هذه القصّة نتاج ورشة كتابة قصصيّة نظّمها The Museum of Impossible Forms مع الكاتب العراقي حسن بلاسم. قُمنا في بداية الورشة باختيار صورة عشوائيّة، على أن يكتب جميع المشاركين قصصًا حولها. الصورة المختارة عبارة عن رجلٍ يقف على أحد شواطئ اليونان، لا أكثر.
***
حلمتُ أنّ سارة غرقت
في البحر، وحين استيقظت لم أجدها. هاتفتها طويلًا دون جواب. أغلقت فجأة جميع
حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي. حتّى الشرطة لم تمدّني بأيّ خبر عنها، كما
لم يعثر على اسمها في سجلّات المغادرين. أقيم في رودس منذ عامين، لم أفعل شيئًا مهمًّا
منذ رحلت عن الأردن، أكتب قصصًا لا أحبّها، فأتركها وأبدأ أخرى. تعرّفتُ على سارة
في بار "Red Lion"
بعد شهرٍ من مجيئي إلى هنا. كان يومًا ماطرًا، وقد مشيتُ فترة طويلة باحثًا عن
حمّام أبول فيه، وحين مرّ سراب البار أمام عينيّ بدا كأنّني أراه في حلمي. أفرغتُ
حمولتي، وخرجت لأدخّن سيجارة في الخارج. كانت هناك، تمثالًا حجريًا يخرج الدُّخان
من فتحة تشقّ رأسه، يبلّلها المطر دون أن تتزحزح. فكّرتُ لحظتها بأنّ ما أراه
استعارة لحياتي، فالتماثيل، لو جرّدناها من سير من تمثّلهم، صورٌ تقع خارج الزمن،
لحظة ثابتة، مهما مرّ عليها من ظروف. لم أفكّر كثيرًا في هُويّتها، قبل أن أفاجأ
بالسؤال:
-
عربي؟
-
مزبوط... همّام من الأردن.
-
وأنا سارة، فلسطينيّة.
كانت وحيدة مثلي،
أحبّت يونانيًّا يعيش في رودس، واستقرّت فيها بعد أن انفصلا. تعمل معلّمة لغة
إنجليزيّة، وترسمُ في أوقات الفراغ. سألتني عن سبب وجودي في جزيرة صغيرة كهذه، فكّرت
طويلًا بابني الذي هجرتُه دون أن أراه، كنتُ خائفًا من هذه الحقيقة ولا أريد لها
أن تنكشف، أشعر بفرحٍ طفيف كأنّني أرى ابتسامة مُلوّنة على وجهي، فلم أرد لها أن
تمَّحِيَ بسرعة، قبل أن توجد حتّى. كذبتُ وقلتُ لها أنّني مثلها، تزوّجتُ يونانيّة
وانفصلنا، جرّبتُ العيش في أثينا لكنّها قذرة، يصطفّ التاريخ فيها كأعواد كبريتٍ
محروقة. رودس هادئة، وهذا جيّد. ابتسمَتْ ثمّ عرضَتْ أن تجلب مشروبًا لنا. ثمّة
شيءٌ فاتنٌ في مشيتها، تمشي ببطء، يدها اليمنى ثابتة والأخرى تتحرّك ذهابًا
ومجيئًا، وبين كلّ خطوة وأخرى هنالك فاصلٌ زمنيّ قصير، كأنّها تمشي بالعرض البطيء.
أدركتُ وأنا أراقبها أنّني أريد العيش معها، لا لأنني أعجبتُ بها، بل لأنّها صامتة
أغلب الوقت؛ كأنّ شيئًا في هذا الصمت يوحّدنا، أردتُ أن ألتصق به أكثر.
***
بدأتُ بعد حادثة
الاختفاء أمشي يوميًّا، أقنعت نفسي أنّ المشي قد يخفّف هذا الحزن وينسيني الألم
المفاجئ، لكنّني كنتُ أعرف أنّني أمشي كي أعثر عليها في مكانٍ ما. طيلة الأوقات
التي مشيتُ فيها، ظلّت فكرة واحدة تطرق رأسي بغرابة: شاهدتُ وثائقيًا عن الفيزيائي
شرودنغر، يدّعي فيه أنّ القطّة، أي قطّة، لو وجدت في صندوق ما، في ظروفٍ معيّنة، ستكون حيّةً
وميتةً في اللحظة نفسها، طالما بقي الصندوق مغلقًا؛ فهل يمكن أن تكون سارة هي قطّة شرودنغر؟ أقصد ماذا لو
أنّها دخلت حياة أخرى، حياة موازية، دون مقدّمات؟ لا تهمّ الآليّة، فقط ماذا لو؟ ثمّ كيف أفتح هذا الصندوق؟ تشتّت
ذهني، ما أشعرني بالجوع.
هبط الليل، وكما
المسرنم، لم أعِ أين وصلتُ حتّى ضربت الأمواج ساقيّ. كنتُ واقفًا هناك، أطرد عن
رأسي صورة ابن يقظان، أفكّر في هذا البحر الكبير ووحدتي. تذكّرتُ كيف مرّت الأحداث
منذ لحظة لقائي بها في البار، حتّى انتقلت للعيش عندي. في طريقي إلى البيت حاولتُ
طرد الحزن، لأفكّر أفضل. وصلتُ بعد عشرة دقائق، وتعثّرتُ لحظة دخولي بفردة حذائها.
كان حذاءً صغيرًا أسودَ بمقاس 38، حملته لأضعه في دولابها لحظة اكتشفتُ أنّ جميع
ملابسها بقيت في مكانها. انتابني شعوران لحظتها: غرابة لا عهد لي بها، إذ يبدو الأمر
برمّته كأنّها ذهبت لتشتري غرضًا ولم تعد، وأملٌ قريبٌ بعودتها. يكبرُ الشعوران
داخلي، ولا أستطيع التفكير سوى أنّ الأمر برمّته يشبه الموت. لا يهم إن كان مجازًا
أم حقيقة، فكلا الخيارين مُرعبين.
***
لا أتذكّر ذهابي
للنوم، لكنّ هاجسًا أيقظني فجأة، بدا كأنني سمعتُ صوتَها حين وصلتني رسالة على
الهاتف، الساعة الخامسة فجرًا: لاقيني بأثينا، الساعة الخامسة مساءً، مقابل
الأكروبوليس. رقم المُرسل مجهول. لكنّ اللهجة المستخدمة مألوفة. تفقّدتُ حجوزات
القوارب السريعة، فلم أفلح، إذ كانت الخيارات كلّها محصورة بالعبّارات الكبيرة
التي تأخذ وقتًا أطول مما أملك. اشتريتُ تذكرة طيران تنطلق الساعة الثالثة مساءً،
وتصل في الرابعة. أخذتُ معي جهاز تسجيلٍ، بضعةُ ملابس في حال طالت الإقامة، وفردة
حذائها، كذكرى جميلة أو كهديّة – من يدري؟-. خرجتُ من مطار أثينا الدولي في
الرابعة وعشرة دقائق، ثمّ أقلّني تاكسي إلى الأكروبوليس قبل الموعد بخمس دقائق.
يبدو المارّة
بعيدين عنّي رغم قربهم، كأنّ بيني وبينهم حاجز زجاجيّ، الساحة واسعة بخلفيّة عريضة
يزركشها منظر الأكروبوليس من ورائي. تبدأ زخّاتٌ قليلة من المطر بالهطول، ويبدو
كلّ شيء كاّنه مجرّد مشهدٍ في فيلم لثيو أنجيلوبولس: أوجهٌ دعكها الزمن، انتظارٌ
لا ينقضي، مطرٌ مفاجئ، موسيقى في الخلفيّة، شوارعُ قذرة لطخها البصاق وأعقاب
السجائر، وحبيبة غائبة. أناظر ساعتي: الخامسة تمامًا. لا أحد. يخفق قلبي بقوّة،
وأشعر بالهزيمة، أودّ لو أنّ جهاز التسجيل يعمل الآن ليسجّل صوت الخيبة. تمرّ
الدقائق أكثر، وقبل أن أهمّ بالمضيّ في طريقي، تصلني رسالة أخرى.
***
في أحد الأيّام
كنتُ وحدي في البيت، أحاول كتابة قصّة عن رجل يبحث عن نفسه في المقابر. يخرج كلّ
يومٍ ويفتّش مقابر مدينته واحدة واحدة، متأكّدًا من ذلك الشعور الغريب، الذي خيّم
عليه ذات صباح، حين رأى على التلفاز جثّة رجلٍ قضى في تفجيرٍ يشبهه حدّ التطابق.
راح يخبر من حوله بما رآه دون أن يصدّقه أحد، أروه أسماء الضحايا منشورة على
الإنترنت، لكنّه لم يصدّق، ظلّ يقول أنّ الحياة غريبة بما يكفي لأن يجاريها حتّى
النهاية، حتّى النهاية. كنتُ أكتبها شاعرًا بالرثاء لنفسي، ذلك حين سمعتُ نباح
كلبٍ ترافق مع فتح باب البيت، كان كلبًا ناصع البياض بطوقٍ أحمر ينتهي بيد سارة.
نظرتُ إليهما بهدوء، نظرتُ طويلًا دون أن أقول شيئًا. بعد فترة من الصمت، كسرت سارة
الجليد الذي لسعت أطرافه أقدامنا.
-
مالك؟
-
شو هذا؟
-
ببغا.. إيش هذا يعني؟
-
قصدي، متى جبتيه؟
-
حكيتلك مبارح إني رح أشتري كلب.
-
مو متذكّر.
لم أفه بشيء أكثر،
أغلقت اللابتوب دون أن أحفظ القصّة، وخرجتُ غاضبًا من البيت. لم أعرف لمَ لم أقل
لها أنني أخاف من الكلاب، اعتقدتُ أنّ عليها أن تفهم وحدها. مشيتُ ودخّنتُ كثيرًا،
دخلتُ طرقات لا أعرفها، حاولتُ الحديث مع غرباء جدد: صاحب سوبرماركت اشتريتُ قنينة
ماء من عنده، فتاة تستفسر عن مواعيد الباصات، شرطي ألقى التحيّة عليّ أثناء انتظار
إشارة المرور، دون أن أقوى على إيجاد مدخلٍ في كلّ مرّة. شعوري بأنّني حالة ميؤوسٌ
منها، دفعني للتفكير فيما وجدته سارة لديّ لتعيش معي. لم تبدِ انزعاجًا عادة، تعرّفنا
على بضعة أصدقاء، نمارس الجنس بوتيرة جيّدة، وعادة ما تنهيه بإشارة إلى أدائي
الحسن. أخذتُ أفكّر بتلك الإشادة المتكرّرة، إن كانت راضية فلا داعي لإثبات ذلك.
ثمّة احتمالين لا أكثر: أن يكون الأمر مجاملة، أو إشارة إلى أنّني لم أكن جيّدًا
فعلًا. وكلا الاحتمالين مزعجين. لكن لماذا لم أفكّر في هذا سوى الآن؟ حلّ الظلام
حين قررت العودة للبيت، وحين وصلتُ وجدتها تجلس في الصالة تتابع فيلم أنجيلوبولوس
"الأبدية ويوم" على محطّة أرضيّة. سبق وشاهدتُ الفيلم، فقلتُ لها
ممازحًا:
-
بكم تبيعي الكلام؟
-
بعته وخلّصت.
فهمتُ قصدها. لا
أعرف على أيّ أرضٍ أقف الآن، فأنا فرحٌ لذهاب الكلب، لكنّني خائفٌ من ردّة فعلها.
كانت هادئة كما لو أنّ الأمر لم يعنها، كأنّ غضبي صباحًا كان بلا معنى، لذا لا
يستحقّ الوقوف والسؤال عن سببه. لم أقل لها شيئًا، أكملنا الفيلم صامتين، وكذلك
ذهبنا للنّوم. لم يتغيّر شيءٌ في علاقتنا، فقط منتجنا ذلك اليوم، وأكملنا كما
كنّا، ما تغيّر هو أنّني أصبحت أكثر حساسيّة تجاه نفسي، شعرتُ يومها بالذنب، لا
أعرف سببه، لكنه موجود. فعملتُ جاهدًا بعدها ألّا يكبر، لا يتطلّب الأمر سوى
الاهتمام بالتفاصيل، حسابٌ قليل للعواقب ومحاولة تجنّبها. نجحتُ في ذلك لفترة
طويلة، ثمّ أتى غيابها المفاجئ ليهدم كلّ شيء، لماذا يمكن أن يخرج أحدٌ من حياتك
إن لم يحصل شيءٌ بينكما؟ إن لم أكن أنا السبب، فقد أرادت أن يبدو الأمر كذلك. وفي
كلا الحالتين، أؤكّد لكم أنّها نجحت فيه.
***
"أنا هون من
خمس دقايق، وينك؟" يبدو فعلًا ساخرًا
أن يُرسل لك سؤال من رقم مجهول. "أنا هوووون" صرختُ بأعلى صوتي، رمتني
فتاتان بنظراتهما، فرفعتُ كتفاي لهما. أمسح المكان بعينيّ، أدقّق أكثر، أفكّر في
احتمال تنكّرها، ثمّ أطرد الفكرة من رأسي. أشعر أنّني مختطف، وكم عنيفٌ وغريب ما
يحصل. لا أحد في الأفق، أنتظر أكثر، وحين أملّ، أفتح هاتفي وأبدأ النظر إلى صورنا
معًا. صوّرتها مرّة وهي غاضبة. كنتُ أريها قصيدة ترجمتها للكاتب الفرنسي ميشيل
ويلبيك، قرأتُها لها بصوتٍ عالٍ:
نظام جديد
كانت ليلة بلا نجوم، ]تمامًا[ كما أُحبّها.
قد نفدت الزُّبدة من عندي لذا ذهبت إلى السّوق.
في طريقي صادفتُ مُسلمًا يقف بمفرده على الرّصيف.
سألتُه إن كان سيفجّرني في هجومٍ انتحاريّ.
حدّق بي مشدوهًا. لم يكن ثمّة ودٌّ في عينيه.
حين وصلتُ أخيرًا إلى مونوبريكس
تذكّرتُ أنّه قد أُغلق
منذ شهور.
كانت غاضبة من عنصريّته، ومنّي لأنّني أشجّع ما كتبه بترجمتي له. أجبتها
ببرود: "يمكن هو عنصري فعلًا، بس ما تنكري إنّه القصيدة حلوة، بعرف ترجمتي
زفت، بس عالأقل بصيغتها الإنجليزيّة". كنتُ أستطيع الدفاع عن خياري بطريقة
أفضل. أستطيع القول أنّ ترجمتي لا تعني موافقتي لما يقول، أنّني ترجمتها بدافعِ
التحدّي لنفسي، أنّها كانت ضمن مجموعة أخرى من القصائد. لكنّني فضّلتُ المواجهة
يومها، أن أرى إلى أيّ مدًى يمكن أن أحتمل غضبها منّي، لذا قرّرتُ التقاط صورة
لها، لعينيها الخضراوين وهما ينقلبان حمراوين.
بعثت رسالة أخرى تقول فيها: "إلي تلت ساعة بستنّى، أنا رايحة".
***
مرّ أسبوع ولم ترسل
لي شيئًا، تذكّرتُ خديجة، صديقة سارة في رودس، فكّرت أنّ عليّ لقاءها، فحملتُ نفسي
وعدت. اتّفقت مع خديجة أن نتعشّى سويّة في بيتي الساعة التاسعة مساءً، وأعلمتُها
باختفاء سارة المفاجئ. في الثامنة والنصف وصلتني رسالةٌ أخرى "بتتذكّر أوّل
مرّة تقابلنا؟ كان شكلك كتير حلو". نظرتُ إلى نفسي في المرآة: شعرٌ طويلٌ
مسرّحٌ برداءة، عينان طاولهما السواد من كلّ جانب، تجاعيد جديدة في الجبهة وعند
الوجنتين. من المؤكّد أنني كنت جميلًا يومها. جاءت خديجة على الموعد، حضّرتُ صينيّة
دجاج مع البطاطا، هي الأكلة الوحيدة التي أستطيع طبخها.
-
كيفَك؟
-
ما بعرف، حاسس إنّي غبي. جزء منّي كرهانها،
بس جزء مش قادر. والأهم، عندي رغبة أفهم ليش هيك صار.
-
كُنت حاسّة في شي غلط بيناتكم، تنيناتكم كنتو
ساكتين أغلب الوقت بآخر فترة.
-
لأ أبدًا. لآخر يوم كنّا كويسين. بآخر ليلة
كان في حفلة براكساتي كافيه، كانت كثير مبسوطة لإنه رح يعزفوا لجان سيبيليوس. كانت
مفكريتني بحبّه كمان. هو الحق علي كان لازم أحكيلها إني ما بحبه، بس ما كانت أسوأ
إشي بالعالم. عالأقل هي انبسطت.
-
مش عارفة شو أحكيلك. الموضوع كلّه غريب، حتّى
علي. ما قصدي شي، بس إذا زعلانة منك لسبب ما، أنا ليه لتقطعني؟
-
امسكي شوفي شو بعثتلي اليوم.
-
هاد متى؟
-
قبل ساعة.
-
...
-
خديجة، عمرها حكت عني قدامك؟ بقصد أشياء
سيئة.
-
ما في إشي محدّد، وأنا أصلًا ما كنت بشوفها
كتير، مرة أو تنتين بالأسبوع.
-
حاولي أكثر.
-
ما بعرف إذا مهم أو لأ، بس مرّة حكتلي إنّك
كنت متزوّج يونانيّة، ولمّا سَأْلَتَك عنها، انتَ غيّرت الموضوع. كنت مفكّرتها
غيرانة وهي بتحكي، بس ما صار أكتر من هيك، غيّرنا الموضوع بسرعة.
***
مرّ أسبوعين من لقائي بخديجة، زاد قلقي بعدها، وصرتُ
أقلّ نومًا. بدأتُ أتلقّى يوميًا رسالة واحدة في الموعد نفسه، الثامنة والنصف
مساءً، هذه عينة منها: 1- بعرف إنك ما بتحب سيبيليوس. 2- قولتك شو بصير بسوريا، رح
يظل بشار الأسد؟ 3- برشلونة رح يلعبوا مع أولمبياكوس بكرا، تروح نحضرها؟ في البدء،
كان قلبي يقفز من مكانه حين تضيء شاشة الهاتف، لكنّني مع مرور الوقت لم أعد أكترث،
يصير الأمر مثل أغنية اعتدت أن تحبّها، لكنّها تفقد تأثيرها مع الزمن. قلقي دفعني
لأماكن أخرى، بدأت أبحث في كتبها التي تَرَكَتْها وراءها. كانت في الفترة الأخيرة
كثيرة الاهتمام بالمجلات السياحيّة، اعتقدتُ بدايةً أنّها تسلية عابرة، أو ربّما
حنينًا إلى أمكنة وخيارات غير متاحة. لكنّها أخذت تكثر حتّى أتخمت مكتبتنا
الصغيرة. تصفّحتها سريعًا، فأُجبرتُ على المرور بقوائم طويلة للمطاعم والمتاحف
والحدائق الواجب زيارتها. ثمّ وصلتُ إلى الروايات. كانت مفتونة بكتّاب لم أحبّهم
كثيرًا: نجيب محفوظ، ربيع جابر، هارولد بنتر، ليديا ديفيز. الأخيرة خاصّة أثارت
كثيرًا من الشجارات بيننا. كانت تراها ذكيّة وحادّة، وتعرف كيف تختصر. وأنا لا
يثير حنقي أكثر من الاختصار هذا. لكنّنا كنّا نتشارك حُبَّ جوليان بارنز. بحثتُ عن
رواياته، كنّا نملك نسختين من روايته "الإحساس بالنهاية"، واحدة
بالإنجليزيّة والأخرى بترجمة عربيّة رديئة. لم أعثر على الأخيرة، لكنّي وجدتُ النسخة
الإنجليزيّة. قلّبتها سريعًا، ووجدت صفحةً مخطّطة بالأكمل، وثمّة جملة بعينها مخطّطٌة
أكثر من اللازم. كانت تقول: "Whereof we
cannot speak, thereof must we remain silent". أحفظ هذه الجملة،
أحفظها حتّى قبل قراءتي لرواية بارنز، لأنّني سبق وقرأتها في كتاب "Tractatus" لفيتجينشتين،
أو كما في ترجمته العربيّة التي قرأتها "رسالة منطقية فلسفية". تشنّجتُ،
لا لأنني أعرف ما قصده فيتغنشتين بتلك الجملة، بل لأنّ بجانب الصفحة من رواية
جوليان بارنز، ثمّة توقيعٌ يعود إلى الليلة السابقة لاختفاء سارة.
رغم إنّ الحبّ، الحزن، الله، أيّ شيء مجرّد، غير
موضوعيّ، هي وحدها الأشياء التي تستحقّ العيش من أجلها، إلّا أنّ مناقشتها لن تساعد
في فهمها أبدًا. هذا ما قرأته سابقًا في مقالة عن فيتغينشتين، وعن جملته هذه
تحديدًا. لا أعرف إن كانت تريدني أن أصل إلى هذه الحقيقة، أن أبحث فيما قرأت،
وأنام مرتاحَ البال في النهاية. ما حصل أنّني غرقتُ في حزني، كنتُ مسؤولًا عن هذا
الغياب بشكلٍ أو بآخر، وهذه المسؤوليّة دفعتني، دون أن أعرف السبب، للفتكير بابني:
تيم. أردتُ أن أكلّمه، أن أسمع صوته، لكنّنا، كما في أفلام الكرتون، نصل دومًا وقد أطلقت السفينة صافرتها.
***
تمرّ الأيّام، فقط تمرّ، لا سريعة ولا بطيئة. ما زلتُ
أكتبُ قصصًا لا أحبّها، أدخّن كثيرًا، أشاهد الكثير من الأفلام، ولا أسمع سوى سيمفونيّة
موسيقيّة واحدة: السيمفونيّة الثالثة لهنريك غوريكي "أغانٍ حزينة"،
لأنّها تذكّرني بابني، لكنّني على الأقلّ توقّفتُ عن التفكير بسارة. قرّرتُ، رغبة بالانتهاء
من هذه القصّة، التي بالمناسبة لم أحبّها أيضًا، أن أترجم مقاطع الأغاني الثلاث من
السيمفونيّة، ولكم أن تعتبروا هذا الفعل تربيتة على ظهر هذا الحزن الكبير، الكبير
مثل البحر الذي وقفتُ عليه منتصف القصّة:
الحركة الأولى
ولدي، المفضّل والمحبوب
قاسم جراحك
والدتَك
فأنا، ولدي
العزيز، طالما حملتُك في قلبي،
وطالما رعيتُك
بإخلاص
تحدّث مع أمّك،
لتجعلها سعيدة،
رغم أنّك هممتَ
بالرحيل فعلًا، يا أملي الأعزّ
الحركة الثانية
لا، أمّي، لا
تذرفي الدموع،
فأكثر ملكات
السماء عفافًا
تحيطني برعايتها
الحركة الثالثة
أين
ذهب
ابني
الأغلى؟
ربّما
أثناء الانتفاضة
قتله
العدوّ الوحشيّ
آهٍ، أيها الفاسدون
بحقّ الرّب، الأكثر قداسة،
أخبروني، لماذا قتلتم
ابني؟
لن يحدث أبدًا
أن أستعيد دعمه
حتّى وإن جحُظَت
عيناي بكاءً
حتّى لو تمكّنت دموعي
من خلق نهر أودر
آخر
لن تستطيع أن تعيد
الحياة
لابني
إنّه يرقد في قبره
الذي لا أعرف له طريقًا
لكنّني لا أزال أسأل الناس عنه
في كلّ مكان
لعلّ الطفل المسكين
يضطجع في خندقٍ وعر
حيث كان بإمكانه
أن ينام في
سريره الدافئ
آهٍ، غنّوا له
يا عصافير الربّ الغريدة الصغيرة
فأمّه
لا تستطيع
إيجاده
وأنتِ، يا أزهار الربّ الصغيرة
علّك تتفتّحين من كلّ جانب
حتّى يتمكّن ابني