"شبيجل: ما
الذي يجعلنا نضيع كل هذا الوقت في محاولة إكمال أشياء هي واقعيا لا يمكن أن تكتمل؟
إكو: لنا
حد، وهذا محبط جدا، حد الإنسان: الموت. وذلك ما يجعلنا نحب كل الأشياء التي نفترض
أنها بلا حدود، ومن ثم بلا نهاية. إنها وسيلة للهروب من التفكير في الموت. نحن نحب
القوائم لأننا لا نريد أن نموت." (1)
***
***
عادة ما تتشابه
الصباحات. الروتين نفسه يتكرر يوميًا، لا شيء فاتنٌ في هذا. لكن اليوم، كان عليّ
أن أكسر الروتين بالذهاب إلى إربد. في انتظار موعد انطلاق حافلة شركة
"حجازي" الذاهبة من عمّان إلى إربد، دائمًا ما ينقبض صدري. أحاول
الترويح عن نفسي بالقراءة، لكنّ التركيز على شيء بعينه في مثل هذا الوقتِ المبكر
أمرٌ غاية في الصعوبة. كلّما انشقّت فسحة بين سحابتين، وداعب خيط من الشمس مساحة
من الأرض أشعر بأن عمّان تتثاءب. ألمحُ شابًا يمسك صدغيه وهو يمشي في المجمع
بمنامته، فيتعاظم ذلك الشعور داخلي. مرّت ربع ساعة قبل أن يحين موعد الانطلاق.
سلوان راكب المواصلات
الوحيد في هذا البلد، هو النافذة. أن تجلس بعيدًا عنها، بلا شريكٍ يؤنس وحدتك،
يعني أن تسلم نفسك لكآبة بحجم طولِ الطريق. النوافذ أبوابٌ مشرعةٌ على عوالمَ
كثيرة. في صغري، كنت أحاول أن أبني علاقة مع سائقي السيارات. أحرّك شفتاي بكلامٍ
غير مفهوم، فيجيب عليّ سائقٌ ما بكلامٍ لا أفهمه. أشتمُ آخر، فيردُّ بما أحسبه شتيمة، وهكذا. الآن،
أحاول قدر استطاعتي أن أظلّ صامتًا، وأستنطق الطريق. الطريق إلى إربد طويلٌ،
وتغلبه المنعرجات الأفقية منها والعموديّة. حاولتُ إشغال نفسي بعدّ دوريّات الشرطة
المنتشرة على طولِ الطريق، وفي كلّ مرة – وبشيء من الخوف - كنت في داخلي أقول
أنّ أحدها سيوقفنا. لا أتذكّر اللحظة التي غفوتُ فيها، كنت أنظرُ إلى البيوت
الفارهة أعلى شارع الأردن، وكما في فيلمٍ قطع من منتصفه، لم أعد أذكرُ شيئًا.
***
-
أنا أحب أن أشاهد الناس. لكنّي أخشى اللحظة التي يلتفتون فيها صوبي. لا
أحبّ نفسي حينها.
-
مراقبة الناس شيء سيء.
-
الدولة دائمًا ما تراقبنا.
-
ومن قال إن الدولة تحبّ نفسها؟
-
لا أعلم، لكن أن تصبح عيناك كاميرا ترقب حركات الآخرين، هذا شيءٌ ممتع. عليك أن تجرّبه.
-
أعتقد أنها كانت تعرف بمراقبتك لها طوال الطريق. لماذا لم تقل لها شيئًا؟
-
خِفت. كنت أنظر من النافذة، من ثمّ أطالع ساعتي وأقول: الآن. وحين أهم
بالكلام، تنطبق شفتاي.
***
حين توقّفت الحافلة
استيقظت. وكشخصٍ يعاني من انتفاخٍ في بطنه، انطلق صوتُ الباب. دخلت من الباب امرأة
شاحبة نحيلة الوجه. وكما لو أنّ أحدًا أخبرني بذلك من قبل، عرفت أنها ستجلس
بجانبي. لها مشية مميزة آلفها. مع كل خطوة كانت تتوقف للحظة، للحظة غير ملحوظة، يميل
معها جذعها للأمام، لتعاود المسير من جديد. جلست دون أن تقول شيئًا. حين نظرتُ من النّافذة عرفتُ أنّنا وصلنا "ثغرة عصفور"، عندها بدأت السماء تمطر. كان
مطرًا خفيفًا أشبه بوداعٍ متأخرٍ من شهر نيسان لفصل الشتاء.
***
-
طوال حياتي، حاولت أن أفهم كيف تفكّر النساء. بسذاجة من لا يعرف الإجابة،
دائمًا ما تساءلت إن كنّ يفكرن مثلنا نحن الرجال.
-
ومن قال لك أن كلّ الرجال يفكرون مثل بعض؟
-
ألا تفكّر أنت مثلي؟
-
وكيف تفكر أنت؟
-
(صمتُّ مفكرًا)
أحاول دائمًا أن أكون لطيفًا.
-
لم أسألك عن أسلوب تعاملِك. سألتك كيف تفكّر.
-
كان عليها أن تلاحظ. أربع سنواتٍ ونحن نلتقي، أعلم أنّ كل اللقاءات كانت
ضمن سياقٍ ما، لكنّني كنت لطيفًا معها دائمًا.
- هل تعتقد أنّها علمت بشأن القائمة؟.
***
الطريق من عمّان إلى إربد، غنيٌّ بصريًا، وأكثر ما يميّزه هو هذا التّباين الذي يظهر على شكل انتقال من دولةٍ إلى أخرى كلما سارت الحافلة نحو الشمال. ربّما حظيت مدينة مثل جرش أو إربد بشيء من جمالِ الطبيعة، لكنّ النظر إليها من بعيد، يوحي بأنّها مدنٌ تركت على حافة الحضارة، بأنّ الإنسان بناها ونسي وجودها. حين التفّ سائق الحافلة من على جسر النّعيمة، في طريقه صوب إربد، بدأتُ أشعرُ أكثر فأكثر بانقباض الصدر ذاته الذي شعرتُ به سابقًا. الشمسُ تربّعت السّماء، وباتت تنظر صوبَ الأرض بحزمٍ أكبر من ذي قبل. بضع سياراتٍ عبرت الطريقَ المعاكس، وقلّة من الناس ظهروا كالأشباح على جانبيّ الطريق.
تدفقت الذكريات عليّ، كما لو أنّ عشرين سنة لم تمضي. حين تأكدت من نومِ المرأة بجانبي، نظرتُ إليها متفحصًا، وطوال تلك المدّة، كنت متأكدًا من أنني لن أصل إلى جوابٍ بشأن هويتها. لا شيء فيها يشبه مي سوى مشيتها المميزة، ورائحتها. كانت أمي تقول دائمًا "ريحة الواحد بتسبقه" وفي عقلي الآن، تتسابق رائحة مي، مع وجه المرأة المتدلّي على كتفي.
***
-
كنتُ مفتونًا بالقوائم في صغري. مرّة كنتُ أحدث مي عن حبّي لفيلم "فيلم
قصير حول الحب" لكيسلوفسكي. هي وجدته ساذجًا، لكنني قلت لها أنه جميلٌ لأنه
مليء بالأشياء. الحب، كما الحياة يجب أن يكون مليئًا بالأشياء. وبدأت أعدّ على
أصابعي: 1- المنظار 2- النافذة 3- فارق السن بين توميك وماغدا 4- قيامه بعملين مختلفين كل واحدٍ منهما يوفر له رؤيتها 5- محاولة إقناعها برجولته 6- (حككتُ رأسي محاولًا التذكّر) لقد نسيت، شاهدته
منذ زمنٍ طويل. المهم، كنت أحبّ أن أسرد قائمة لكلّ شيءٍ أحبّه.
-
شاهدته منذ مدة قصيرة، أذكر أنّه أعجبني.
-
لا بدّ أن تشاهد ثلاثية الألوان له أيضًا.
-
دعنا من هذا. الحياة ليست فيلمًا، أو على الأقل مي لم تكن بطلة في فيلم.
-
لا أذكر كيف بدأ الأمر، أعتقد أنّني بدأت به بلا سابق تخطيط. رأيتُ أحدهم
يخاطبها بودٍ زائد، فكتبت اسمه. لم أعتقد للحظة أنّني سأصبح مهووسًا بكتابة أسماء
كل من يحادثها.
-
هل كتبت اسمي؟
-
(بجدية غير
متوقعة، وبشكٍّ أيضًا) لن أقول لك.
-
أنت تستأهل ما جرى لك.
- أتعلم، لا يحزنني أنها قطعت تواصلها معي، بقدر ما تحزنني فكرة أن تكون بسبب
تلك القائمة. في يومٍ ما ضاعت القائمة مني. جننت، بحثت في كلّ مكان ولم أجدها.
وبعدما يئست، أيقنت أنّها وصلت لها. في داخلي كنت مقتنعًا باستحالة هذا، فحتى لو
قرأتها لن تفهم شيئًا؛ مجرد أسماء مرصوفة بعضها فوق بعض، لكن جزءًا آخر منّي كان
يقول، أنها بدأت بالابتعاد تدريجيًا بعد ضياع القائمة.
***
ظلّت المرأة بجانبي نائمة حتّى وصلنا مجمّع "عمّان الجديد".
أصوات "كنتروليّة" الباصات ملأت الفضاء. هززتها من كتفها كي أيقظها.
كانت تشخر بشكلٍ يشي بمدى تعبها. حين استيقظت أبدت أسفها لميل رأسها على كتفي.
ابتسمتُ دون قولِ شيء. حاولتُ النظر في عينيها، لكنّها أبعدتهما حالما لاحظت ذلك. فكرت أن أنادي عليها: مي لكنّي لم أقوَ على ذلك. غادَرَت موقف باصات
"حجازي" مسرعة ليلتهمها أوّل تاكسي ظهر في وجهها. ظللت واقفًا مكاني
فترة قبل أن أسمع جرس الهاتف. كان هذا صديقي سليم، اتصل ليدلّني على مكان المقهى الذي
سأخبره فيه عمّا حدث معي اليوم.
***
-
(بطريقة أبويّة) كان عليكَ أن تسألها، لن تتكلّف كثيرًا لو فعلت
ذلك.
-
(بصوتٍ خافت) أظنّ ذلك، أظنّ ذلك.
قريبٌ بعيد المنال - لوحة بهرام حاجو
|
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): من حوار مع أمبيرتو إيكو ترجمه أحمد شافعي