الجمعة، 13 مارس 2015

قراءة الذات، أو الأنا ذاتا وموضوعا

Throes of Creation by Leonid Pasternak
           
            على مرّ التاريخ اتخذ الأدب لنفسه مواقع مختلفة من حياة الناس والمجتمع. ففي بعض الأحيان، تموضع في مواقع مرتفعة، يستشرف فيها المستقبل، وربما يتنبأ – استنادًا للخيال – بأشياء لم تكن موجودة من قبل. جول فيرن (1828 – 1905) مثلًا، تنبأ ببناء ناطحات السحاب ذات النوافذ الزجاجية، واختراع القطارات فائقة السرعة والآلات الحاسبة في رواياته (1). على جانبٍ آخر، قد يكون الأديب مرآة، تنعكس عليها النظرية، فلسفيّة كانت أم علمية، ويحولها بإعمال الخيال إلى حكاياتٍ شائقة. يعتقد ديكارت (1596 – 1650)، بأنّ "الأنا" (الذات) سابقٌ وجودها على وجود العالم، وعلى أيّ وجودٍ آخر (أنا أفكّر؛ إذن أنا موجود) (2)؛ لذا، فإنّ كل ما يقع خارجها هو "آخر" (موضوعٌ للذات). لا أعلم إن كان ديكارت قد فكّر بالتالي: هل يمكن أن تكونَ "الأنا" ذاتًا وموضوعًا في الوقتِ ذاته؟ بمعنًى أبسط، هل يمكن أن يتعامل الشخص مع ذاته كأنها ليست منه، كأنها شيء محايد؟.

            نجد أنّ هذا السّؤال، كان حاضرًا في ذهن عددٍ من الكتّاب، ومخرجي السينما. في هذا المقال، سنستعرض معكم أربع وجهات نظرٍ، تتمحور حول هذه الفكرة.

1-      خورخي لويس بورخيس.

            يشتغل بورخيس في قصصه على عددٍ من الثيمات، لا ينفكّ يدور حولها، مع اختلافِ المعالجة الفنّية كلّ مرّة. اشتغالاته عادة ما تتمحور حول الزمن، اللانهيائية، المتاهات، الأحلام، المرايا، النمور، والمكتبات. وفي قصّته "الآخر"، لم يبتعد عن موضوعاته الأثيرة سالفة الذكر. تفتتح القصّة بقوله "حدث ذلك في كامبرج، في شباط 1969. لم أقم بأية محاولة لتدوينه في ذلك الوقت، فقد كان هدفي آنذاك أن أتناساه، خشية على عقلي". الذي حدث، أنه أثناء جلوس بورخيس على أحد مقاعد جامعة كامبرج، وإذ به يرى "بورخيس الآخر" يجلس بجواره، بورخيس ذو الخمسة عشر عامًا. إثر صدمة البداية، والخوف الطبيعي الذي صاحبها، يتحرّر كلاهما من محاولة التبرير، ليبدآ التعرّف على بعضهما. يحدث بورخيس الكبير الآخر عن الكتب التي سيقرأها، عن موت أبيه، وزواج أخته. عن القصائد والقصص الفنتازية التي سيكتبها. لكنّنا لا نرى كبير اهتمامٍ من بورخيس الآخر، وكأنّه بحدسٍ ما، كان يعرف أنّ كل ذلك سيحصل له، أو ربّما هو مجرّد اطمئنان لنسخته الكبيرة. قد تكون القصّة بأكملها، مجرد محاولة للإجابة على سؤال "كيف أصبحت ما أنا عليه؟" أو "كيف كنت قبل أن أصبح ما أنا عليه؟". يختتم بورخيس (الكبير) القصّة بالقول "لقد حلم بي الآخر، ولكنّه لم يحلم بي تمامًا". في الواقع، هل يهمّ من حلم بالآخر، فهما ما هما عليه "متشابهين جدًا، ومختلفين جدًا".

Jorge Luis Borges Vs Jorge Luis Borges

2-      أورهان باموق.

            تجدر الإشارة بداية، أن أورهان باموق متأثرٌ جدًا بكتابات بورخيس، لكنّ جعبته مليئة بالألعاب، فحين يكتب عن فكرة مطروقة، يحوّلها بشكلٍ غريزيّ إلى شيء أصيل، خاصٍ به وحده. في الفصل الافتتاحي لروايته / مذكراته "اسطنبول الذكريات والمدينة"، المعنون بـ "أورهان آخر"، يختار أورهان الحديث عن شكوكه من وجودِ نسخة له، في أحد بيوت اسطنبول "ساورتني، منذ نعومة أظافري، شكوك في أن دنياي بها أكثر مما أرى: في مكانٍ ما في شوارع اسطنبول، في منزلٍ يشبه منزلنا، أورهان آخر يشبهني لدرجة يمكن أن يقال معها إنه توأمي، أو حتى قريني." على مدار الكتاب، يقرن الكاتب نفسه مع المدينة "إنّ قدر اسطنبول قدري". فحين يقول بأنّه يبحث عن أورهان آخر، لربّما هي محاولة للقول بأنّه يبحث عن مدينته الخرِبة، المنهارة إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية "كانت اسطنبول دائمًا، بالنسبة لي، مدينة الخراب وسوداوية نهاية الإمبراطورية. وقد قضيت حياتي أحارب هذه السوداوية أو أجعلها (مثل أهل اسطنبول جميعًا) سوداويتي." لعلّ – في العالم الآخر – أورهان يكون سعيدًا، وسط مدينته التي اكتست بالألوان من جديد، بعد أن كان لا يراها إلا بالأبيض والأسود.

Orhan Pamuk


3-      باتريك زوسكند.

            باتريك زوسكند، هو أقلّ هؤلاء الثلاثة طرقًا للفكرة. بل حتّى أنّه حين طرحها، كان الطرح يصبّ في سياق بعيدٍ كلّ البعد عمّا نحن في صدده (قراءة الذات، أو الأنا ذاتٌ وموضوع). في كتابٍ له، نشر لأول مرة عام 1995 بعنوان (ثلاث حكايات وملاحظة تأملية)، ملاحظة أدبية بعنوان "فقدان الذاكرة الأدبية". يحكي فيها بتحسّرٍ عن اضمحلال ذاكرته الأدبية مع تيّار الزمن. إذ لم يعد يستطيع استحضار ما قرأه متى أراد، وحتّى لو عاد للكتب نفسها، فإنه ينساها بمجرد أن يغيب عنها. يطرح زوسكند أسئلة كثيرة، كأنما يلقيها في الفراغ "هل قرأت ثلاثين عامًا عبثًا؟" "ألا يوجد كتابٌ في العالم أستطيع تذكّره؟". لكن، ألا يمكن أن نعتبر أنّ هذه الأسئلة، لا يلقيها سوى على نفسه، ليس بحالته الحالية (الآن)، بل على الآخر، زوسكند الصغير الذي قرأ كل هذه الكتب؟ هو يسائله، بشكلٍ ما "لماذا لم تخطر ببالك هذه اللحظة؟ لماذا لم تتحصّن ضدها". يعزّز هذه الرّؤية، نصيحته للقرّاء عامّة في نهاية الملاحظة "عليك ألا تستسلم لفقدان الذاكرة المهول هذا، أقول، عليكَ أن تصمدَ بكلّ قوّة في وجه سيل نهر النسيان، عليك ألا تغرق كليًا في نصٍّ ما، بل عليك أن ترتفع فوقه بوعيٍ واضح...". زوسكند الحالي هو ذاته زوسكند قبل ثلاثين سنة، لكن ما بينهما، هوّة بحجم ما نسيه من الكتب.



Patrick Suskind


4-      مايك كاهيل.

            مايك كاهيل هو مخرج أمريكيّ شاب (1979)، أخرج ثلاثة أفلام حتى اللحظة، وثائقيًا واحدًا وروائيين. في فيلمه الروائي الأول (Another Earth)، ناقش فكرة علميّة بسيطة، ماذا لو اكتُشف عالمٌ شبيهٌ بعالمنا حدّ التطابق، إذ نعيش فيه نحن أنفسنا، لكن دون أن نشعر بذلك. لا يبدو أن الفيلم مهتمٌ بأن يناقش نظريّات علميّة كما في فيلم (Coherence) الذي تطرّق لنفس الفكرة تقريبًا وحاول شرحها طبقًا لنظرية (قطّة شرودنغر)، بقدرِ ما هو مهتمٌ بمناقشة تبعاتها على الإنسان / البطلة تحديدًا (رودا ويليامز؛ قامت بأداء الدور بريت مارلينغ). رودا طالبة صغيرة السن، لحظة الإعلان عن اكتشاف الكوكب الجديد (الأرض الأخرى / الثانية) تدخل السجن لحادثٍ جرى معها. تخرج بلا مستقبل، فتحاول الانضمام إلى حملة لزيارة الأرض الجديدة "كمنبوذة، لا يحق لي أشياء كثيرة. ربما، ما عدا هذا الشيء (تقصد زيارة الأرض الثانية). ربما أنا الأفضل لذلك." هكذا تخاطب وكالة الفضاء في طلبها الانضمام للرحلة. لعلّ ما يميّز الفكرة التي أرادها المخرج (وهو كاتب السيناريو)، ليس مجرّد الالتقاء بذواتنا في مكانٍ آخر، ولا ما نفكّر فيه تجاهها، بل ما تفكّر فيه هي تجاهنا. يسأل أحدهم رودا في الفيلم عمّا تودّ قوله لنفسها لو قابلتها، فتجيب: "حظًا أوفر في المرّة القادمة" "حقًا؟" "لا، لا. أعني، متأكّدة أنّني سأظلّ صامتة".

Brit Marling & Mike Cahill, in cast of Another Earth


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:


للاطلاع:

2-      فيلم Coherence.
8-      جول فيرن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق