدّيّة حول قضاء بعد الوقت في كتابة السيناريوهات
]للسينما[.
تاسيا دوركوفيكيس: هل نُشرت قصصك في العراق، وكيف كانت ردود الأفعال حيالها؟
· حسن بلاسم: مجموعتي "مجنون ساحة الحرّيّة" طبعت ونُشرت في
لبنان بعد أن قامت الرقابة باقتطاع جزءٍ كبيرٍ من النّصّ. وعلى الرّغم من ذلك،
حُظر الكتاب في الأردن، وكلّما شارك ناشري في معرض للكتاب في بلدٍ عربيّ، كان
الكتاب يُحرم من العرض. نشرتُ معظم قصصي وقصائدي على الإنترنت وبدأت التفكير مؤخرًا
بنشر كلّ ما أكتب على الإنترنت حتّى أتجاوز مسألة الرقابة. كان هناك استقبال
إيجابي ومحفّز بين جيل الشباب العراقي وفي أنحاء الوطن العربي لكتابتي. وعلى النقيض،
كان هناك انتقادات متنوّعة لما أسموه "لغة وسخة تسخر من الأديان
والطوائف" في قصصي.
تاسيا دوركوفيكيس: قصصك تخلط الواقعية (realism) مع الواقعيّة المكثّفة (hyperrealism)، ولها آثار الهلوسة تقريبًا. هل تعتقد أنّ الواقع المعاش في
العراق لا يمكن وصفه بطرق أخرى؟
· حسن بلاسم: صدقًا لا أعلم الشكل أو الأسلوب الأمثل للكتابة عمّا حصل
ويحصل في العراق. بشكلٍ عام لستُ مأخوذًا بما يكتبه عديد من الكتّاب العراقيّين
حول المسألة؛ لغة شعريّة ومتفجّعة حول تراجيديا الدّم! العنف هو في اللحظة ذاتها
أمر كابوسي، مرعب، غير حقيقي. في العراق مورس العنف لما يزيد على الخمسين عامًا
الماضية بكثافة ووحشيّة؛ لقد كانت سلسلة من الألم والكوابيس فجّة الغرابة.
تاسيا دوركوفيكيس: غيّرت الحرب بشكلٍ واضح
المجتمع العراقي بأسره. تصرّفات النّاس في قصصك غير منطقية كما أنّها غير عقلانيّة.
كيف تساعد الكتابة على فهم أحداثِ الماضي؟
· حسن بلاسم: ليس من السّهل انتزاع
الأمل من الإنسان. المجتمع العراقي بحاجة لمزيد من الوقت، لكن قبل ذلك على الظروف
السياسيّة أن تستقرّ، ما يعني أيضًا أنّ على الرأسماليّة الغربيّة ودول الجوار أن
توقف معاركها الدائرة داخل البلد.
تاسيا دوركوفيكيس: قصّة "أغنية
الماعز" تعطي شخصيّاتها الفرصة ليرووا قصصهم الشخصيّة. هل
تعتقد أنّ عمليّة الرَّوي تساعد النّاس على الشّفاء؟
· حسن بلاسم: ربّما يساعد الحكي
النّاس. ما يترك أثرًا بالغًا فيّ حين يروي النّاس قصصهم هي التعليقات الساخرة
التي يبدونها على تلك القصص، مهما كانت مؤلمة أو مرعبة. في العراق نقول أنّ بحوزة كلّ
عراقيّ خمس قصص مرعبة جيّدة على أقل تقدير، كما أنّ هناك ما يقارب الثلاثين
مليونًا يعيشون داخل العراق. من هنا انبثقت فكرة "أغنية الماعز" لأوّل
مرّة.
تاسيا دوركوفيكيس: قصصك تدور حول فعل
القصّ ذاته. برأيك ما هو دور الكاتب في زمن الحرب؟
· حسن بلاسم: أعتقد أنّ دور الكاتب اليوم، سواءً كنّا في زمن حربٍ أم
سلام، هو أن لا يدع كلّ ما يدور حولنا يصير رخيصًا وهدفًا سهلًا لوسائل الإعلام،
للسياسيين أو حتّى لنسياننا الشّخصيّ ]لما يدور حولنا[.
الكتابة بالنّسبة لي قطعة
مهمّة من شظايا مرآة جلال الدّين الرومي، عندما يقول، بزيادة أو نقصان، أنّ
"الحقيقة مثل مرآة وقعت من السّماء وتشظّت إلى كِسَرٍ صغيرة. كلّ فردٍ قادرٌ
أن يحمل قطعة من هذه الحقيقة."(1) أظنّ ان شظية "المخيّلة"،
على سبيل المثال، تساهم بشكلٍ ما في فهمنا للماضي.
تاسيا دوركوفيكيس: كيف تؤثّر صناعتك
للأفلام على كتابتك؟
· حسن بلاسم: بدأت الكتابة في سنٍ مبكرة. حين تعيّن عليّ الذهاب
للجامعة، سألتُ صديقًا يكتب الشّعر، أحترم آراءه بشدّة، "أيّ تخصّصٍ جامعيٍّ
سيجعل منّي كاتبًا أفضل؟"، أجاب صديقي، "لا تدرس العربيّة أو الأدب
العربيّ. اذهب وادرس صناعة الأفلام." كانت نصيحة هائلة. في الكثير من الأحيان
أشعر كأنّ كلّ القصص التي أكتبها ليست إلا سيناريوهات مؤجلة. على الرّغم من ذلك لم
أعمل حتّى الآن بشكلٍ احترافيّ في حقل الأفلام بسبب قلقلي وعصبيّتي تجاه العمل في
مجموعات. مع ذلك، ما زال للأفلام سطوتها على ما أكتب.
تاسيا دوركوفيكيس: من يُعجبك
من الكتّاب الآخرين؟ كيف تفكّر حيال كتب الحرب الأخرى؟
· حسن بلاسم: أقرأ أيًا ما يقع تحت يديّ، لكنّ القراءة ليست مصدر
إلهامي الأول. في الواقع، ذلك يأتي من مشاهدة الأفلام. مع ذلك، مؤخرا كنتُ منغمسًا
في أعمال هاروكي موراكامي، على سبيل المثال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): ترجمتُ الجملة كما وردت
على لسان حسن بلاسم. الجملة الأصل، كما وردت عن جلال الدّين الرّومي، كما التّالي:
"الحقيقة كانت مرآةً بيد الله وقعت وتشظّت،
كل فرد أخذ قطعةً منها، نظر إليها وخال أنّه يملكها كاملة".