"ألتقط كتابًا ثمّ
أتساءل إن كنتُ قادرًا على حلّ معادلات ماكسويل إن كنتُ ماكسويل. لا بدّ أن تكون الإجابة
نعم كما أعتقد لأنّ ماكسويل هو ماكسويل وقد تمكّن من حلّ المعادلات. كان يجبُ أن يعطيني
هذا بعضًا من الأمل إلّا أنّه بطريقة ما جعلني أشعر أكثرَ أنّني لستُ كفءًا."
– من قصيدة، غياب المدّة المُحدّدة – ميشيل ويلبيك.
كلّ شيء يعود،
الوجه، الصوت، الشنطة المُعلّقة على اليد اليُمنى، غمازتان تسبقان الضحك دومًا،
وحزنٌ ملتبسٌ أتجاهله خَجِلًا أو حَذِرًا من سوء الفهم. رغم الرتابة، تسير الحياة،
لكنّني بقوّة الذكريات، أسير بمحاذاتها، كأنّني أطالعها من داخل سيّارة، ويفصل
زجاجٌ بيني وبينها. تتزاحم في رأسي مئة نهاية لما أكتبه، ولا أستطيع البدء إلّا من
مكانٍ واحد: وصلتُ فنلندا توًا، أقف في طابور الجوازات مُفتشًا في هاتفي عن شبكة
إنترنت لأطمئن أهلي، لأفاجأ بموت صديقتي خديجة المُفاجئ. لكنّني سأحاول، لأنّك
تستحقّين ما هو أكثر من الكسل.
في آخر لقاءٍ لنا،
عرّفتِني على أبيك، حضر ثلاثتنا اليوم الأخير من مؤتمر النقد الأدبي في جامعة
اليرموك. لم يلتفت أبوكِ يومها صوبي وهو يُسلّمُ عليّ، وأخبرتِني أنّه كان مُهتمًا
بعزومة انتهاء المؤتمر. تحدّثنا قليلًا عن كتابٍ أنجزه عن إبراهيم السعافين، وأذكر
ما قلتِه يومها "بصراحة مش كثير عاجبني هذا الشغل كلُّه، بس بظل أبوي يعني"
وضحكتِ. إبراهيم السعافين بات رئيس تحكيم جائزة البوكر هذا العام، فعودي قليلًا يا
خديجة، لنسخر كثيرًا. المهم، التقيتُ أباكِ منذ شهرٍ، تفاجأت حين تذكّرني، قال أنّ
ثمّة صورة جمعتنا سُويّة، لكنّ قصّي لشعري أحجمه عن ذكر الحادثة قبل أن أبادر. كان
هادئًا، رزينًا في حديثه، لكنّه بارد، ليس كقاتلٍ متمرّس، بل أقربُ لمراهقٍ دخّن
أوّل سيجارة في حياته، وعلقت رائحة الذنب، لا بملابسه، بل بجلده. كان حائرًا بين: "أنا
مش حاسس بالحزن، بس حاسس بالمسؤوليّة"، وبين: "لمّا درست طب أسنان
لامتني إنّي مش معطيها حرّيتها، ولما بلّشت ماجستير عربي بإيران لامتني إنّي
معطيها حرّيّة أكثر من اللازم". أراد أن ينشر كتابًا يحمل اسمكِ، أنتِ التي
حذفتِ كلّ ما نشرتِه على الإنترنت طوعًا.
***
أفكّر الآن في
أشياء كثيرة، أفكّر بالقرب الشديد بينك وبين الرائد توم في أغنية ديفيد بووي 2001:
Space Oddity
إذ يطفو بأغرب الطُرق المُمكنة، ويرى نجومًا تختلف عن تلك التي اعتاد عليها. لو
أنّ بووي قرأ بيت المُتنبّي "حتّام نحن نساري النجم في الظُلم ... وما سراه
على خُفٍّ ولا قدم" لتردّد قبل أن ينسب أغنيته إلى فيلمِ كوبريك الأشهر A
space odyssey.
لكن، لعلّ المُتنبّي كان ليُسرّ من الاقتراح الذي تُقدّمه خاتمة الأغنية "من
المحطّة الأرضيّة إلى الرائد توم / تعطّلت دوائرك الكهربائيّة، وثمّة أمرٌ ليس على
ما يرام / هل تسمعني، أيّها الرائد توم؟ /
هل تسمعني، أيّها الرائد توم؟ / هل
تسمعني، أيّها الرائد توم؟ هل... / ها أنا
أطفو حول حافظة طعامي / أعلى بكثير من القمر / ]وأعلى من[ الكرة
الأرضية زرقاء / وليس هنالك ما أستطيع فعله". لكنّني أمشي، وأفكّر في معنى
الانتحار، ولا يحضرني سوى أنّنا وحدنا نسأل الأسئلة في هذا الليل الموحش، بينما
أنتِ تمدّين قدميك في فضاءٍ ما، ولا تسمعينا، كما لم يسمع الرائد توم نداءات
المحطّة الأرضيّة.
أفكّر في مقطعٍ
آخر من قصيدة ويلبيك ذاتها "إذا ما كتبتُ شيئًا هل يجعله ذلك حقيقيًّا
أكثر؟ إذا ما كتبتُ ما له لاحة النّثر أما زال بالإمكان اعتباره شعرًا؟ بصراحة، لستُ
واثقًا ممّا أقوم به. لا أحدَ منّا كذلك. كلّ هذا مضيعة للوقت. ]فقط[ نملأ الفراغات العريضة قبل
أن نموت."، فيقودني إلى سؤال هولدن كولفيلد، في الحارس في حقل الشوفان: أين
يذهب البطّ حين تتجمّد البحيرة؟ أين يذهب الحزن حين تتجمد المشاعر يا خديجة؟ لم أعد حزينًا، وربّما
لم يدم حزني أكثر من يومٍ، وأبقى لي رغبة دائمة بالكتابة عنكِ. شيئًا فشيئًا، يبدو
لي أنّني أكتب عن نفسي أكثر منكِ. ثمّة فراغٌ خلّفه غيابك، يأكلني لأملأه، وأكره
الشعور لأنّه يذكّرني بكلّ اللحظات التي توجّب عليّ تقديم نفسي فيها إلى مجموعة من
الغرباء: في أوّل لقاءٍ مع طلبة كليّة الآداب في فنلندا سُئلنا عن أشياء نتطلّع
لها في البلد، وحين أعياني الجواب، قلت: هوكي الجليد، ولم يسبق أن شاهدت مباراة
هوكي واحدة. حين أُسأَل "بتحب العربي شكلك"، "شو بتحب تسمع"،
أو حين سألني طالبان أمريكيان في كافيتيريا الجامعة "لا بدّ أنّك مطلعٌ بحكم
دراستك على كثير من الكتب الدينية، ماذا يعجبك منها؟". الفارق هنا يا خديجة،
أنّني أنا من أطالب نفسي بالإجابات.
حزينٌ
لأنّك لن تصيري يومًا ما تريدين: القصائد القليلة التي ترجمتِها من الفارسيّة لم
تُجمع، محوتِ القصص التي كتبتِها، وحتّى الدراسة لم تُنهِها. عزائي فقط أنّنا
"نَحْنُ مَنْ نَحْنُ في المسيسيِبّي. لَنا ما تَبَقَّى لَنا مِنَ الأَمْسِ":
لي رسائلكُ الصوتيّة، لي صورة واحدة معكِ، لي هديّتان منكِ، والكثير الكثير من
الوِدّ.
***
الساعة
الواحدة من السابع والعشرين من آب الماضي، توقّف قلبُ خديجة عن النبض، فصارت كلّ
الأيّام كأنّها السابع والعشرون من آب؛ مجازٌ ربّما يقولني أكثر ممّا يقولك، فأنتِ
اخترتِ شكلَ النهاية: صامتة، بلا وداعاتٍ مكرّرة، وبلا كلامٍ مرتجلٍ ربّما نندم
عليه لاحقًا. أمّا أنا فما زلتُ مسافرًا في مطارٍ أدخله أوّل مرّة.