"بِمَ التّعَلّلُ
لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا
كأسٌ وَلا سَكَنُ
أريدُ من زمني ذا أن يبلّغني
ما ليس يبلغه في نفسه الزمنُ"
-
المتنبّي
ببليوجرافيا
قبل الأخذ في
الحديث عن كارل أوفه كناوسغارد، وروايته "كفاحي"؛ كناوسغارد روائي
نرويجيّ، وُلِد عام 1968 (50 عامًا). نشر روايته الأشهر "كفاحي – Min
Kamp"
في ستّة أجزاء بين عامي 2009 و2011. وترشّح عنها 3 مرّات لجائزة الإندبندنت للأدب
المُترجم للإنجليزية أعوام 2013 و2014 و2015 قبل أن تُدمج الجائزة مع جائزة المان
بوكر العالميّة. نشر في بداياته روايتين، هما "خارج العالم – Out
of the world"
(1998)، و"وقتٌ لكلّ شيء – A time for everything"
(2004). كما نشر مؤخّرًا رباعيّة سمّاها بأسماء فصول السنة، يجمع فيها رسائل
لابنته التي لم تكن قد وُلدت ساعة الكتابة، ونصوصًا عن العالم الخارجي، الموضوعي
كما يقول، إذ يحاول الكتابة بتجريدٍ عن أشياءَ عيانيّة، مثل: التفاح، سيارات
الإسعاف، البول، الأسنان، العناوين. وغيرها. الجزء الأول من "كفاحي"،
المعنون ب "موت في العائلة" (ترجمة الحارث النبهان عن دار التنوير)، هو
أول أعماله بالعربيّة، وسيلحقه باقي أجزاء الرواية الستة تباعًا، والتي، باختصارٍ
مخلّ، تسرد قصّة حياة الكاتب، "كفاحه" مع الحياة اليوميّة، الأشياء
الصغيرة والتافهة كما يقول، أو النقيض الكلي لما كافح هتلر من أجله.
عجزٌ معرفيّ
سأبدأ، محاولًا
التماهي مع فضائحية كناوسغارد، بفضح نفسي، وبسردٍ قد يقال عنه تافهًا، زائدًا، أو
أيًّا من مفردات الخفّة. قرأتُ الرواية أثناء دراستي في فنلندا. كلُّ شيءٍ في ذلك
البلد يوحي بالموت: ليلٌ طويل، هدوء قاتل، بردٌ يجمّد الجسد والمشاعر، وكثيرٌ من
اللاجئين المرفوضين. أردتُ قراءة رواية تحاكي هذا المشهد، ظنًّا منّي، بسذاجة من
يصف شرق الآسيويين جميعهم بالصينيّين مثلًا، أنّ النرويج تشبه فنلندا. إذ ما هي
اسكندنافيا غير ما ذكرته آنفًا: موتٌ يعلوه موت؟ اختزالٌ معيب. لكن، ما لم أحسب
حسابه، أنّ الرواية تكرّس ذلك الإحساس بالضيق، كأنّ كناوسغارد لا يكتب عن الموت،
الصمت، الثلج، القلق. بل يكتب تلك الأشياء نفسها، جوهرها. تصير الكتابة نفسها،
محاولة طويلة في التجريد، لدرجة يصعب معها إيجاد لغة للحديث عنها.
زيادةً أو إمعانًا
في ذلك، لم أشعر بعجزٍ معرفيّ في حياتي أكثر من ذاك الذي عشته بعد انتهائي من
الجزء الأوّل من الرواية. يرين صمتٌ بيني وبين أيّ شخصٍ أحدّثه عن الرواية لحظة
يسألني عن رأيي بها: ثمّة شيءٌ أحدسه، كما الزمن عند القدّيس أوغسطين، كما الحبّ
عند باتريك زوسكند1، أعرفه، وحين آتي لأتحدّث عنه، يصير ماءً. مثلًا،
قد أجد شيئًا لأقوله لو أنّني قرأتُ "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل
بروست، لكنّني لم أقرأها. قد أجد شيئًا أقوله لو قرأتُ أكثر لميشيل فوكو أو أدورنو
كما اقترحت مراجعة للرواية على موقع goodreads، لكنّني لم
أقرأ كفاية من أعمالهما لأقول شيئًا يستحقّ. لكنّني مثل مسيحٍ أعمى، أصرُّ على
المشي فوق الماء، مخاطرًا بالبلل، وبلا أملٍ أن يستحيل الماء بين يديّ نبيذًا.
في التباس الصيغة،
وأهمّيّة الانطباع
يتّخذ الجزء
الأوّل من الرواية الموتَ ثيمة له؛ موت أبي كناوسغارد نفسه مدارًا للكتابة. لكنّها
ليست عن موته فقط، ثمّة أجزاء يعود فيها إلى جذور علاقته بأبيه، إلى وعيه الأوّل
به: حزمه، لحظات الحنان النادرة التي صدرت عنه تجاه ابنيه، انحداره الوئيد صوب
الكآبة حتّى انتهى به الأمر مدمنًا على الكحول التي قتلته تاليًا. كما تتحدّث
الرواية عن الكتابة، علاقة الكاتب مع الكحول والنساء، علاقته بأخيه وأمّه وجدّته
وأقربائه، وأخيرًا ما يربو على ال100 صفحة من التنظيف؛ تنظيف البيت الذي تُوفّي
فيه والده.
يبدأ كناوسغارد
الجزء الأوّل من روايته "كفاحي – موتٌ في العائلة" بمقطع سرديّ طويل عن
الموت، منفصل بقدر ما هو مربتطٌ بأحداث الرواية. يتحدّث فيه عن الموت بصفته شبهة،
نحاول درأها بعيدًا عن أعيننا ما استطعنا. ويضرب أمثلة على ذلك: ثلّاجات المستشفى
دائمًا ما تكون بعيدة عن أعين الزائرين، ودائمًا في الطوابق السفلى؛ إن مات أحدهم
في مكانٍ عام ("فتاة صغيرة ينتهي بها الحال تحت عجلات حافلة نقل" مثلًا،
كما يقول)، نسارع أبدًا إلى تغطيته حتّى يُؤخذ بعيدًا عن الأعين إلى المستشفى. لم
أقف كثيرًا عند المقطع حين قرأته أوّل مرّة، لكنّني أعود إليه الآن محاولًا البحث
عن أيّ رابطٍ يجمعه بالرواية. يقول مثلًا: "ما سبب هذا الاستعجال كلّه من أجل
إبعاد جثثهم عن أعين الناس؟ أهي اللياقة؟ ما الشيء الذي يمكن أن يكون لائقًا أكثر
من السماح لأم فتاة، أو لأبيها، برؤيتها ساعة إضافية، برؤيتها مستلقية في موقع
الحادث نفسه، ظاهرةً كلّها... رأسها المُحطّم وبقيّة جسدها، وشعرها الملطّخ بالدم،
وسترتها المبطّنة النظيفة؟ مرئية للعالم كلّه، من غير أسرار، مثلما هي! لكن، حتى
هذه الساعة الواحدة في الثلج أمرٌ لا مجال للتفكير فيه. المدينة التي لا تحفظ
موتاها بعيدًا عن الأنظار، التي تترك الناس حيث يموتون.. على الطرق السريعة والطرق
الفرعيّة وفي الحدائق ومواقف السيارات، لا تكون مدينة، بل جحيمًا"2.
المُحيّر، أنّ هذا المقطع يقول الكثير عن الرواية، أو عن "الصيغة" التي
كُتبت بها على حدّ تعبير الكاتب. طوال قراءتي، كنتُ أحاول وضع يدي على
طريقة/أسلوب/صيغة كُتبت بها الرواية، لكن عبثًا حاولت (وثمّة احتمالٌ كبيرٌ أن
يعود السبب لقلّة معرفتي، واطلاعي على الروايات)، إذ كنتُ ببحثي أتقمّص صوت
كناوسغارد وهو يتساءل عن جثّة الفتاة/الصيغة التي يُسارَعُ إلى إخفائها، كلّما لاح
طيفُ جسدها. المُحيّر كذلك، مقطعٌ ورد في الرواية، يفرّق فيه الكاتب بين الصيغة
والأسلوب (ولا أعلم إن كان هنالك لبسٌ سببه الترجمة): "بل هو شرط الكتابة
الوحيد، يجب أن يخضع كلّ شيء لصيغة الكتابة. إذا كان أيّ عنصرٍ آخر من عناصر الأدب
أقوى من الصيغة، كالأسلوب أو الحبكة أو الفكرة... إذا استطاع أيٌّ من هذه العناصر
أن يتحكّم بصيغة الكتابة فإنّ النتيجة بائسة. هذا ما يجعل الكُتّاب أصحاب الأسلوب
القوي يكتبون كتبًا ضعيفة أكثر الأحيان. إنّه أيضًا ما يجعل الكتّاب أصحاب الأفكار
القويّة يكتبون كتبًا سيئة أغلب الأحيان. لا بدّ من تحطيم الأفكار القويّة
والأسلوب القوي حتّى يتمكّن الأدب من الوجود. هذا التحطيم ما يطلق عليه اسم "الكتابة".
الكتابة قائمة على التحطيم أكثر ممّا هي قائمة على الخلق"3.
يمكنك أن تحدس فقط
كيف تتمّ الأمور، إذ يمكن أن تمرّ صفحات عديدة وأنت مدركٌ لكلّ النقلات، تعرف
المكان والزمان الذي يدور فيه المشهد، لكن ذكرى وحيدة، قادرة أن تسحبك معها إلى
داخل كثيّب من الاستطراد يلتبس معها كلّ ما حولك. حتّى وإن كنّا نتعامل مع سيرة
ذاتية هنا، تظلّ الكتابة محكومة بالذاكرة، بالتالي وإن بدت الأشياء حقيقيّة، تظلّ
مخترعة، بالأخصّ المشاعر. ولعلّ أحد الأشياء التي أرادها كناوسغارد من روايته هذه،
هي الانطباعيّة: أن نحيّد العقل قليلًا، ألّا نتّخذ موقفًا واضحًا إزاء ما نقرأ، وأن
نتقلّب كما تتقلّب الشخصيّات والأحداث والمشاعر، وخاصّة الأخيرة، فهي متغيّرة وغير
قارّة أبدًا. فـ"المشاعر كالماء. إنها تتكيف دائمًا مع ما يحيط بها. حتّى
أشدّ الأحزان لا يترك أثرًا خلفه... عندما يبدو الحزن طاغيًا ويستمر زمنًا طويلًا
جدًا، فإن هذا ليس لأن مشاعر الحزن قد استقرّت هناك، وليس لأنها تستطيع أن تستقرّ.
إنها تقف ساكنة في مكانها مثلما يقف الماء ساكنًا في بركة في الغابة"4.
موت العائلة
في أحد حواراته يقول كناوسغارد: "تُعدّ الكتابة وسيلة
لطرد الخجل. حين تكتب، فالفكرة كلّها كيف تصير حرًّا. مِمَّ تصيرُ حُرًّا؟ من
الناس الذين يبحلقون بك. أعتقد أنّ الخجل يلعب دورًا رئيسًا في الحياة
الاجتماعيّة. إنّه ينظّم كلّ شيء ويجعل الناس يتصرّفون بأدب ولياقة تجاه بعضهم
البعض. لكنّني أملك الكثير منه، جرعاتٍ مفرطة. أنا مقيّدٌ للغاية وليس بوسعي فعل
شيءٍ". في حوارٍ آخر، يقول "من خلال تجربتي، حين تكتب فأنت
تريد الحقيقة، كما لا تريد أن تعتذر بأيّة طريقة". نحنُ هنا إزاء فكرتين،
الأولى هي الحجاب الذي يخلقه هذا الخجل "بجرعاتٍ مفرطة"، والثانية هي
الكشف الذي يتحقّق، إن تحقّق، بالكتابة، بدافع التحرّر كما يقول الكاتب. أمّا
مسألة اللياقة التي تحدّث عنها، فإنّها أمرٌ ثانوي، خاصّة إن قيلت الحقيقة عاريةً،
بلا أعذار. مسألة الحقيقة هذه إشكاليّة في رواية تنتقي مشاهدَ من حياة طويلة،
باعتبارها الحقيقة كاملة (رغم عدم ادّعائه الموضوعيّة أبدًا، حتّى أنّ صوت
كناوسغارد في الرواية يبدو أحيانًا أقرب لطفلٍ صغيرٍ بكّاءٍ لا يريد أن يكبر ويكتب
ما كتب). يُحاول كناوسغارد إمساك سرديّة حياته، فإذا مورس عنفٌ عليه بعدم نيله
الاعتراف من أبيه في طفولته، فإنّه الآن يعيد كتابة حياته كما رآها، وإن عنى ذلك
أنّه بات من يمارس عنف كتابة حياة الآخرين فلا بأس، هذا عَرَضٌ تافه، لكنّه مطلوبٌ
أيضًا، فالعودة للماضي، لبداية الوعي بالأشياء، قصدَ نيلِ الاعتراف ستظلّ حتمًا
ناقصة دون هؤلاء الآخرين، الأحياء. الكتابة هنا لهم بقدر ما هي ليست لهم. لهم لأنّ
كناوسغارد يريد أن يستعير لهم عيني أبيه، الذي لن يقرأ الرواية، ولن يعرف أن ابنه
قادرٌ على اجتراح شيءٍ مهم. وليست لهم لأنّها عنيفة، تنزع عنهم خصوصيّتهم وتلقيهم
في صحراء عرضها قرّاء كلّ اللغات التي تُرجمت لها الرواية، وأيضًا لأنّ اعترافهم
به، إن تمّ، سيظلّ ناقصًا، فهم ليسوا أباه. الموت المشارُ إليه في العنوان
"موتٌ في العائلة"، لا يشير إلى أبيه فحسب، بل يتمدّد ليشمل عائلته
بأسرها.
خطر الحقيقة
يجب أن نسأل هنا،
إن كان هذا حكمًا/إدانة أطلقه/ـا
كناوسغارد على عائلته؟ لكن قبل ذلك، لنعقد اتّفاقًا ونقول إنّ قول الحقيقة خَطِرٌ
(وسأقول لماذا بعد قليل)، لا على مستوى العلاقات العائلية في هذه الحالة وحسب، بل
لما ينطوي عليه من ادّعاءٍ أبعد من مجرّد الكتابة عن شيء مألوف بهدف طيِّ صفحته،
ادّعاءٌ أو قل تصريحًا بكتابة شيءٍ مختلف، عظيم، الأمر الذي ذكره كناوسغارد صراحة
أحيانًا: "يمكن أحيانًا أن يصير إحباطي مذعورًا، بل عدوانيًا أيضًا. عندما
يتهدد الخطر بهذه الطريقة الشيء الذي جعلني أواصل السير خلال حياتي الناضجة كلها،
الطموح في كتابة شيء استثنائي ذات يوم، تتملكني فكرة واحدة تقرض دماغي كأنّها فأر:
فكرة أنّ عليّ الفرار."5، ومواربة أحيانًا أخرى: "لم يدرك
أحد هذا الأمر أكثر من رامبو. ليس الأمر المتميّز عند رامبو هو أنّه توصّل إلى هذه
البصيرة العميقة في سن مبكرة إلى حد مقلق بل إنّه طبقها على حياته أيضًا. عند
رامبو، كان كلّ شيء متعلقًا بالحرية، في حياته كما في كتاباته. ولأنّ الحرية تأتي
أولًا، تمكّن رامبو من وضع كتاباته خلف ظهره، بل ولعله وجد أن عليه أن يضع الكتابة
خلف ظهره أيضًا لأنها تصبح بدورها قيدًا لا بُدّ من تحطيمه"6.
قلتُ إذا اتفقنا، فقد "يكون قرار الإفصاح عن حقيقة ما يجول في الذاكرة
والخاطر خطِرًا لأنّه، رغم احتمال تجميله الصورة بصفة الصدق، يبقى قابلًا لأن يصبح
خطأً جسيمًا ولو بعد حين"7. كيف؟ بأن تخرج الكتابة رديئة. فما نفع
كلّ هذا الكلام عن الصيغة، الحقيقة، إن كان ما نتحدّث عنه رديئًا؟ أو إن كانت
كتابة صفراء مثلًا، لا تروم سوى البكاء، اللطم، وتسديد لكمة لأبٍ ميتٍ لن يقرأ
أيَّ كلمة كُتبت؟ لكنّني متمسّكٌ بالقول إنّها لم تكن كذلك. إذا حوّرنا قليلًا
فيما تقوله جوديث بتلر: "إن نظرتَ مثلًا في سؤال سيمون دي بوفوار "هل
ينبغي إحراق ]الماركيز دو[ ساد (والد
كارل أوفه كناوسغارد)؟" وجدت الأمور أكثر تعقيدًا. قد يكون الحال أننا لا
نكون قادرين على التأمل الأخلاقي في إنسانيّة الآخر، حتّى عندما يكون ذلك الآخر قد
سعى إلى محق البشريّة (طفولة كناوسغارد هنا)، إلّا بتعليق الحُكم عليه"8.
لنعد الآن للسؤال، إن كان هنالك أيّة إدانة قد أطلقت هنا؟ سأتشجّع وأجيب بنعم إزاء
عائلته، ولا إزاء أبيه. يقول كناوسغارد في حوارٍ (مذكورٍ سالفًا): "ثمّة من
يكتب عنّي مؤخّرًا، وأنا فقط لا أستطيع تقبّل المسألة"؛ ويقول في موضعٍ في
الرواية، وبعد أن يبدي حبّه لأطفاله، إنّه يريد شيئًا أكثر، لا يمكن للأبوة أن
تجلبه؛ علاقته بأخيه إنغفه، قامت على التباين والاختلاف وربّما المنافسة منذ
البداية؛ تساؤله عن مشاعره تجاه زوجته الأولى، تونجه، وتأكيده على لسانها حبّها له.
أمّا فيما يتعلّق بأبيه، فرغم كلّ مساوئه، ورغم قول إنغفه لكناوسغارد (في الرواية)
إنّه آخر من يجب أن يأسف لموت والدهما، ظلّ يبكيه، دون تبريرٍ، حين علم خبر وفاته.
ولعلّ هذا يفتح
بابًا للتساؤل ما إذا كان سيكتب ما كتب تمامًا، لو أنّ أباه كان على قيد الحياة
لحظة الكتابة. ومع ذلك، يبدو أنّه من المهمّ لكناوسغارد، أن يكتب، ويثبّت، سرديّة
واحدة لحياته، لأسبابٍ قد تتعدّى الفنّ، ولننسى قليلًا عنفها وتضمينها الأحكام، إذ
ثمّة، في الرواية وخارجها، جانبٌ طفوليّ يصعب تجاهله، دفاعٌ مستميت عن بقعة أرضٍ
لا تتجاوز مساحة قدميه.
تماهٍ أخير
تماهيًا، مجددًا،
مع انطباعيّة الرواية التي أزعم، أريد استعارة بعض معايير الشعر الجيّد التي تحدّث
عنها الجاحظ في كتابه "كتاب الحيوان"، نفس المعايير التي يؤخذ عليها
انطباعيّتها أحيانًا. اختصارًا للحادثة، فقد انزعج الجاحظ مرّة من إعجاب شيخٍ
ببيتين من الشعر حتّى قام بتدوينهما، وقال قولته الشهيرة عن كون المعاني مطروحة في
الطريق، ثمّ أتبع: "وإنّما الشأن في ]...[ كثرة الماء،
وفي صحة الطبع وجودة السَّبك، فإنّما الشعر (الرواية هنا) صناعة، وضربٌ من النسج،
وجنسٌ من التصوير"9. وإذا كان كلام الجاحظ هذا يدفعنا للتفكير أكثر
في ماهيّة الماء وطبيعة النسج المقصود وغيرها، فإنّ كناوسغارد أيضًا يدفعنا
للتفكير أكثر في طبيعة الصيغة، أهمية قول الحقيقة، ربطها وفصلها بالأحكام، دون أن
يلقي بالًا للسؤال المُتفشّي: كيف نكتب الرواية؟ ففي النهاية "ما تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَموتُ"10 أو تحيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*): الإشارة إلى مقال كتبه كناوسغارد في النيويورك تايمز بعنوان
"لقد صرتُ أحدًا، انظر لي – I Am Somone, Look at Me".
(1): عن الحب
والموت – باتريك زوسكند - ترجمة لطيفة الدليمي – دار المدى – ص27
(2): ص8-9 من
الرواية.
(3): ص209 من
الرواية.
(4): ص273 من
الرواية.
(5): ص35 من
الرواية.
(6): ص209 من
الرواية.
(7): إرادة
الكتابة – بلقيس الكركي – المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر - ص147.
(8): الذات تصف
نفسها – جوديث بتلر – ترجمة فلاح رحيم – دار التنوير & جامعة الكوفة – ص100.
(9): كتاب
الحيوان / الجزء الثالث – الجاحظ – ص131-132، أو باب "القول في المعنى
واللفظ".
(10): سورة لقمان –
آية 34.