الجمعة، 1 نوفمبر 2024

اختبار المسافة بين الحانوتي والجثة: عن عرض "السما بتمطّر عصافير" لناصر محمد

 (بإذن من مؤسسة مَماغ)


مثلما يبغت الذئب سهلًا زاخرًا بالكائنات المذعورة

فيرأف بها

ويستدير نحو منعطف آخر

كأن كل هذا الظلام لا يكفي لنحيب ذئب مثلك

 

ما أجملك أيها الذئب

جائع

وتتعفّف عن الجثث

 

-        قاسم حدّاد

 

كمن مسَّهُ السحر

قبل أسبوعين، أكثر أو أقل، في شهر أيلول على أيّ حال، قدّم ناصر محمد، الذي لستُ مستعدًّا بعد لوصفه بفنّان أو كاتب أو ناشط أو أيّ تعريف سواها، عرضه "السّما بتمطّر عصافير" على تراس مؤسّسة مَماغ باللغة العربيّة، على أن يتكرّر العرض باللغة الإنجليزيّة في وقتٍ لاحق. حضرتُ شيئًا من البروفات، فاعتقدتُ أنّني فهمتُ شيئًا، مع اعتدادٍ بالذات مفاده أنّه لم يكن من داعٍ لتعويض ما غاب عنّي. يوم العرض، كنتُ أجلسُ مع صديقتي في مكتبة المؤسّسة التي أعملُ أمينًا لها، وكنّا نقطع التدخين والصفن في الأفق المفتوح على عمّان الشرقيّة، بالتحدّث أحيانًا. قلتُ لها إنّ لا رغبة بي لحضور العرض، وبشيء من السخرية ألمحتُ إلى أنّني لم أفهم منهُ شيئًا.

مع نهاية العرض، جلستُ لأسلّم على ناصر وأتحدّث مع المعارف والأصدقاء الذين ملأوا فراغات التراس. جلس معَنا صديق لصديق، ليسأل عن رأيِنا في العرض. ومثل أيّ أردنيّ يتعلّم رَوْزَ المقابل قبل أن يفتح فمه، أجبت بجملة تختبر المسافة بيننا: حلو، لكنّ تحفّظي الوحيد بأنّني لا أرى مكانًا للناشطيّة وسط الأعمال الفنيّة. انتفض، كمن مسّهُ السّحر، كأنّني شتمتُ أمّه في لحظة تجاوزني فيها الزمن، ثمّ لقّنني والسامعين درسًا طويلًا في معنى الفنّ الحديث القائم على البحث والتعليم، في معنى "الأداء" الذي ينسحب على كلّ مفاصل الحياة من كرة القدم إلى السياسة إلى حسن نصر الله وصولًا إلى عرض ناصر. نعتَنا بالقدامى (بمواربة، فنحنُ لم نرقَ لمقام الخطاب بالضمير الأوّل)، بكلمات تعتذر طوال الوقت عن عدم إتقانه العربيّة. سأله صديقي عن تعريفه للجمال، عن رؤيته لدوره في الفن: فقال سوري، أتقصد إيسثتكس أم بيوتي؟ وبين رغبتي بضربه على أمّ عينيه، وكراهتي للتردد الذي اعتراني فجأة من احتمال نقصٍ في معرفتي، من غياب المرجعيّات المشتركة التي قد تجعل النقاش يذهب إلى أيّ مكان سوى العنف، قلت لصديقي الذي أخذ في التفكير: فكّر بكانط، بالجمال في صورته المثاليّة، دون أن أقوى على القول إنّني لم أقرأه في حياتي، سوى ما أُعطيناه في التوجيهي.

المسافة لحظتها بدت أكبر من القياس، وعمّان لم تفشل، على عادتها، بأن تجمع التناقضات الصارخة، بين أقسى العته الفكري وأقسى التواضع الأخّاذ، وبينهما، كان صديق آخر، عاين الأضرار ثمّ انسحب من الجلسة، فانسحبت وإيّاه.

 

ما لا يُمكن نطقه

تعرّفتُ إلى ناصر بداية العام، في عشاءٍ أشبه ما يكون بواحد من عشاءات هانيبال ليكتر بنسخة مادس ميكلسين؛ ناصر واحد من ثمانية فنّانين حصلوا على منحة للإقامة في مؤسّسة مَماغ للعمل على مشروع فنيّ. قبلَها، مرّ إلى المكتبة، ولا أستطيع القول إنّني تنازلتُ عن ريبتي منه منذ اللقاء الأوّل (رغم أنّ الريبة هنا تبدو سابقة على المعرفة أصلًا، وهو شيء لا أنفيه عنّي بأيّ حال)، فقد كان مفعمًا بطاقةٍ لا قِبلَ لي بها، طاقة بوسعِها ردم الصراعات في شرقنا الأوسط الحبيب، وخفض جناح الذل والرحمة لا للأم والأب فحسب، بل لخلق الله جميعًا (والخبر دومًا ما ترى لا ما تسمع). أخبرَني أنّه عمل في المسرح، وبأنّه ينتوي تطوير قدرته أكثر فأكثر على صياغة أعماله القادمة باللغة العربيّة. العشاء، الذي أعدّه فنّان آخر مقيم في المؤسسة، كان عملًا فنيًّا بدوره، حيث أَعدّ طبقًا يتمثّلُ فيه كُلَّ فنّانٍ وفنّانة من المقيمين الجدد دون معرفة مسبقة بأيٍّ منهم. ما أذكرُه أنّ الأطباق كانت لذيذة للغاية، فانكببتُ عليها بنهم من تخلّى عن قياس أفعاله على مسطرة الذوق، وأراد أن يأكل الفنّ الحديث، برمّته، لينتهي بحمدلة الله على تسخيره الأمعاء لتقوم بالباقي.


(بإذن من مؤسسة مَماغ)

لا أذكرُ طبقَ ناصر، لكنّني أعرف فقط أنّه ليسَ بارعًا في الحديث عن نفسه، فقد بدت حياته أقرب لقصص الأطفال المعنيّة بتقديم موعظة أو عبرة، لكنّها، في الآن ذاته غير معنيّة بالكلام، كأنّ لسانه يتحرّك عنوة عنه، ساردًا أشياء عن العصافير، عن الطرق المفتوحة والمشي أبعد ممّا عمّر الله حتّى، وهذا كلّ ما هنالك. ما سواه كان بالونات ملأ بها عقلي الفراغ الذي لم تجد الكلمات مبنًى يلبسها حتّى يُخلق المعنى. أتشكّك بنفسي أحيانًا قبالة فنّانين مثل ناصر، أو مثل من ظننت أنّه ناصر لحظتها: هل بات ترمب كلّ ما هنالك؟ ألم يعُد شيءٌ يعني شيئًا في عالم الذكاء الاصطناعي؟ على العموم، هذه ليست أسئلة موجّهة لناصر.

لم يعجبني العرض الأوّل، المُقدّم بالعربيّة، ولم أستطع غصبَ نفسي على القول إلّا: يعطيك العافية، أمورك كويسة؟ ليشكرني ناصر بدماثة، مؤكّدًا أنّه ممتنّ لانتباهي لأموره. أمّا العرض الثاني، فبغتةً وعلى النقيض من الأوّل، فقد كان أشبه بانفجارٍ، انفجار ساكن يحدث في الداخل ولا نعاين سوى أعراضه، الكلمة التي ظلّت تتردّد في رأسي طوال العرض بصوت المحلّل النفسي مصطفى صفوان، وهو يقول إنّ التحليل النفسي يتلخص في جملة لنيتشه، الذي قال "هناك كلام ثقيل على الأذن، لكن نُطقه غير ممكن [...] والرغبة، التي هي أساسٌ لكلّ هذا ستجد مجالها لأن تُسمع عن طريق التوريات"[1]، ليكمل بأنّ ما لا يُقال، يتحوّل إلى عارض، هذيان، بوسعنا، لو سمحت لنا الإبستمولوجيا بقليلٍ من العبث، أن نسحبه على امتداده لنضيف إلى السابق كلام دولوز عن أنّ الهذيان ليس مرتبطًا بالطفولة بالضرورة، بل بالعالم الواسع[2]: بالأوتوسترادات التي تصير كفنًا كبيرًا لطيورٍ مدهوسة، بالطرقات التي يهيم بها ناصر لساعات ماشيًا، متلفّتًا، خائفًا من الجهات، حتّى تصير الجهات كلّها خطرًا نُعاين أضراره ريشًا وعظامًا مهروسةً وبقايا دماء، بغزّة التي ذكرها ناصر أكثر من مرّة أثناء عرضه، دون ربطٍ مباشرٍ معها يمرّغها بوحلِ استجداء عاطفة جمهورٍ، ذاك الذي رغم تبلّده (ربّما تبلّدي الذي أُسقطه عليه)، باتت غزّة تعني له العالم، بنفسِهِ التي فكّرتُ بأنّه يدفن شيئًا منها مع كلّ طيرٍ دفنه، باللغة التي تصير لسانًا مشقوقًا، أحدهما، رغم أنّه يمثّل اللغة الأم، يبدو أشبه بلغة زوجة الأب كما يصفها أنطون شمّاس "فالأم التي أرسلتني ذلك العصر، بلغة عربية، لشراء بذور عبّاد الشمس، باللغة العبرية، لم تكن تعلم هي الأُخرى أنها تسلّمني إلى الرابّة، إلى زوجة الأب الأُخرى، بكل ما تحمله هذه الكلمة من تداعيات سلبية في جميع الأساطير الشعبية العالمية؛ لم تكن تعلم هي الأُخرى أنها تسلّمني إلى رابّة تنهب الملكية وتصادر الأملاك، وتشتّت وتشرّد وتهجّر وتقتل باللغة العبرية"[3]؛ هي العربيّة (على غرابة الأمر)، بكلّ ما فيها من قهرٍ لا يساعد تاريخ نشأة كثيرين منّا على نفيه أو التنصّل منه، إذ ما من أحدٍ يقرّر، وهو في الصفّ الأوّل، أن يسجّل نفسه في مدرسة لا تعلّم إلّا الإنجليزيّة. وثانيهما، وجد في الإنجليزيّة بيتًا فاستراحت إليه مفاصله تعبًا، وقبل أن يغطّ في النوم، استحالَ نومه صراعًا، هلوسةً تبدّت تمرّغًا على الأرض، تبعتها قيامةٌ وسخريةٌ من الذات، من الأفكار الكبيرة حين تتحطّم جثّة طائرٍ على خيط شارع أو في قبضة عِجال السيارات المُسرعة، إلى الأفكار الصغيرة، حيث يقول ناصر في نقطة ما من العرض، وهو يتمسّك بشجرة ويحرّك جسده ذهابًا وإيابًا، بصوتٍ يظهر التماسك دون أن يفلح في مقاومة الاهتزاز، أو استحالة الفكرة "قبل ثلاث سنوات قررت أكتشف كل أشجار المدينة وطيورها".

لكن أيّ مدينة تلك يا ناصر؟

 

لا نهاية للكلام، لا نهاية للسقوط

العرض، ببساطة مُخلّة، وهو من باب ما لا يُلخَّص، مطروحٌ في العنوان: الدنيا بتمطّر عصافير. جملة خبريّة، تقع على الحدّ الفاصل بين الحقيقة والخيال، بين أن تكون فصلًا ممجوجًا في رواية لهاروكي موراكامي، وبين واقعٍ صوّرته كاميرا ناصر عصافير مدهوسة على جوانب الطرقات. وبإخلالٍ أكبر، فالعرضُ يقدّم لنا، على مدار ساعة، سجلًّا للعصافير التي تقاطعت معها خطوات ناصر أثناء مشيه، بعد أن فارقتها الحياة لغفلة الناس والسيارات عنها. عصافيره ليست غاضبة مثل عصافير هيتشكوك، ليست رمزًا ميتفازيقيًّا، ليست مدفوعةً بعماها لضرب الأسطح الزجاجيّة، بل هي كائنات منزوعة الإرادة الحرّة، محكومة بمصيرٍ مأساوي من جهتين: مأساة موتها التي يصحّ أن تكون ملهاةً من ناحية، ولا يصح أن تكون كذلك جرّاء غياب الوعي بتلك المأساة من الناحية الأخرى؛ إذ ما هي إلّا… طيور محكومة بثقة عمياء بقوّة بصرها.

يحاول ناصر أن ينقل شيئًا من تجربة العصافير، لكن ليست بحقيقتها، بل بمحاكاتها، بأن يصير بنفسه صورةً عن العصفور، صورةً واعية بافتراقها عنه قدر وعيها بلا جدوى رؤية العالم بعينيه. 

في الطريق إلى ذلك التخييل، يقرأ لنا نصًّا طويلًا، مملًّا في الحقيقة لو نُظر إليه بوصفه نصًّا مرهونًا للقراءة فحسب (كما فعلتُ أوّل مرّة أطلعني عليه، حيث أغرقتُهُ بأسئلة حول القيمة والجدوى والنظرة للمجتمع والرأسماليّة، حاول أن يقفز عنها جميعًا، لنخرج من النقاش بشكرًا باهتة قيلت حياءً، من الطرفين)، يجاوره فيديوهات قصيرة لشوارع تعجّ بالسيارات والقبور التي فتحها ناصر للعصافير في المدن التي تواجد فيها، وأصوات همهمة وتهويدات يجترحها بحنجرته مباشرةً أمام الجمهور، ليُصار إلى ترديدها وفق نسقٍ جنائزيٍّ طوال مدّة العرض. وبين هذا وذاك، يفتعل ناصر بجسده حركاتٍ تتمثّل العصافير، تنتهي كلّها بالسقوط، والتمدّد بوداعة كاذبة على الأرض، أو قُل مُعترضة، لكن لكثرة الأشياء التي تحتجُّ عليها، يبدو أنّها لا تحتجُّ على أيِّ شيءٍ، ربّما مثل مريضٍ أعناهُ الكلام مع طبيبه النفسيّ، ووصلَ إلى الإدراك الذي يخجل التحليل النفسي من الاعتراف به: أنّه لا نهاية للكلام، تمامًا كما لا نهاية للسقوط.

 

عن العصفور وصورته

سألتُ نفسي أثناء العرض: كيف يمكن له أن يذهب خطوةً أبعدَ بهذا الغضب، خطوةً تجاه قولِ شيءٍ عن هذه العدالة الغائبة؟ جاوبتُ، بشيءٍ من التردّد: لعلّه بإفشاء شيء عن ضعف المرء نفسه، ثمّ علّقتُ علامة الاستفهام.

التقيتُ العام الماضي بفنّانة لإجراء لقاء عن عملها الذي، ولو للحظة، اجتمعت وأصدقائي على رؤية شيء من الجمال فيه، أو هكذا أحسب. لكنّنا خَرَجنا بخُفّي حنين، فالمقابلة كانت أشبه بنميمة ممتدّة لساعتين من الزمن، اجترار لجلساتها مع من التقت وتأثّرت بهم، دون كلمة واحدة عن دوافعها هي لرسم ما ترسمه، عن رؤيتها، أيًّا كانت، للوحاتها المفرطة بالعُري، والأجساد التي تندّ عن شهوة ما، لبعضها، وللعالم الذي تودّ أن تخرج من إطار اللوحات لإغوائه، لكن عبثًا.

فكّرتُ فيها وأنا أشاهد ناصر، وسألتُ نفسي، من جديد: أيُدرك شيئًا عن الفاصل الذي يصطنعه بين الواقع، بما هو عليه، وصورته؟ أو، كما قال المعلّم الثاني: "ولا يظُنَّنَ ظانٌّ أنَّ المغلِّطَ والمحاكي قول واحدٌ، وذلك أنّهما مختلفان بوجوه: منها أنّ غرض المُغلِّط غير غرض المحاكي، إذ المُغلِّط هو الذي يغلّط السامع إلى نقيض الشيء حتى يوهمه أنّ الموجود غير موجود وأنّ غير الموجود موجود. فأما المحاكي للشيء فليس يوهم بالنقيض، لكن الشبيه"[4]، أو ما قاله الشيخ الرئيس: "والمحاكاة هي إيراد مثل الشيء وليس هو هو، فذلك كما يحاكى الحيوان الطبيعي بصورة هي في الظاهر كالطبيعي"[5].

 

(بإذن من مؤسسة مَماغ)

 

ما يفصل ناصر عن صديقتنا الفنّانة، هو عين ما يفصل المحاكاة عن التصديق، المحاكاة عن الأشياء على حقيقتها، إذ رغم أنّ "القول الصادق إذا حُرّفَ عن العادة وأُلحق به شيء تستأنس به النفس"[6]؛ يظلّ القول الصادق أقرب للجهل التام، مُلحِقًا بالنميمة والأحاديث المُجراة خلف أبواب الجامعات المغلقة والكافيهات رديئة القهوة واستوديوهات الفنّانين قيمةً لا امتداد لها أبعد من نفسها، من الكلمات التي قيلت بها، في تجاهل تامّ لكون "الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق، وكثير منهم إذا سمع التصديقات استكرهها وهرب منها"[7]، أو هذا ما فهمه ناصر على أقلّ تقدير، بإدخال التخييل عنصرًا في عمله، إذ طالما اقترن الأخير باللذة، وفي اللذة إيذان لإذعان النفس، بل ربّما تحطيمها على هيئة عنقاء مضادّة، ترضى بالرماد مصيرًا أحلى من نارٍ لمّا تكُن يومًا بردًا وسلامًا.

ندركُ ونحنُ نشاهد ناصرًا يتلوّى أمامنا أنّه ليس عصفورًا، لكنّها حقيقة مُغيّبة طوعًا، خاصّة مع الأنغام والإيقاعات، التي هي مادّة التأثير المُستدعاة، موسيقى ورقصًا (أو ما يشبه الرقص)، فـ"عمل اللحن في الشعر هو أنّه يُعدُّ النفسَ لقبول خيال الذي يُقصدُ تخييله"[8]، ذلك كي "يوقع في ذهن السامعين الشيء المُعبَّر عنه بدل القول"[9]؛ والقول هو ناصر نفسه، الذي قال في لحظة تماهٍ بين العصفور وصورته إنّه "يفضّل أن يهبط مع الطائر الذي يقع، دافنًا جزءًا منّي [معه]".

 

(بإذن من مؤسسة مَماغ)

 

ما غاب عن العرض وما حضر

طوال العرض، ظللتُ أنتظر شيئًا ما حسبتُه غائبًا، ففكّرتُ، مرتكنًا إلى حدس لا حائط يستند إليه، بأنّ ذاك الغائب كاد أن يُوجد (أو يظهر، إذا ما افترضنا غياب الوعي به) مرّتين خلال العرض. الأولى، وقد كانت لحظة تبدّت فيها الخيبة على وجه ناصر حين أعيته محاولة إصلاح الميكروفون المعقود على رقبته، ففكّه بعصبيّة حبّذا لو أنّها استحالت تحطيمًا له، إلّا أنّه تمالك غضبه، ولجأ إلى ميكروفون آخر.

الثانيةُ لحظةٌ توسّطت الدفن المجازيّ الذي اضطلع به، حيث شرع في حفر قبرٍ في حديقة المؤسّسة، إلى جانب القبر الذي دفن فيه طائرًا وجده مُغلّفًا في صحن مسخّن مُلقى على مشارف وسط البلد، ثمّ توقّف فجأةً، وراح يُطلِعُ الحضور على ريشاتٍ ثلاث، سقطن منه دون قصدٍ وهو يتحرّك بين الحضور. لحظتئذ، تمنّيتُ لو يتركها ملقاةً هناك، استعارةً ثقيلةً عن العصفور الغائب، في لحظة تخلّى فيها الزمن عن سلطته، لتسقط الريشات في حضن طبيعةٍ كلّ ما فيها يسير إلى مبتغًى له، لكنّه التقطها بسرعة، في حركة تشبهه أكثر ممّا تشبه الفنّ.

 

(بإذن من مؤسسة مَماغ)

 

وهكذا، حضرني ما أسماه ابن سينا يومًا أذًى يحدث جرّاء الفقد[10]، فأدركتُ أنّ الغائب عن العرض هو السقوط، حرفيًّا لا مجازًا، لإغلاق دائرة الغضب الذي مسحَ وجه ناصر ويديه، وكذا جسده الذي لم يكُن مرنًا كما في العرض الأوّل، ليفيدَ ناصر من قلّة المرونة تلك بإضافة طبقة من الصراع، إذ إنّ جسده الذي، في اللحظة التي استحثَّهُ فيها على القيام بما يعرف قدرتَه عليه، أبى، لكن ليس بالقدر الكافي لاستغلال ذلك الوهن لإحداث صدمة أكبر.

كان عليه أن ينهار، وهو يحفر القبرَ مثلًا، تمثّلًا بالفعل الثوري الوحيد الذي يعترف به فرانكو "بيفو" بيراردي، حين يقول: "لكنّ جيشًا جديدًا ينهضُ من أركان العالم الأربعة، بلا راياتٍ، وبلا مستقبل، وأمله الوحيد هو الانتحار"[11]. تلك الخشونة في الجسد، كانت أقرب شبهًا لرُكَبٍ تسيبُ لا لحظة موت العصفور، بل لحظة معرفة أنّه قد مات، فلا هي انهارت، ولا هي أكملت فاعليّتها، إلّا شكليًّا؛ فالجسد ظلّ واقفًا في نهاية العرض، وإن انحنى قليلًا.

لم يجئ الهبوط من عَلٍ، ذلك الذي جلستُ أنتظره على تراس ينتمي لعمّان الشرقيّة قدر انتمائه للغربيّة، ولا عزاء لنغمة ثانية ظلّت تهشّ إليها النفس، حتّى طلعت عند ابن سينا "لأن لتأليف الصوت خاصية ليس لسائر التأليفات، وذلك لأنّ النغمة الأولى من النغمتين المؤلفتين مثلا، تهش إليها النفس، هشاشتها لكل جديد من المستحبات الواصلة إليها، ثم تتحرك بعد انخزالها لما يسرع فواته، مما يعز على النفس حصوله، ثم يتدارك ذلك الانخزال، ويتلافى ذلك الانكسار، طلوع نغمة أخرى كأنها تلك الأولى، معاودة في معرض آخر، له نسبة مقبولة إلى المعرض الأول"[12]، وغابت عند ناصر، مخلّفةً فراغًا لم أستطع ملأَهُ بنفسي. وهكذا، ظلّ السقوط مؤجّلًا، واللذة أملًا لا رجاءً قابلًا للتحقّق، وما أحسستُ بأنّ حدوثه ملائمٌ بات ليلتها طاقةً مفتوحةً على فقد بحجم السماء.

 

الفنّ بين المسؤولية والناشطيّة

لعلّ الإحساس بالمسؤولية لدى ناصر، ما أسميته ناشطيّة في البداية، هو ما كان غائبًا عنّي. لعلّ بقاءه واقفًا يقاوم السقوط، عن وعيٍ أو بغيابه، هو عينُ ما وصفَتْهُ جوديث بتلر يومًا بالقول "تصادفنا كلمة أخرى، صفعة، أي مخاطبة أو تسمية تؤدي فجأة وعلى نحو لا تفسير له إلى ذبحنا، وحتى عندما يبقى الإنسانُ حيًّا بوصفه هذا الكائن الذبيح فإنّه يمضي في الكلام، ويا للغرابة!"[13]، لعلّ هذه المفارقة -بإدراك أنّ المذبوح بات زومبي، ماتَ، لكنّه "يا للغرابة!" لم يمُت، بل احتفظ بالقدرة على الكلام- هي ما أعطت ركبتيه التوازن الذي احتاجتاه كيلا ينفجر في البكاء، أو يستسلم للأرض، رغم أنّه استسلم لها نومًا في نهاية العرض، تمامًا مثلما ابتدأ، ليكمل دائرةً ما كان لها أن تنتهي على هذه الشاكلة، أو هكذا أحسب.

(بإذن من مؤسسة مَماغ)

أعود لأفكّر بأنّني حسِبتُ أشياء كثيرة تبدّى خطؤها في نهاية المطاف، ربّما لغيرةٍ تتكشّف على هيئة إغلاقٍ للأعين، يعقبها تخيّلُ أنّ بوسعي أن أقدّم عرضًا كالذي قدّمه ناصر (بسهولة، مع طرقعة للأصابع)، لأفتحهما، فأجده واقفًا، بهيًّا، يُطالعني بعينين بريئتين عن كلّ ما سبق، ويقول لي بطريقة أودّ لو ألكمه بعدها: بحب نقعد، ونحكي أكتر.

أمّا أنا، فلا أحبّ يا ناصر.


الجمعة، 13 يوليو 2018

كارل أوڤه كناوسغارد: العيش في عالم الكلمات




* مقطع مُترجم من الجزء الثاني من رواية كفاحي للنّرويجي كارل أوڤه كناوسغارد. المقطع من صفحة 34 حتّى صفحة 41. 


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كان إيريك يتمايل مع الموسيقى، التفت، غمز لي ثمّ ذهب إلى المطبخ. في تلك اللحظة رنّ جرس الباب. لقد كان لينَس وابنه أخيل. ثبّتَ لينَس كيسَ تبغٍ أسفل شفته العليا، وكان مُرتديًا بنطالًا أسودَ، ومعطفًا داكنًا وأسفله قميصًا أبيضَ. كان شعرُه الأشقر مُشعثًا بعض الشيء، وعيناه اللتان تُحدّقان في الشقّة صادقتان وساذجتان.

"مرحبا" قال. "كيف حالك؟"

"بخير" قلتُ. "وأنت؟"

"آه، في تقدّم".

أخيل، الذي كان صغيرًا بعيونٍ داكنة وكبيرة، أخذ يخلع سترته وحذاءه بينما يتطلّع إلى الأطفال خلفي. الأطفال كالكلاب، دائمًا ما يجدون ضالّتهم وسط الحشود. بادلته ڤانيا النظرات. لقد كان المُفضّل عندها، لقد كان من اختارته ليلعب دور الإسكندر. لكن بعدما خلع ملابسه الخارجيّة توجّه مباشرة صوب الأطفال الآخرين، ولم يكن باستطاعة ڤانيا فعلَ شيءٍ لإيقافه. تسلّل لينَس إلى المطبخ، ولعلّ الوميض الذي خِلتُ أنّني التقطته في عينيه لم يكن سوى تطلُّعٍ للدردشة.

نهضتُ ونظرتُ إلى هايدي. كانت تجلسُ بجانب نبتة الزنبق أسفل النافذة، تأخذ الترابَ من الأصيص لتصنع أكوامًا صغيرةً منه على الأرض. توجّهتُ صوبها، حملتُها، كاشطًا ما استطعتُ بيديّ، ثمّ ذهبتُ إلى المطبخ باحثًا عن خِرقة. لحقتني ڤانيا. وحالما وصلنا، قفزت إلى حضن ليندا. في غرفة المعيشة بدأت هايدي بالبكاء. رمتني ليندا بنظرةٍ مُحيّرة.

"أنا سأتفقّدها" قلتُ. "فقط أحتاجُ شيئًا لأمسحَ به".

تجمهر النّاس حول منضدة ]صنع الطعام[، بدا الأمر كأنّ وجبة قيد التحضير، وبدلًا من حشر نفسي بينهم، ذهبتُ إلى الحمّام، قطعتُ لفّةً كبيرة من ورق الحمّام، رطّبتها أسفل الصنبور وعدتُ قاصدًا غرفة المعيشة ]لأكمل[ التنظيف. رفعتُ هايدي، التي لم تزل تبكي، وحملتها إلى الحمّام لأغسل يديها. لقد تلوّت وتشنّجت بين قبضتيّ.

"هوّني عليكِ، حبيبتي" قلتُ. "سننتهي سريعًا. تحمّلي قليلًا، الآن، أوك. ها قد انتهينا". هدأ البكاء حالما خرجنا، لكنّها لم تكن مسرورة تمامًا، كما لم تشأ أن أنزلها أرضًا، أرادت فقط أن تظلّ بين ذراعيّ. وقف روبن في غرفة المعيشة مصالبًا ذراعيه متتبّعًا حركات ابنته تيريزا، التي كانت تكبر هايدي ببضعة شهور، إلّا أنّها كانت تستطيع التلفّظ ببضع جمل.

"مرحبا" قال. "تكتب شيئًا هذه الأيّام، أليس كذلك؟"

"بلى، قليلًا" قلتُ.

"هل تكتبُ في المنزل؟"

"أجل، لديّ غرفة تخصّني."

"أليس ذلك صعبًا؟ أعني، ألا يعنُّ لكَ أبدًا أن تشاهد التلفاز أو أن تغسل بعض الملابس أو أيّ شيء، عوضًا عن الكتابة؟"

"لا بأس بذلك. لا أملك وقتًا كثيرًا كما لو أنّني أمتلك مكتبًا، لكن..."

"أجل، بالطبع" قال.

لديه شعرٌ أشقر طويلٌ قليلًا ومجعّدٌ عند مؤخرة عنقه، عيناه زرقاوان تمامًا، أنفٌ مسطّح، وفكّان عريضان. لم يكن قويًّا، ولا ضعيفًا كذلك. كان يلبس كما لو أنّه في منتصف سنواته العشرين، رغم كونه في أواخر الثلاثين. ليس لديّ فكرةٌ عمّا يدور في خلده، ولا أدنى فكرة عمّا يفكّر به، وحتّى اللحظة لم يكن هنالك شيءٌ خفيٌّ فيه. بل على العكس، أعطى وجهه وهالته انطباعًا بالمقروئيّة. رغم ذلك، ثمّة شيءٌ آخر، حدستُ ظلَّ شيءٍ آخر. كانت وظيفته مُعايشة اللاجئين مع المجتمع، كما أخبرني مرّة، وبعد بضعة أسئلة متتابعة عن عدد اللاجئين المقبولين في البلد وخلافه، تركتُ المسألة لأنّ الآراء و]شكل[ التعاطف الذي أملكه كانا بعيدين جدًا عن المعايير التي افترضتُ أنّه يمثّلها والتي ستبرزُ عاجلًا أم آجلًا، وعندئذ سأبدو بمظهر الشرّير أو الغبي، ما لم يُعطِني سببًا ]لإكمال الحوار[.

ڤانيا، التي كانت تجلس على الأرض بعيدًا بعض الشيء عن بقيّة الأطفال، نظرت صوبنا. أنزلتُ هايدي أرضًا، ثمّ بدا كأنّ ڤانيا انتظرت هذا: انتهضت مرّة واحدة ثمّ اقتربت، أمسكت بيد هايدي وأخذتها إلى رفّ الألعاب، وأعطتها هناك حلزونًا خشبيًا بقرون استشعار تصدر طنينًا حين تسحبه على الأرضيّة.

"هايدي، انظري" قالت، ثمّ أنزلته من يدها واضعةً إيّاه على الأرض. "تسحبين الخيط هكذا. فتصدر طنينًا. أترين؟".
شدّت هايدي الخيط ودفعت. فانقلب الحلزون على رأسه.
"لا، ليس كذلك" قالت ڤانيا. "سأريكِ".
عدّلت من وضع الحلزون وسحبته أمتارًا قليلة.

"لديّ أختٌ صغيرة!" قالت بصوتٍ عالٍ. اتّجه روبن صوب النافذة. إذ وقف مُحدّقًا في الباحة الخلفيّة. ستيلّا، التي كانت نشيطة وحيوية أكثر من المفترض بحكم أنّها حفلتُها، هتفت بحماس شيئًا لم أتبيّنه، مؤشّرة صوب واحدة من البنتين الصغيرتين، اللتين سلّمتاها الدّمية التي كانتا تمسكانها، أخرجت عربة أطفالٍ صغيرة، وضعت الدّمية فيها وأخذت تجرّها أسفل الرّواق. وجد أخيل طريقه إلى بنجامين، وهو طفلٌ يكبر ڤانيا بثمانية عشر شهرًا وغالبًا ما ينغمس بعمقٍ في أمرٍ ما، برسمة أو كومة ليغو أو سفينة قراصنة بقراصنة بلاستيكيّة. كان مُبدعًا، مستقلًا ومهذّبًا، وها هو يجلس مع أخيل الآن، مكملين بناء سكّة الحديد التي بدأناها أنا وڤانيا. الطفلتان الصُّغريان ركضتا خلف ستيلّا. هايدي كانت تتذمّر. أغلبُ الظنّ أنّها جائعة. ذهبتُ إلى المطبخ وجلستُ بجانب ليندا.

"هلّا ذهبتِ وراقبتهما قليلًا؟" سألتُ. "أظنّ أنّ هايدي جائعة". أومأت، ربّتت على كتفي ونهضت. أخذتُ بضع لحظاتٍ لأتبيّن موضوع الحوارين الدائرين حول الطاولة. الأوّل كان عن تشارك السّيّارات، الثّاني كان عن السّيّارات، ولقد استنتجت أنّ الحوارين قد انتهيا في اتجاهين معاكسين. الظلام خارج النوافذ كان حالكًا، النّور في المطبخ كان مقتصدًا، التجاعيد في الوجوه السّويدية حول الطاولة كانت قابعة في الظلّ، وأخذت العيون تلمع في وهج الشّموع. إريك وفريدا وامرأة لا أتذكّر اسمها كانوا واقفين إلى منضدة الطعام مديرين ظهورهم لنا، يعدّون الطّعام. الحنان الذي شعرتُ به تجاه ڤانيا ملأني حدّ البكاء، لكن لم يكن هناك شيءٌ بإمكاني القيام به. ألقيتُ نظرةً على من يتحدّث، مُقدّمًا ابتسامةً باهتة كلّما لاحت طرفة راشفًا من كأس النبيذ الأحمر الذي وُضِع أمامي.

أمامي مباشرة كان الشخص الوحيد المُتميّز ]عن البقيّة[. وجهه كبير، ثمّة نُدَبٌ على خدّيه، ملامحه خشنة، وعيناه حادّتان. يداه ]الموضوعتان[ على الطاولة كبيرتان. كان يرتدي قميصًا من طراز سنوات الخمسين وجينزًا أزرقَ مكفوفًا حتّى ربلة الساق. شعره كان يمثّل سنوات الخمسين تمامًا، وقد كان يتسلّى بما على منضدة الطعام. لكن ليس ذلك ما جعل منه مختلفًا؛ لقد كانت شخصيته، بإمكانك أن تشعر بجلوسه هناك، رغم كونه لم ينطق كثيرًا.

مرّة كنتُ في حفلٍ في ستوكهولم حيث تواجد فيها ملاكمٌ. كان يجلسُ في المطبخ، حضوره الجسديّ ملموسٌ، وقد ملأني بإحساسٍ مميّز لكنّه غير مريحٍ بالنقص. شعورٌ بأنّني كنتُ أقلّ منه. والغريب، أنّ تلك الليلة أصرّت أن تثبت كلامي. صاحبة الحفل كانت صديقة ليندا، كورا، بيتها كان صغيرًا، لذا وقف الجميع للدردشة في كلّ مكان. كانت الموسيقى تصلنا صاخبة من غرفة المعيشة. في الخارج، كانت الشوارع بيضاء من الثلج. كانت ليندا حُبلى بشدّة، ولعلّها الحفلة الأخيرة التي كان بمقدورنا الذهاب إليها قبل أن يُولد الطفل ويُغيّر كلّ شيء، لذا رغم كونها متعبة، أرادت أن تجرّب وتبقى هناك لمدّة. كان لديّ قليلٌ من النبيذ بينما أدردشُ مع توماس، الذي كان مُصوّرًا وصديقًا لغيير؛ كان يعرفُ كورا من خلال شريكته، ماري، وقد كانت شاعرةً إضافة إلى كونها أحد مرشدي كورا في ثانويّة بِسكوبس-آرنو الشعبيّة Biskops-Arnö Folk High School. كانت ليندا تجلس على كرسيّ سُحب من وراء الطاولة بسبب بطنها، كانت ضحوكةً وسعيدة، ولعلّي كنتُ الشخص الوحيد المُدرك للانطواء الطفيف والحماسة الباهتة التي سيطرت عليها خلال الأشهر القليلة الماضية. نهضت بعد قليلٍ وانتقلت ]إلى مكانٍ آخر[، ابتسمتُ لها وأعدتُ انتباهي إلى توماس، الذي كان يقول شيئًا عن جينات ذواتِ الشعر الأحمر، المتواجدات بكثرة ذلك المساء.

ثمّة أحدٌ يطرُق.

"كورا" ]هكذا[ سمعت. "كورا!"

هل كانت ليندا؟

نهضتُ وتحرّكتُ صوب الرواق.

كان الطرقُ قادمًا من داخل الحمّام.

"أهي أنتِ، ليندا؟" سألت.

"نعم،" قالت. "أعتقد أنّ قفل الحمّام قد علق. هل تستطيع أن تجلب كورا؟ لا بد من وجود طريقة ]لفتحه[."

ذهبتُ إلى غرفة المعيشة ونقرتُ كتف كورا. كانت تحمل طبقًا من الطعام في يدٍ وكأسًا من النبيذ الأحمر في الأخرى.

"ليندا محبوسةٌ في الحمّام" قلتُ.

"أوه لا!" قالت، ثمّ أنزلت الكأس والطبق وخرجت.

تجاذبتا الحديث بُرهةً عبر الباب الموصد. حاولت ليندا اتّباع التعليمات التي أُعطيت، لكنّ شيئًا لم ينفع، كان وما زال الباب عالقًا. كان جميع من في الشّقّة مُدركًا لطبيعة الموقف، وقد صار المزاج خليطًا من المُتعة والحماسة، أخذ قطيع كامل من البشر الواقفين في الرواق الإدلاء بنصائحهم لليندا وكورا، وبذهولٍ وقلق، ظللتُ أذكّر أنّ ليندا حبلى بشدّة، وأنّ علينا فعل شيءٍ بسرعة. توصّلنا أخيرًا إلى الاتصال بحدّادٍ مختصٍّ بالأقفال. وبينما نحن في انتظاره وقفتُ بجانب الباب مُحدّثًا ليندا ]العالقة[ في الداخل، منزعجًا من وعيي لحقيقة أنّ باستطاعة الجميع أن يسمع ما أقول و]يدرك[ قلّة حيلتي. ألا أستطيع أن أركل الباب وأخرجها؟ ببساطة وفاعلية؟

لم أركل بابًا من قبل قط. لم أكن أعرف مدى صلابته. تخيّل لو أنّه لم يتزحزح. كم سيبدو ذلك غبيًا؟

وصل الحدّاد بعد نصف ساعة. بسط حقيبة أدوات من القماش على الأرض وبدأ يعبث بالقفل. كان صغيرَ الحجم، يرتدي نظّارات ولديه بدايات صلعٍ، لم يقل شيئًا للدائرة المتجمهرة حوله، جرّب أداة تلو الأخرى بلا فائدة، لم يتزحزح القفل اللعين. في النهاية، أعلن استسلامه، مُخبرًا كورا أنّ الأمر بلا فائدة، لم يستطع فتح الباب. 

"ماذا علينا أن نفعل إذن؟" سَأَلَتْ كورا. "ستُنجب قريبًا!".

هزّ كتفيه. "عليكم أن تركلوه" قال، ثمّ بدأ يلُمّ أدواته.

من كان سيركله؟

يجب أن يكون أنا. فأنا زوج ليندا. إنّها مسؤوليّتي.

كان قلبي يخبط بشدّة.

هل عليّ فعلها؟ أن آخذ خطوة للوراء أمام مرأى الجميع وأركله بكلّ ما أوتيت من قوّة؟ ماذا لو لم ينفتح الباب؟ ماذا لو انفتح وضرب ليندا؟

سيكون عليها أن تحتمي في الزاوية.

بهدوء، أخذت شهيقًا وزفيرًا بضع مرّات. لكن دون فائدة، ما زلتُ أرتجف من الداخل. جلبُ انتباهٍ مثل هذا شكّل لعنة بالنسبة لي. وكان ليصير الوضع أسوأ مع المخاطرة بالفشل.

نظرت كورا في الأرجاء.

"علينا أن نركل الباب" قالت. "من يستطيع فعلها؟"

اختفى الحدّاد ]منسّلًا[ عبر الباب. إذا كان سيقع الاختيار عليّ، فقد حان الوقت لأتقدّم.

لكنّي لم أستطع إجبار نفسي على فعلها.

"ميكي" قالت كورا. "إنّه ملاكم."

استدارت لتجلبه من غرفة المعيشة.

"بإمكاني سؤاله" قلتُ. والحال كذلك لن أخفي عارًا على أيّ حال، سأقول له مباشرة إنّني، بوصفي زوج ليندا، لم أجرؤ على ركل الباب، وإنّني أسأله، بوصفه ملاكمًا وعملاقًا، أن يقوم بذلك عوضًا عنّي.

كان يقف بجانب النافذة بيده ]كأس[ بيرة ويدردش مع فتاتين.

"مرحبًا، ميكي" قلتُ.

نظر تجاهي.

"ما زالت عالقة في الحمّام. لم يستطع الحدّاد فتح الباب. بإمكانك ركله، ألا تعتقد؟"

"بالطبع" قال، حدّق بي لحظة ثمّ أنزل البيرة واتجّه صوب الرواق. تبعته. ابتعد الناس جانبًا بينما يشقّ طريقه صوب الباب.

"ألا زلتِ في الداخل؟" سأل.

"بلى" قالت ليندا.

"قفي في أبعد نقطة تستطيعينها عن الباب. فأنا بصدد ركله"

"بالطبع" قالت ليندا.

انتظر للحظة. ثمّ رفع قدمه وركل الباب بقوّة أسقط معها القفل داخل الحمّام. تناثرت شظاياه.

حين خرجت ليندا، صفّق بعض الناس.

"أيّتها المسكينة" قالت كورا. "أنا آسفة. تعريضك لأمر كهذا. ثمّ..."

استدار ميكي وذهب.

"كيف حالُكِ؟" سألت.

"بخير" قالت ليندا. "لكنّني أعتقد أنّ علينا العودة إلى المنزل بأسرع وقت."

"بالطبع" قلت.

أُخفضت الموسيقى في غرفة المعيشة لأن امرأتين في أوائل الثلاثين كانتا على وشك قراءة قصائدهما المُتدفّقة. أعطيت ليندا معطفها، لبستُ خاصّتي، ودّعتُ كورا وتوماس، ذبل ]الإحساس[ بالعار في داخلي، لكن بقيت المهمّة الأخيرة، كان عليّ أن أشكر ميكي لما فعل. شققتُ طريقي وسط جمهور الشّعر وتوقّفتُ عند النافذة أمامه.

"شكرًا جزيلًا" قلتُ. "لقد أنقذتها".

نفخ خدّيه وهزّ كتفيه. "إنّها مسألة بسيطة".

في التاكسي في طريق العودة لم أكد أنظر صوب ليندا. لم أكن على قدر المسؤوليّة. كنتُ جبانًا حدّ تركي المهمّة لشخصٍ آخر، وقد كان كلّ ذلك واضحًا في عينيّ. لقد كنتُ ضعيفًا بائسًا.

سألتني حين كنّا في السّرير عن خطبي. قلتُ لها إنّني شعرتُ بالخجل لأنّني لم أخلع الباب. نظرت لي باندهاش. لم تخطر الفكرة لها حتّى. لماذا كان عليّ ذلك؟ فهذه ليست طبيعتي، أم إنّها كذلك؟

أشاع الرّجل الجالس في الجهة المقابلة من الطاولة المشاعر ذاتها التي أشاعها الملاكم في ستوكهولم. ليس للأمر علاقة بحجم جسده أو كتلته العضليّة، وعلى الرغم من أنّ العديد من الرجال هنا كانت أجسادهم من الأعلى قويّة ومدرّبة تدريبًا جيّدًا فما زال تأثيرهم قليل الشأن، كان حضورهم عابرًا وضئيلًا مثل فكرة عارضة. لا، ثمّة شيءٌ آخر، وكلّما واجهتُ ذلك الشيء ازداد الأمر سوءًا، إذ أرى نفسي بوصفي ذلك الضعيف مسلوب الإرادة الذي كنتُ عليه، الذي عاش حياته في عالم الكلمات.


الخميس، 5 أبريل 2018

النظر في عينيّ كناوسغارد*





"بِمَ التّعَلّلُ لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكَنُ

أريدُ من زمني ذا أن يبلّغني
ما ليس يبلغه في نفسه الزمنُ"
-          المتنبّي

ببليوجرافيا

قبل الأخذ في الحديث عن كارل أوفه كناوسغارد، وروايته "كفاحي"؛ كناوسغارد روائي نرويجيّ، وُلِد عام 1968 (50 عامًا). نشر روايته الأشهر "كفاحي – Min Kamp" في ستّة أجزاء بين عامي 2009 و2011. وترشّح عنها 3 مرّات لجائزة الإندبندنت للأدب المُترجم للإنجليزية أعوام 2013 و2014 و2015 قبل أن تُدمج الجائزة مع جائزة المان بوكر العالميّة. نشر في بداياته روايتين، هما "خارج العالم – Out of the world" (1998)، و"وقتٌ لكلّ شيء – A time for everything" (2004). كما نشر مؤخّرًا رباعيّة سمّاها بأسماء فصول السنة، يجمع فيها رسائل لابنته التي لم تكن قد وُلدت ساعة الكتابة، ونصوصًا عن العالم الخارجي، الموضوعي كما يقول، إذ يحاول الكتابة بتجريدٍ عن أشياءَ عيانيّة، مثل: التفاح، سيارات الإسعاف، البول، الأسنان، العناوين. وغيرها. الجزء الأول من "كفاحي"، المعنون ب "موت في العائلة" (ترجمة الحارث النبهان عن دار التنوير)، هو أول أعماله بالعربيّة، وسيلحقه باقي أجزاء الرواية الستة تباعًا، والتي، باختصارٍ مخلّ، تسرد قصّة حياة الكاتب، "كفاحه" مع الحياة اليوميّة، الأشياء الصغيرة والتافهة كما يقول، أو النقيض الكلي لما كافح هتلر من أجله. 

أشاعت روايته هذه ضجّةً كبيرة، وقد نعدُّ أسبابًا كثيرة ساهمت في هذا الضجيج: تطابق عنوان الرواية مع عنوان كتاب هتلر، الكتابة عن أناس وأحداث حقيقيّة، الكثير من المقارنات مع رواية بروست "البحث عن الزمن المفقود" لتشابهات خارجيّة على الأقل، فكلا الروايتين طويلتان جدًّا، وكلاهما عن حياة الكاتبين الشخصيّة. أضِف مساهمة المعترضين من عائلته على جعلهم مواضيع في روايةٍ، ترسم صورة لهم لا تعجبهم، سواء أمام أنفسهم أم أمام الآخرين، في ذلك الضجيج. بإمكان كل تلك الجلبة أن تجلب الشهرة، كما حدث ويحدث مع كُتّابٍ من أمثال ميشيل ويلبيك في فرنسا أو أشرف الخمايسي في مصر. أسبابٌ خطأ، تحجب الرؤية عن الرواية نفسها، وعن إمكان قراءتها بهدوء. لذا لا بُدّ من عودةٍ إلى المتن، إلى الرواية نفسها، للبحث عن جودةٍ ما، أو عدمها.



عجزٌ معرفيّ

سأبدأ، محاولًا التماهي مع فضائحية كناوسغارد، بفضح نفسي، وبسردٍ قد يقال عنه تافهًا، زائدًا، أو أيًّا من مفردات الخفّة. قرأتُ الرواية أثناء دراستي في فنلندا. كلُّ شيءٍ في ذلك البلد يوحي بالموت: ليلٌ طويل، هدوء قاتل، بردٌ يجمّد الجسد والمشاعر، وكثيرٌ من اللاجئين المرفوضين. أردتُ قراءة رواية تحاكي هذا المشهد، ظنًّا منّي، بسذاجة من يصف شرق الآسيويين جميعهم بالصينيّين مثلًا، أنّ النرويج تشبه فنلندا. إذ ما هي اسكندنافيا غير ما ذكرته آنفًا: موتٌ يعلوه موت؟ اختزالٌ معيب. لكن، ما لم أحسب حسابه، أنّ الرواية تكرّس ذلك الإحساس بالضيق، كأنّ كناوسغارد لا يكتب عن الموت، الصمت، الثلج، القلق. بل يكتب تلك الأشياء نفسها، جوهرها. تصير الكتابة نفسها، محاولة طويلة في التجريد، لدرجة يصعب معها إيجاد لغة للحديث عنها.

زيادةً أو إمعانًا في ذلك، لم أشعر بعجزٍ معرفيّ في حياتي أكثر من ذاك الذي عشته بعد انتهائي من الجزء الأوّل من الرواية. يرين صمتٌ بيني وبين أيّ شخصٍ أحدّثه عن الرواية لحظة يسألني عن رأيي بها: ثمّة شيءٌ أحدسه، كما الزمن عند القدّيس أوغسطين، كما الحبّ عند باتريك زوسكند1، أعرفه، وحين آتي لأتحدّث عنه، يصير ماءً. مثلًا، قد أجد شيئًا لأقوله لو أنّني قرأتُ "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، لكنّني لم أقرأها. قد أجد شيئًا أقوله لو قرأتُ أكثر لميشيل فوكو أو أدورنو كما اقترحت مراجعة للرواية على موقع goodreads، لكنّني لم أقرأ كفاية من أعمالهما لأقول شيئًا يستحقّ. لكنّني مثل مسيحٍ أعمى، أصرُّ على المشي فوق الماء، مخاطرًا بالبلل، وبلا أملٍ أن يستحيل الماء بين يديّ نبيذًا.


في التباس الصيغة، وأهمّيّة الانطباع

يتّخذ الجزء الأوّل من الرواية الموتَ ثيمة له؛ موت أبي كناوسغارد نفسه مدارًا للكتابة. لكنّها ليست عن موته فقط، ثمّة أجزاء يعود فيها إلى جذور علاقته بأبيه، إلى وعيه الأوّل به: حزمه، لحظات الحنان النادرة التي صدرت عنه تجاه ابنيه، انحداره الوئيد صوب الكآبة حتّى انتهى به الأمر مدمنًا على الكحول التي قتلته تاليًا. كما تتحدّث الرواية عن الكتابة، علاقة الكاتب مع الكحول والنساء، علاقته بأخيه وأمّه وجدّته وأقربائه، وأخيرًا ما يربو على ال100 صفحة من التنظيف؛ تنظيف البيت الذي تُوفّي فيه والده.

يبدأ كناوسغارد الجزء الأوّل من روايته "كفاحي – موتٌ في العائلة" بمقطع سرديّ طويل عن الموت، منفصل بقدر ما هو مربتطٌ بأحداث الرواية. يتحدّث فيه عن الموت بصفته شبهة، نحاول درأها بعيدًا عن أعيننا ما استطعنا. ويضرب أمثلة على ذلك: ثلّاجات المستشفى دائمًا ما تكون بعيدة عن أعين الزائرين، ودائمًا في الطوابق السفلى؛ إن مات أحدهم في مكانٍ عام ("فتاة صغيرة ينتهي بها الحال تحت عجلات حافلة نقل" مثلًا، كما يقول)، نسارع أبدًا إلى تغطيته حتّى يُؤخذ بعيدًا عن الأعين إلى المستشفى. لم أقف كثيرًا عند المقطع حين قرأته أوّل مرّة، لكنّني أعود إليه الآن محاولًا البحث عن أيّ رابطٍ يجمعه بالرواية. يقول مثلًا: "ما سبب هذا الاستعجال كلّه من أجل إبعاد جثثهم عن أعين الناس؟ أهي اللياقة؟ ما الشيء الذي يمكن أن يكون لائقًا أكثر من السماح لأم فتاة، أو لأبيها، برؤيتها ساعة إضافية، برؤيتها مستلقية في موقع الحادث نفسه، ظاهرةً كلّها... رأسها المُحطّم وبقيّة جسدها، وشعرها الملطّخ بالدم، وسترتها المبطّنة النظيفة؟ مرئية للعالم كلّه، من غير أسرار، مثلما هي! لكن، حتى هذه الساعة الواحدة في الثلج أمرٌ لا مجال للتفكير فيه. المدينة التي لا تحفظ موتاها بعيدًا عن الأنظار، التي تترك الناس حيث يموتون.. على الطرق السريعة والطرق الفرعيّة وفي الحدائق ومواقف السيارات، لا تكون مدينة، بل جحيمًا"2. المُحيّر، أنّ هذا المقطع يقول الكثير عن الرواية، أو عن "الصيغة" التي كُتبت بها على حدّ تعبير الكاتب. طوال قراءتي، كنتُ أحاول وضع يدي على طريقة/أسلوب/صيغة كُتبت بها الرواية، لكن عبثًا حاولت (وثمّة احتمالٌ كبيرٌ أن يعود السبب لقلّة معرفتي، واطلاعي على الروايات)، إذ كنتُ ببحثي أتقمّص صوت كناوسغارد وهو يتساءل عن جثّة الفتاة/الصيغة التي يُسارَعُ إلى إخفائها، كلّما لاح طيفُ جسدها. المُحيّر كذلك، مقطعٌ ورد في الرواية، يفرّق فيه الكاتب بين الصيغة والأسلوب (ولا أعلم إن كان هنالك لبسٌ سببه الترجمة): "بل هو شرط الكتابة الوحيد، يجب أن يخضع كلّ شيء لصيغة الكتابة. إذا كان أيّ عنصرٍ آخر من عناصر الأدب أقوى من الصيغة، كالأسلوب أو الحبكة أو الفكرة... إذا استطاع أيٌّ من هذه العناصر أن يتحكّم بصيغة الكتابة فإنّ النتيجة بائسة. هذا ما يجعل الكُتّاب أصحاب الأسلوب القوي يكتبون كتبًا ضعيفة أكثر الأحيان. إنّه أيضًا ما يجعل الكتّاب أصحاب الأفكار القويّة يكتبون كتبًا سيئة أغلب الأحيان. لا بدّ من تحطيم الأفكار القويّة والأسلوب القوي حتّى يتمكّن الأدب من الوجود. هذا التحطيم ما يطلق عليه اسم "الكتابة". الكتابة قائمة على التحطيم أكثر ممّا هي قائمة على الخلق"3.

يمكنك أن تحدس فقط كيف تتمّ الأمور، إذ يمكن أن تمرّ صفحات عديدة وأنت مدركٌ لكلّ النقلات، تعرف المكان والزمان الذي يدور فيه المشهد، لكن ذكرى وحيدة، قادرة أن تسحبك معها إلى داخل كثيّب من الاستطراد يلتبس معها كلّ ما حولك. حتّى وإن كنّا نتعامل مع سيرة ذاتية هنا، تظلّ الكتابة محكومة بالذاكرة، بالتالي وإن بدت الأشياء حقيقيّة، تظلّ مخترعة، بالأخصّ المشاعر. ولعلّ أحد الأشياء التي أرادها كناوسغارد من روايته هذه، هي الانطباعيّة: أن نحيّد العقل قليلًا، ألّا نتّخذ موقفًا واضحًا إزاء ما نقرأ، وأن نتقلّب كما تتقلّب الشخصيّات والأحداث والمشاعر، وخاصّة الأخيرة، فهي متغيّرة وغير قارّة أبدًا. فـ"المشاعر كالماء. إنها تتكيف دائمًا مع ما يحيط بها. حتّى أشدّ الأحزان لا يترك أثرًا خلفه... عندما يبدو الحزن طاغيًا ويستمر زمنًا طويلًا جدًا، فإن هذا ليس لأن مشاعر الحزن قد استقرّت هناك، وليس لأنها تستطيع أن تستقرّ. إنها تقف ساكنة في مكانها مثلما يقف الماء ساكنًا في بركة في الغابة"4.



موت العائلة

في أحد حواراته يقول كناوسغارد: "تُعدّ الكتابة وسيلة لطرد الخجل. حين تكتب، فالفكرة كلّها كيف تصير حرًّا. مِمَّ تصيرُ حُرًّا؟ من الناس الذين يبحلقون بك. أعتقد أنّ الخجل يلعب دورًا رئيسًا في الحياة الاجتماعيّة. إنّه ينظّم كلّ شيء ويجعل الناس يتصرّفون بأدب ولياقة تجاه بعضهم البعض. لكنّني أملك الكثير منه، جرعاتٍ مفرطة. أنا مقيّدٌ للغاية وليس بوسعي فعل شيءٍ". في حوارٍ آخر، يقول "من خلال تجربتي، حين تكتب فأنت تريد الحقيقة، كما لا تريد أن تعتذر بأيّة طريقة". نحنُ هنا إزاء فكرتين، الأولى هي الحجاب الذي يخلقه هذا الخجل "بجرعاتٍ مفرطة"، والثانية هي الكشف الذي يتحقّق، إن تحقّق، بالكتابة، بدافع التحرّر كما يقول الكاتب. أمّا مسألة اللياقة التي تحدّث عنها، فإنّها أمرٌ ثانوي، خاصّة إن قيلت الحقيقة عاريةً، بلا أعذار. مسألة الحقيقة هذه إشكاليّة في رواية تنتقي مشاهدَ من حياة طويلة، باعتبارها الحقيقة كاملة (رغم عدم ادّعائه الموضوعيّة أبدًا، حتّى أنّ صوت كناوسغارد في الرواية يبدو أحيانًا أقرب لطفلٍ صغيرٍ بكّاءٍ لا يريد أن يكبر ويكتب ما كتب). يُحاول كناوسغارد إمساك سرديّة حياته، فإذا مورس عنفٌ عليه بعدم نيله الاعتراف من أبيه في طفولته، فإنّه الآن يعيد كتابة حياته كما رآها، وإن عنى ذلك أنّه بات من يمارس عنف كتابة حياة الآخرين فلا بأس، هذا عَرَضٌ تافه، لكنّه مطلوبٌ أيضًا، فالعودة للماضي، لبداية الوعي بالأشياء، قصدَ نيلِ الاعتراف ستظلّ حتمًا ناقصة دون هؤلاء الآخرين، الأحياء. الكتابة هنا لهم بقدر ما هي ليست لهم. لهم لأنّ كناوسغارد يريد أن يستعير لهم عيني أبيه، الذي لن يقرأ الرواية، ولن يعرف أن ابنه قادرٌ على اجتراح شيءٍ مهم. وليست لهم لأنّها عنيفة، تنزع عنهم خصوصيّتهم وتلقيهم في صحراء عرضها قرّاء كلّ اللغات التي تُرجمت لها الرواية، وأيضًا لأنّ اعترافهم به، إن تمّ، سيظلّ ناقصًا، فهم ليسوا أباه. الموت المشارُ إليه في العنوان "موتٌ في العائلة"، لا يشير إلى أبيه فحسب، بل يتمدّد ليشمل عائلته بأسرها.


خطر الحقيقة

يجب أن نسأل هنا، إن كان هذا حكمًا/إدانة  أطلقه/ـا كناوسغارد على عائلته؟ لكن قبل ذلك، لنعقد اتّفاقًا ونقول إنّ قول الحقيقة خَطِرٌ (وسأقول لماذا بعد قليل)، لا على مستوى العلاقات العائلية في هذه الحالة وحسب، بل لما ينطوي عليه من ادّعاءٍ أبعد من مجرّد الكتابة عن شيء مألوف بهدف طيِّ صفحته، ادّعاءٌ أو قل تصريحًا بكتابة شيءٍ مختلف، عظيم، الأمر الذي ذكره كناوسغارد صراحة أحيانًا: "يمكن أحيانًا أن يصير إحباطي مذعورًا، بل عدوانيًا أيضًا. عندما يتهدد الخطر بهذه الطريقة الشيء الذي جعلني أواصل السير خلال حياتي الناضجة كلها، الطموح في كتابة شيء استثنائي ذات يوم، تتملكني فكرة واحدة تقرض دماغي كأنّها فأر: فكرة أنّ عليّ الفرار."5، ومواربة أحيانًا أخرى: "لم يدرك أحد هذا الأمر أكثر من رامبو. ليس الأمر المتميّز عند رامبو هو أنّه توصّل إلى هذه البصيرة العميقة في سن مبكرة إلى حد مقلق بل إنّه طبقها على حياته أيضًا. عند رامبو، كان كلّ شيء متعلقًا بالحرية، في حياته كما في كتاباته. ولأنّ الحرية تأتي أولًا، تمكّن رامبو من وضع كتاباته خلف ظهره، بل ولعله وجد أن عليه أن يضع الكتابة خلف ظهره أيضًا لأنها تصبح بدورها قيدًا لا بُدّ من تحطيمه"6. قلتُ إذا اتفقنا، فقد "يكون قرار الإفصاح عن حقيقة ما يجول في الذاكرة والخاطر خطِرًا لأنّه، رغم احتمال تجميله الصورة بصفة الصدق، يبقى قابلًا لأن يصبح خطأً جسيمًا ولو بعد حين"7. كيف؟ بأن تخرج الكتابة رديئة. فما نفع كلّ هذا الكلام عن الصيغة، الحقيقة، إن كان ما نتحدّث عنه رديئًا؟ أو إن كانت كتابة صفراء مثلًا، لا تروم سوى البكاء، اللطم، وتسديد لكمة لأبٍ ميتٍ لن يقرأ أيَّ كلمة كُتبت؟ لكنّني متمسّكٌ بالقول إنّها لم تكن كذلك. إذا حوّرنا قليلًا فيما تقوله جوديث بتلر: "إن نظرتَ مثلًا في سؤال سيمون دي بوفوار "هل ينبغي إحراق ]الماركيز دو[ ساد (والد كارل أوفه كناوسغارد)؟" وجدت الأمور أكثر تعقيدًا. قد يكون الحال أننا لا نكون قادرين على التأمل الأخلاقي في إنسانيّة الآخر، حتّى عندما يكون ذلك الآخر قد سعى إلى محق البشريّة (طفولة كناوسغارد هنا)، إلّا بتعليق الحُكم عليه"8. لنعد الآن للسؤال، إن كان هنالك أيّة إدانة قد أطلقت هنا؟ سأتشجّع وأجيب بنعم إزاء عائلته، ولا إزاء أبيه. يقول كناوسغارد في حوارٍ (مذكورٍ سالفًا): "ثمّة من يكتب عنّي مؤخّرًا، وأنا فقط لا أستطيع تقبّل المسألة"؛ ويقول في موضعٍ في الرواية، وبعد أن يبدي حبّه لأطفاله، إنّه يريد شيئًا أكثر، لا يمكن للأبوة أن تجلبه؛ علاقته بأخيه إنغفه، قامت على التباين والاختلاف وربّما المنافسة منذ البداية؛ تساؤله عن مشاعره تجاه زوجته الأولى، تونجه، وتأكيده على لسانها حبّها له. أمّا فيما يتعلّق بأبيه، فرغم كلّ مساوئه، ورغم قول إنغفه لكناوسغارد (في الرواية) إنّه آخر من يجب أن يأسف لموت والدهما، ظلّ يبكيه، دون تبريرٍ، حين علم خبر وفاته.

ولعلّ هذا يفتح بابًا للتساؤل ما إذا كان سيكتب ما كتب تمامًا، لو أنّ أباه كان على قيد الحياة لحظة الكتابة. ومع ذلك، يبدو أنّه من المهمّ لكناوسغارد، أن يكتب، ويثبّت، سرديّة واحدة لحياته، لأسبابٍ قد تتعدّى الفنّ، ولننسى قليلًا عنفها وتضمينها الأحكام، إذ ثمّة، في الرواية وخارجها، جانبٌ طفوليّ يصعب تجاهله، دفاعٌ مستميت عن بقعة أرضٍ لا تتجاوز مساحة قدميه.



تماهٍ أخير

تماهيًا، مجددًا، مع انطباعيّة الرواية التي أزعم، أريد استعارة بعض معايير الشعر الجيّد التي تحدّث عنها الجاحظ في كتابه "كتاب الحيوان"، نفس المعايير التي يؤخذ عليها انطباعيّتها أحيانًا. اختصارًا للحادثة، فقد انزعج الجاحظ مرّة من إعجاب شيخٍ ببيتين من الشعر حتّى قام بتدوينهما، وقال قولته الشهيرة عن كون المعاني مطروحة في الطريق، ثمّ أتبع: "وإنّما الشأن في ]...[ كثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السَّبك، فإنّما الشعر (الرواية هنا) صناعة، وضربٌ من النسج، وجنسٌ من التصوير"9. وإذا كان كلام الجاحظ هذا يدفعنا للتفكير أكثر في ماهيّة الماء وطبيعة النسج المقصود وغيرها، فإنّ كناوسغارد أيضًا يدفعنا للتفكير أكثر في طبيعة الصيغة، أهمية قول الحقيقة، ربطها وفصلها بالأحكام، دون أن يلقي بالًا للسؤال المُتفشّي: كيف نكتب الرواية؟ ففي النهاية "ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَموتُ"10 أو تحيا.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*): الإشارة إلى مقال كتبه كناوسغارد في النيويورك تايمز بعنوان "لقد صرتُ أحدًا، انظر لي – I Am Somone, Look at Me".
(1): عن الحب والموت – باتريك زوسكند - ترجمة لطيفة الدليمي – دار المدى – ص27
(2): ص8-9 من الرواية.
(3): ص209 من الرواية.
(4): ص273 من الرواية.
(5): ص35 من الرواية.
(6): ص209 من الرواية.
(7): إرادة الكتابة – بلقيس الكركي – المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر -  ص147.
(8): الذات تصف نفسها – جوديث بتلر – ترجمة فلاح رحيم – دار التنوير & جامعة الكوفة – ص100.
(9): كتاب الحيوان / الجزء الثالث – الجاحظ – ص131-132، أو باب "القول في المعنى واللفظ".
(10): سورة لقمان – آية 34.