مثلما يبغت الذئب سهلًا زاخرًا بالكائنات المذعورة
فيرأف بها
ويستدير نحو منعطف آخر
كأن كل هذا الظلام لا يكفي لنحيب ذئب مثلك
ما أجملك أيها الذئب
جائع
وتتعفّف عن الجثث
- قاسم حدّاد
كمن مسَّهُ السحر
قبل أسبوعين، أكثر أو أقل، في شهر أيلول على أيّ حال، قدّم ناصر محمد، الذي لستُ مستعدًّا بعد لوصفه بفنّان أو كاتب أو ناشط أو أيّ تعريف سواها، عرضه "السّما بتمطّر عصافير" على تراس مؤسّسة مَماغ باللغة العربيّة، على أن يتكرّر العرض باللغة الإنجليزيّة في وقتٍ لاحق. حضرتُ شيئًا من البروفات، فاعتقدتُ أنّني فهمتُ شيئًا، مع اعتدادٍ بالذات مفاده أنّه لم يكن من داعٍ لتعويض ما غاب عنّي. يوم العرض، كنتُ أجلسُ مع صديقتي في مكتبة المؤسّسة التي أعملُ أمينًا لها، وكنّا نقطع التدخين والصفن في الأفق المفتوح على عمّان الشرقيّة، بالتحدّث أحيانًا. قلتُ لها إنّ لا رغبة بي لحضور العرض، وبشيء من السخرية ألمحتُ إلى أنّني لم أفهم منهُ شيئًا.
مع نهاية العرض، جلستُ لأسلّم على ناصر وأتحدّث مع المعارف والأصدقاء الذين ملأوا فراغات التراس. جلس معَنا صديق لصديق، ليسأل عن رأيِنا في العرض. ومثل أيّ أردنيّ يتعلّم رَوْزَ المقابل قبل أن يفتح فمه، أجبت بجملة تختبر المسافة بيننا: حلو، لكنّ تحفّظي الوحيد بأنّني لا أرى مكانًا للناشطيّة وسط الأعمال الفنيّة. انتفض، كمن مسّهُ السّحر، كأنّني شتمتُ أمّه في لحظة تجاوزني فيها الزمن، ثمّ لقّنني والسامعين درسًا طويلًا في معنى الفنّ الحديث القائم على البحث والتعليم، في معنى "الأداء" الذي ينسحب على كلّ مفاصل الحياة من كرة القدم إلى السياسة إلى حسن نصر الله وصولًا إلى عرض ناصر. نعتَنا بالقدامى (بمواربة، فنحنُ لم نرقَ لمقام الخطاب بالضمير الأوّل)، بكلمات تعتذر طوال الوقت عن عدم إتقانه العربيّة. سأله صديقي عن تعريفه للجمال، عن رؤيته لدوره في الفن: فقال سوري، أتقصد إيسثتكس أم بيوتي؟ وبين رغبتي بضربه على أمّ عينيه، وكراهتي للتردد الذي اعتراني فجأة من احتمال نقصٍ في معرفتي، من غياب المرجعيّات المشتركة التي قد تجعل النقاش يذهب إلى أيّ مكان سوى العنف، قلت لصديقي الذي أخذ في التفكير: فكّر بكانط، بالجمال في صورته المثاليّة، دون أن أقوى على القول إنّني لم أقرأه في حياتي، سوى ما أُعطيناه في التوجيهي.
المسافة لحظتها
بدت أكبر من القياس، وعمّان لم تفشل، على عادتها، بأن تجمع التناقضات الصارخة، بين
أقسى العته الفكري وأقسى التواضع الأخّاذ، وبينهما، كان صديق آخر، عاين الأضرار
ثمّ انسحب من الجلسة، فانسحبت وإيّاه.
ما لا يُمكن نطقه
تعرّفتُ إلى ناصر بداية العام، في عشاءٍ أشبه ما يكون بواحد من عشاءات هانيبال ليكتر بنسخة مادس ميكلسين؛ ناصر واحد من ثمانية فنّانين حصلوا على منحة للإقامة في مؤسّسة مَماغ للعمل على مشروع فنيّ. قبلَها، مرّ إلى المكتبة، ولا أستطيع القول إنّني تنازلتُ عن ريبتي منه منذ اللقاء الأوّل (رغم أنّ الريبة هنا تبدو سابقة على المعرفة أصلًا، وهو شيء لا أنفيه عنّي بأيّ حال)، فقد كان مفعمًا بطاقةٍ لا قِبلَ لي بها، طاقة بوسعِها ردم الصراعات في شرقنا الأوسط الحبيب، وخفض جناح الذل والرحمة لا للأم والأب فحسب، بل لخلق الله جميعًا (والخبر دومًا ما ترى لا ما تسمع). أخبرَني أنّه عمل في المسرح، وبأنّه ينتوي تطوير قدرته أكثر فأكثر على صياغة أعماله القادمة باللغة العربيّة. العشاء، الذي أعدّه فنّان آخر مقيم في المؤسسة، كان عملًا فنيًّا بدوره، حيث أَعدّ طبقًا يتمثّلُ فيه كُلَّ فنّانٍ وفنّانة من المقيمين الجدد دون معرفة مسبقة بأيٍّ منهم. ما أذكرُه أنّ الأطباق كانت لذيذة للغاية، فانكببتُ عليها بنهم من تخلّى عن قياس أفعاله على مسطرة الذوق، وأراد أن يأكل الفنّ الحديث، برمّته، لينتهي بحمدلة الله على تسخيره الأمعاء لتقوم بالباقي.
(بإذن من مؤسسة مَماغ)
لا أذكرُ طبقَ ناصر، لكنّني أعرف فقط أنّه ليسَ بارعًا في الحديث عن نفسه، فقد بدت حياته أقرب لقصص الأطفال المعنيّة بتقديم موعظة أو عبرة، لكنّها، في الآن ذاته غير معنيّة بالكلام، كأنّ لسانه يتحرّك عنوة عنه، ساردًا أشياء عن العصافير، عن الطرق المفتوحة والمشي أبعد ممّا عمّر الله حتّى، وهذا كلّ ما هنالك. ما سواه كان بالونات ملأ بها عقلي الفراغ الذي لم تجد الكلمات مبنًى يلبسها حتّى يُخلق المعنى. أتشكّك بنفسي أحيانًا قبالة فنّانين مثل ناصر، أو مثل من ظننت أنّه ناصر لحظتها: هل بات ترمب كلّ ما هنالك؟ ألم يعُد شيءٌ يعني شيئًا في عالم الذكاء الاصطناعي؟ على العموم، هذه ليست أسئلة موجّهة لناصر.
لم يعجبني العرض الأوّل، المُقدّم بالعربيّة، ولم أستطع غصبَ نفسي على القول إلّا: يعطيك العافية، أمورك كويسة؟ ليشكرني ناصر بدماثة، مؤكّدًا أنّه ممتنّ لانتباهي لأموره. أمّا العرض الثاني، فبغتةً وعلى النقيض من الأوّل، فقد كان أشبه بانفجارٍ، انفجار ساكن يحدث في الداخل ولا نعاين سوى أعراضه، الكلمة التي ظلّت تتردّد في رأسي طوال العرض بصوت المحلّل النفسي مصطفى صفوان، وهو يقول إنّ التحليل النفسي يتلخص في جملة لنيتشه، الذي قال "هناك كلام ثقيل على الأذن، لكن نُطقه غير ممكن [...] والرغبة، التي هي أساسٌ لكلّ هذا ستجد مجالها لأن تُسمع عن طريق التوريات"[1]، ليكمل بأنّ ما لا يُقال، يتحوّل إلى عارض، هذيان، بوسعنا، لو سمحت لنا الإبستمولوجيا بقليلٍ من العبث، أن نسحبه على امتداده لنضيف إلى السابق كلام دولوز عن أنّ الهذيان ليس مرتبطًا بالطفولة بالضرورة، بل بالعالم الواسع[2]: بالأوتوسترادات التي تصير كفنًا كبيرًا لطيورٍ مدهوسة، بالطرقات التي يهيم بها ناصر لساعات ماشيًا، متلفّتًا، خائفًا من الجهات، حتّى تصير الجهات كلّها خطرًا نُعاين أضراره ريشًا وعظامًا مهروسةً وبقايا دماء، بغزّة التي ذكرها ناصر أكثر من مرّة أثناء عرضه، دون ربطٍ مباشرٍ معها يمرّغها بوحلِ استجداء عاطفة جمهورٍ، ذاك الذي رغم تبلّده (ربّما تبلّدي الذي أُسقطه عليه)، باتت غزّة تعني له العالم، بنفسِهِ التي فكّرتُ بأنّه يدفن شيئًا منها مع كلّ طيرٍ دفنه، باللغة التي تصير لسانًا مشقوقًا، أحدهما، رغم أنّه يمثّل اللغة الأم، يبدو أشبه بلغة زوجة الأب كما يصفها أنطون شمّاس "فالأم التي أرسلتني ذلك العصر، بلغة عربية، لشراء بذور عبّاد الشمس، باللغة العبرية، لم تكن تعلم هي الأُخرى أنها تسلّمني إلى الرابّة، إلى زوجة الأب الأُخرى، بكل ما تحمله هذه الكلمة من تداعيات سلبية في جميع الأساطير الشعبية العالمية؛ لم تكن تعلم هي الأُخرى أنها تسلّمني إلى رابّة تنهب الملكية وتصادر الأملاك، وتشتّت وتشرّد وتهجّر وتقتل باللغة العبرية"[3]؛ هي العربيّة (على غرابة الأمر)، بكلّ ما فيها من قهرٍ لا يساعد تاريخ نشأة كثيرين منّا على نفيه أو التنصّل منه، إذ ما من أحدٍ يقرّر، وهو في الصفّ الأوّل، أن يسجّل نفسه في مدرسة لا تعلّم إلّا الإنجليزيّة. وثانيهما، وجد في الإنجليزيّة بيتًا فاستراحت إليه مفاصله تعبًا، وقبل أن يغطّ في النوم، استحالَ نومه صراعًا، هلوسةً تبدّت تمرّغًا على الأرض، تبعتها قيامةٌ وسخريةٌ من الذات، من الأفكار الكبيرة حين تتحطّم جثّة طائرٍ على خيط شارع أو في قبضة عِجال السيارات المُسرعة، إلى الأفكار الصغيرة، حيث يقول ناصر في نقطة ما من العرض، وهو يتمسّك بشجرة ويحرّك جسده ذهابًا وإيابًا، بصوتٍ يظهر التماسك دون أن يفلح في مقاومة الاهتزاز، أو استحالة الفكرة "قبل ثلاث سنوات قررت أكتشف كل أشجار المدينة وطيورها".
لكن أيّ مدينة
تلك يا ناصر؟
لا نهاية للكلام، لا نهاية للسقوط
العرض، ببساطة مُخلّة، وهو من باب ما لا يُلخَّص، مطروحٌ في العنوان: الدنيا بتمطّر عصافير. جملة خبريّة، تقع على الحدّ الفاصل بين الحقيقة والخيال، بين أن تكون فصلًا ممجوجًا في رواية لهاروكي موراكامي، وبين واقعٍ صوّرته كاميرا ناصر عصافير مدهوسة على جوانب الطرقات. وبإخلالٍ أكبر، فالعرضُ يقدّم لنا، على مدار ساعة، سجلًّا للعصافير التي تقاطعت معها خطوات ناصر أثناء مشيه، بعد أن فارقتها الحياة لغفلة الناس والسيارات عنها. عصافيره ليست غاضبة مثل عصافير هيتشكوك، ليست رمزًا ميتفازيقيًّا، ليست مدفوعةً بعماها لضرب الأسطح الزجاجيّة، بل هي كائنات منزوعة الإرادة الحرّة، محكومة بمصيرٍ مأساوي من جهتين: مأساة موتها التي يصحّ أن تكون ملهاةً من ناحية، ولا يصح أن تكون كذلك جرّاء غياب الوعي بتلك المأساة من الناحية الأخرى؛ إذ ما هي إلّا… طيور محكومة بثقة عمياء بقوّة بصرها.
يحاول ناصر أن ينقل شيئًا من تجربة العصافير، لكن ليست بحقيقتها، بل بمحاكاتها، بأن يصير بنفسه صورةً عن العصفور، صورةً واعية بافتراقها عنه قدر وعيها بلا جدوى رؤية العالم بعينيه.
في الطريق إلى
ذلك التخييل، يقرأ لنا نصًّا طويلًا، مملًّا في الحقيقة لو نُظر إليه بوصفه نصًّا
مرهونًا للقراءة فحسب (كما فعلتُ أوّل مرّة أطلعني عليه، حيث أغرقتُهُ بأسئلة حول
القيمة والجدوى والنظرة للمجتمع والرأسماليّة، حاول أن يقفز عنها جميعًا، لنخرج من
النقاش بشكرًا باهتة قيلت حياءً، من الطرفين)، يجاوره فيديوهات قصيرة لشوارع تعجّ
بالسيارات والقبور التي فتحها ناصر للعصافير في المدن التي تواجد فيها، وأصوات
همهمة وتهويدات يجترحها بحنجرته مباشرةً أمام الجمهور، ليُصار إلى ترديدها وفق
نسقٍ جنائزيٍّ طوال مدّة العرض. وبين هذا وذاك، يفتعل ناصر بجسده حركاتٍ تتمثّل
العصافير، تنتهي كلّها بالسقوط، والتمدّد بوداعة كاذبة على الأرض، أو قُل مُعترضة،
لكن لكثرة الأشياء التي تحتجُّ عليها، يبدو أنّها لا تحتجُّ على أيِّ شيءٍ، ربّما
مثل مريضٍ أعناهُ الكلام مع طبيبه النفسيّ، ووصلَ إلى الإدراك الذي يخجل التحليل
النفسي من الاعتراف به: أنّه لا نهاية للكلام، تمامًا كما لا نهاية للسقوط.
عن العصفور وصورته
سألتُ نفسي أثناء العرض: كيف يمكن له أن يذهب خطوةً أبعدَ بهذا الغضب، خطوةً تجاه قولِ شيءٍ عن هذه العدالة الغائبة؟ جاوبتُ، بشيءٍ من التردّد: لعلّه بإفشاء شيء عن ضعف المرء نفسه، ثمّ علّقتُ علامة الاستفهام.
التقيتُ العام الماضي بفنّانة لإجراء لقاء عن عملها الذي، ولو للحظة، اجتمعت وأصدقائي على رؤية شيء من الجمال فيه، أو هكذا أحسب. لكنّنا خَرَجنا بخُفّي حنين، فالمقابلة كانت أشبه بنميمة ممتدّة لساعتين من الزمن، اجترار لجلساتها مع من التقت وتأثّرت بهم، دون كلمة واحدة عن دوافعها هي لرسم ما ترسمه، عن رؤيتها، أيًّا كانت، للوحاتها المفرطة بالعُري، والأجساد التي تندّ عن شهوة ما، لبعضها، وللعالم الذي تودّ أن تخرج من إطار اللوحات لإغوائه، لكن عبثًا.
فكّرتُ فيها
وأنا أشاهد ناصر، وسألتُ نفسي، من جديد: أيُدرك شيئًا عن الفاصل الذي يصطنعه بين
الواقع، بما هو عليه، وصورته؟ أو، كما قال المعلّم الثاني: "ولا يظُنَّنَ
ظانٌّ أنَّ المغلِّطَ والمحاكي قول واحدٌ، وذلك أنّهما مختلفان بوجوه: منها أنّ
غرض المُغلِّط غير غرض المحاكي، إذ المُغلِّط هو الذي يغلّط السامع إلى نقيض الشيء
حتى يوهمه أنّ الموجود غير موجود وأنّ غير الموجود موجود. فأما المحاكي للشيء فليس
يوهم بالنقيض، لكن الشبيه"[4]، أو ما قاله الشيخ
الرئيس: "والمحاكاة هي إيراد مثل الشيء وليس هو هو، فذلك كما يحاكى الحيوان
الطبيعي بصورة هي في الظاهر كالطبيعي"[5].
(بإذن من مؤسسة مَماغ)
ما يفصل ناصر عن صديقتنا الفنّانة، هو عين ما يفصل المحاكاة عن التصديق، المحاكاة عن الأشياء على حقيقتها، إذ رغم أنّ "القول الصادق إذا حُرّفَ عن العادة وأُلحق به شيء تستأنس به النفس"[6]؛ يظلّ القول الصادق أقرب للجهل التام، مُلحِقًا بالنميمة والأحاديث المُجراة خلف أبواب الجامعات المغلقة والكافيهات رديئة القهوة واستوديوهات الفنّانين قيمةً لا امتداد لها أبعد من نفسها، من الكلمات التي قيلت بها، في تجاهل تامّ لكون "الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق، وكثير منهم إذا سمع التصديقات استكرهها وهرب منها"[7]، أو هذا ما فهمه ناصر على أقلّ تقدير، بإدخال التخييل عنصرًا في عمله، إذ طالما اقترن الأخير باللذة، وفي اللذة إيذان لإذعان النفس، بل ربّما تحطيمها على هيئة عنقاء مضادّة، ترضى بالرماد مصيرًا أحلى من نارٍ لمّا تكُن يومًا بردًا وسلامًا.
ندركُ ونحنُ
نشاهد ناصرًا يتلوّى أمامنا أنّه ليس عصفورًا، لكنّها حقيقة مُغيّبة طوعًا، خاصّة
مع الأنغام والإيقاعات، التي هي مادّة التأثير المُستدعاة، موسيقى ورقصًا (أو ما
يشبه الرقص)، فـ"عمل اللحن في الشعر هو أنّه يُعدُّ النفسَ لقبول خيال الذي
يُقصدُ تخييله"[8]، ذلك كي "يوقع
في ذهن السامعين الشيء المُعبَّر عنه بدل القول"[9]؛ والقول هو ناصر
نفسه، الذي قال في لحظة تماهٍ بين العصفور وصورته إنّه "يفضّل أن يهبط مع
الطائر الذي يقع، دافنًا جزءًا منّي [معه]".
(بإذن من مؤسسة مَماغ)
ما غاب عن العرض وما حضر
طوال العرض، ظللتُ أنتظر شيئًا ما حسبتُه غائبًا، ففكّرتُ، مرتكنًا إلى حدس لا حائط يستند إليه، بأنّ ذاك الغائب كاد أن يُوجد (أو يظهر، إذا ما افترضنا غياب الوعي به) مرّتين خلال العرض. الأولى، وقد كانت لحظة تبدّت فيها الخيبة على وجه ناصر حين أعيته محاولة إصلاح الميكروفون المعقود على رقبته، ففكّه بعصبيّة حبّذا لو أنّها استحالت تحطيمًا له، إلّا أنّه تمالك غضبه، ولجأ إلى ميكروفون آخر.
الثانيةُ
لحظةٌ توسّطت الدفن المجازيّ الذي اضطلع به، حيث شرع في حفر قبرٍ في حديقة
المؤسّسة، إلى جانب القبر الذي دفن فيه طائرًا وجده مُغلّفًا في صحن مسخّن مُلقى
على مشارف وسط البلد، ثمّ توقّف فجأةً، وراح يُطلِعُ الحضور على ريشاتٍ ثلاث، سقطن
منه دون قصدٍ وهو يتحرّك بين الحضور. لحظتئذ، تمنّيتُ لو يتركها ملقاةً هناك،
استعارةً ثقيلةً عن العصفور الغائب، في لحظة تخلّى فيها الزمن عن سلطته، لتسقط الريشات في حضن
طبيعةٍ كلّ ما فيها يسير إلى مبتغًى له، لكنّه التقطها بسرعة، في حركة تشبهه أكثر
ممّا تشبه الفنّ.
(بإذن من مؤسسة مَماغ)
وهكذا، حضرني ما أسماه ابن سينا يومًا أذًى يحدث جرّاء الفقد[10]، فأدركتُ أنّ الغائب عن العرض هو السقوط، حرفيًّا لا مجازًا، لإغلاق دائرة الغضب الذي مسحَ وجه ناصر ويديه، وكذا جسده الذي لم يكُن مرنًا كما في العرض الأوّل، ليفيدَ ناصر من قلّة المرونة تلك بإضافة طبقة من الصراع، إذ إنّ جسده الذي، في اللحظة التي استحثَّهُ فيها على القيام بما يعرف قدرتَه عليه، أبى، لكن ليس بالقدر الكافي لاستغلال ذلك الوهن لإحداث صدمة أكبر.
كان عليه أن ينهار، وهو يحفر القبرَ مثلًا، تمثّلًا بالفعل الثوري الوحيد الذي يعترف به فرانكو "بيفو" بيراردي، حين يقول: "لكنّ جيشًا جديدًا ينهضُ من أركان العالم الأربعة، بلا راياتٍ، وبلا مستقبل، وأمله الوحيد هو الانتحار"[11]. تلك الخشونة في الجسد، كانت أقرب شبهًا لرُكَبٍ تسيبُ لا لحظة موت العصفور، بل لحظة معرفة أنّه قد مات، فلا هي انهارت، ولا هي أكملت فاعليّتها، إلّا شكليًّا؛ فالجسد ظلّ واقفًا في نهاية العرض، وإن انحنى قليلًا.
لم يجئ الهبوط
من عَلٍ، ذلك الذي جلستُ أنتظره على تراس ينتمي لعمّان الشرقيّة قدر انتمائه
للغربيّة، ولا عزاء لنغمة ثانية ظلّت تهشّ إليها النفس، حتّى طلعت عند ابن سينا
"لأن لتأليف الصوت خاصية ليس لسائر التأليفات، وذلك لأنّ النغمة الأولى من
النغمتين المؤلفتين مثلا، تهش إليها النفس، هشاشتها لكل جديد من المستحبات الواصلة
إليها، ثم تتحرك بعد انخزالها لما يسرع فواته، مما يعز على النفس حصوله، ثم يتدارك
ذلك الانخزال، ويتلافى ذلك الانكسار،
طلوع نغمة أخرى كأنها تلك الأولى، معاودة في معرض آخر، له نسبة مقبولة إلى
المعرض الأول"[12]، وغابت عند ناصر،
مخلّفةً فراغًا لم أستطع ملأَهُ بنفسي. وهكذا، ظلّ السقوط مؤجّلًا، واللذة أملًا
لا رجاءً قابلًا للتحقّق، وما أحسستُ بأنّ حدوثه ملائمٌ بات ليلتها طاقةً مفتوحةً
على فقد بحجم السماء.
الفنّ بين المسؤولية والناشطيّة
لعلّ الإحساس
بالمسؤولية لدى ناصر، ما أسميته ناشطيّة في البداية، هو ما كان غائبًا عنّي. لعلّ
بقاءه واقفًا يقاوم السقوط، عن وعيٍ أو بغيابه، هو عينُ ما وصفَتْهُ جوديث بتلر
يومًا بالقول "تصادفنا كلمة أخرى، صفعة، أي مخاطبة أو تسمية تؤدي فجأة وعلى
نحو لا تفسير له إلى ذبحنا، وحتى عندما يبقى الإنسانُ حيًّا بوصفه هذا الكائن
الذبيح فإنّه يمضي في الكلام، ويا للغرابة!"[13]، لعلّ هذه المفارقة
-بإدراك أنّ المذبوح بات زومبي، ماتَ، لكنّه "يا للغرابة!" لم يمُت، بل احتفظ
بالقدرة على الكلام- هي ما أعطت ركبتيه التوازن الذي احتاجتاه كيلا ينفجر في
البكاء، أو يستسلم للأرض، رغم أنّه استسلم لها نومًا في نهاية العرض، تمامًا مثلما
ابتدأ، ليكمل دائرةً ما كان لها أن تنتهي على هذه الشاكلة، أو هكذا أحسب.
(بإذن من مؤسسة مَماغ)
أعود لأفكّر بأنّني حسِبتُ أشياء كثيرة تبدّى خطؤها في نهاية المطاف، ربّما لغيرةٍ تتكشّف على هيئة إغلاقٍ للأعين، يعقبها تخيّلُ أنّ بوسعي أن أقدّم عرضًا كالذي قدّمه ناصر (بسهولة، مع طرقعة للأصابع)، لأفتحهما، فأجده واقفًا، بهيًّا، يُطالعني بعينين بريئتين عن كلّ ما سبق، ويقول لي بطريقة أودّ لو ألكمه بعدها: بحب نقعد، ونحكي أكتر.
أمّا أنا، فلا
أحبّ يا ناصر.