" كان يا مكان.. قبل مدة من الزمان.. واحد اسمه.. كابتن أبو
رائد" (نديم صوالحة).
كنت أحلم دومًا بسينما
محلية على مستوى رفيع، وما زلت أحلم. إلا أن مشاهدة مثل هذا الفيلم، تبعث على
الابتسام، وتؤكد بأن فقدان الأمل خيانة.
أبو الرائد (نديم
صوالحة)، كهل في الستين، يعيش في أحد جبال عمان المطلة على وسط البلد. عامل نظافة
في مطار الملكة علياء الدولي، يعتقد أحد أطفال الحارة التي يقطن بها أنه طيار، ويخبر
جميع أولاد الحارة بذلك ، ليأتوا بعد ذلك مادّين أيديهم نحوه كمن يتأهب لسقوط هدية
من السماء، راجينه بأن يطلعهم على رحلاته. يتفاجأ هو لذلك الطلب، فهو لم يكن في
حياته طيّارًا، ولا يعرف عن تلك المهنة سوى شكل الطيارين الذين يمرون من أمامه في
المطار. يحاول تصريفهم بأي كلام، إلا أنهم يرفضون ذلك، ولعلّ ذلك من أجمل وأسوأ
الأشياء في أطفالنا (الزناخة!). يأبى أبو الرائد في البداية الانصياع لمطلبهم،
وكأن الحياة حكمت على كل أولئك البهيين بأن يظلوا متمترسين خلف عزلتهم، مديرين ظهورهم
للعالم!..
لو لم يكن ما جرى هو
فيلم، لكنت متأكدًا بأن أبا الرائد سيتمسك بعزلته ولن يعطي الأولاد فرصة الاستماع لرحلاته
(الوهمية)، التي استمدها من الكتب التي تملأ حياته. إلا أن ذلك لم يحدث، وقرر أبو
الرائد أن يلبي طلب الأولاد (وكم أنا مسرور لأنه قرر ذلك).
هناك سؤال شديد اللهجة أطل برأسه من بين أحداث الفيلم: الحكاية ودورها في شد انتباه الآخر في منطقتنا؟! لماذا كل هذه الرغبة في الاستماع لحكايا رجل مسن، حتى دون محاولة تكذيب ما يقول؟ ولأن لا شيء مثالي، فقد كان هنالك من يسأل. "مراد" الطفل الذي يضربه أبوه يوميًا، وكتعبير عن حالة دفاع عن النفس لم يتخذها ضد أبيه، هاجم أبو الرائد بكل ما أوتي من سبل، محاولًا إقناع الأولاد بأنه ليس إلا (زبال) في المطار. لتنجح محاولاته فيما بعد، بعد أن اضطر إلى اصطحابهم معه إلى المطار ليروه بأم أعينهم، مقرفصًا على بلاط الأرضية يمسحه.
هناك سؤال شديد اللهجة أطل برأسه من بين أحداث الفيلم: الحكاية ودورها في شد انتباه الآخر في منطقتنا؟! لماذا كل هذه الرغبة في الاستماع لحكايا رجل مسن، حتى دون محاولة تكذيب ما يقول؟ ولأن لا شيء مثالي، فقد كان هنالك من يسأل. "مراد" الطفل الذي يضربه أبوه يوميًا، وكتعبير عن حالة دفاع عن النفس لم يتخذها ضد أبيه، هاجم أبو الرائد بكل ما أوتي من سبل، محاولًا إقناع الأولاد بأنه ليس إلا (زبال) في المطار. لتنجح محاولاته فيما بعد، بعد أن اضطر إلى اصطحابهم معه إلى المطار ليروه بأم أعينهم، مقرفصًا على بلاط الأرضية يمسحه.
كان يمكن في تلك اللحظة
بالذات، أن ينتهي الحلم، وأن ينطفأ البريق الذي اتخذ طريقه إلى أعين الصغار، لو
همدت عزيمة أبو الرائد (أجد في تكرار اسمه متعة كبيرة J). لكن بعد تلك الحادثة، سعى أبو الرائد إلى استمالة "مراد"، المتمرد الوحيد
بين الصغار، وكم كان ذلك سهلًا، فأن تتقرب من فتًى هش، يمكن لنسمة ريحٍ أن تطيح به
بعيدًا لفرط ما يتلقى من إهانة وضرب من والده، لهو أسهل بكثير من أن تغضب منه. ربما
أنا أحسد مراد، وأتمنى أن أجد شخصًا مثل أبو الرائد، قلبه كمحيط، يسعني وكل ما
أملك من كلام. فقط أوده أن يسمعني، وبعد أن أنتهي لا أريد أن يربت على كتفي، ويواسيني
ببضع كلمات، أود فقط أن أنهيَ ما لدي من كلام، وأدير ظهري وأغادر، كما لو أن شيئًا
لم يتغير في هذه الدنيا، إلا انزياح بعض الغيمات السوداء عن كاهليّ.
***
على الجانب الآخر،
بعيدًا عن ازدواجية حياة أبو الرائد، كان هنالك الكابتن نور (رنا سلطان)، مقدمة
البرامج الشهيرة على محطة الأردنية الفضائية. كنوع من الموضوعية، لم أتوقع منها هذا
الأداء الراقي في الفيلم، خاصة لما لدي من خلفية عن سوء محطة الأردنية، الأمر
الذي يعود سلبًا على مذيعيها وطاقم عملها. وهذه نقطة إضافية تضاف لرصيدها الزاخر
في هذا الفيلم. نور، شابة في الثلاثين من العمر، تعاني – كما الكثير من الشابات في
عمرها – من ضغوطات الأهل، المتمثلة بالزواج، وعدم تشويه صورتهم أكثر أمام الناس،
وكأن عدم زواج الأنثى هو أول وآخر الخطايا!. أبو الرائد كان بمثابة المخلص الذي
اصطدمت به عن طريق الصدفة. ربما هي ليست صدفة بحت (أنا لا أؤمن بالصدف) فشخصية
كأبو الرائد لا يمكن أن تلقاها دون أن تجذبك. وفي حالتها، تعرفت عليه، وهو يتكلم
مع سائح فرنسي بلغته الفرنسية. يا إلهي، عامل نظافة أردني يتحدث الفرنسية، أي رجل
هذا؟! وأي شخص سليمٍ يلقاه ولا يحاول أن (يتحركش) فيه؟! ولحسن الحظ أنها كانت
سليمة العقل، وكسرت كل القيود التي يفرضها مجتمعنا إزاء هذه العلاقات الودية
بين أي اثنين يمكن أن يشكلا صداقة في غاية الجمال (اختلاف الجنسين، فارق السن، كلام الناس، وأشياء
غريبة أخرى).
هناك مشهد عظيم، لا
أستطيع أن أنساه، حينما تمدد أبو الرائد ونور بجانب بعضهما على (سطح) بيت أبو
الرائد ليطلعها على وسيلته للتحليق في السماء، المشهد بحد ذاته مجرد من الجمال،
لكن الخلفية المكونة من بيوت عمّان المتراصة فوق بعضها، وكأنها أحجار لعبة (ليغو)
مبعثرة بلا تنسيق. بالإضافة للموسيقى التي تخللت المشهد. كان ذلك بمثابة الحلم
بالنسبة لي. فأن أستلقي على ذات الفراش، وأجرب التحليق، بأسلوب أبو الرائد العجيب،
لهو من أكثر الأمنيات التي أود تحقيقها الآن.
***
تتسارع الأحداث كثيرًا
في آخر الفيلم، وكأن المخرج أدرك بأنه نسي أن يضع حبكة في الفيلم متأخرًا، وسعى
جاهدًا لأن يتدارك الأمر في الربع ساعة الأخيرة.
يستشير أبو الرائد الكابتن نور في كيفية مساعدة
أهل مراد، لتخليصهم من ذلك الوحش السكّير، الذي لا يتوانى عن ضرب العائلة بأسرها،
كعقاب لهم على الذل الذي يتلقاه في عمله ببيع الأقمشة المستعملة للنساء في الشارع.
أتساءل، لماذا توجد هكذا دورة من العذاب في هذا العالم، ألا يكفي ما يتعرض له شخص
من الألم، كي يحاول تجنيب العالم بأسره شعور الذل ذاك؟ لماذا يصر المظلوم على أن يصبح
ظالمًا عند أول فرصة تتاح له؟.
في تلك اللحظة أبانت نور عن معدنها النفيس، بموافقتها على احتضان العائلة في بيتها كتخليص لهم مما هم فيه...
يطلب أبو الرائد من والدة مراد الإسراع في جمع أغراضها كي تغادر مع نور. ترفض في
البداية، ثم تستجيب أخيرًا بعد خوفٍ عميق تفسّر على محيّاها من أن يدركهم الزوج
وسط محاولة التهريب تلك. تنجح المحاولة، ويظل أبو الرائد وحيدًا في البيت، لينتظر
قدره: أن يكون شهيدًا للحرّية، تلك التي تنازل عنها بإرادته كثمن لاستمرار حياة عائلة
مراد. في مشهد سابق، كاد أبو الرائد أن يجهز على حياة والد مراد، عندما رآه ملقًى
على قارعة الطريق بعد إحدى سهراته الماجنة. لكنه تراجع قبل الهاوية
بقليل، ليتكرر المشهد في نهاية الفيلم، لكن بوضع معاكس، فأبو الرائد الآن هو الذي
يتصدى للموت بصدرٍ عارٍ، ليتلقى الضربة واقفًا،
وكأن الموت حدث عارض، تستكمل الحياة بعده كما لو أن شيئًا لم يحدث. إلا أن
أبو الرائد مات. مات مخلفًا صرخة عارمة، ما زال صداها يحوّم في الأرجاء: هل كل أولئك
الجميلون محكوم عليهم أن يظلوا موضع الحلم لا أكثر؟ أكثير علينا أن نحظى بنسخة كاملة
من أبو الرائد، تعيش حياتها من ألفها إلى يائها بلا أية منغصات، حتى يتسنى لنا أن
نغرف من جمالها ما استطعنا؟
وكأن المخرج كان يؤكد على أن المجتمع بأسره
مدان بقتل أبو الرائد، وأننا جميعًا ساهمنا بمقتله، بطريقة أو بأخرى.
***
بمنظور عام، الفيلم كان
ابتسامة حفرت في وجه عابس، إلا أنه خلف خيبة كبيرة، فكيف لكل هذا الإبداع أن يظل
طي الكتمان، ولا يعرف به مجتمعنا إلا مصادفة؟ وكيف لهكذا ممثلين كنديم صوالحة ورنا
سلطان والطفل مراد أن لا تسلط عليهم الأضواء، بعد هذا العمل الهائل؟ ما زال حال
السينما وصناعها لدينا يرثى له، لكني ما زلت بدوري متشبثًا بالأمل، وسأظل هكذا
دائمًا.
"موسيقى الشارة للفيلم"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق